يطرح شاكر الأنباري نفسه في هذه الرواية كسارد ذاتي، ويتجلّى ذلك من خلال العنوان «أنا و..».، الأنا هي الشاهد، والمؤلف هو السارد، والسرد هو «استعادي نثري ينتجه شخص واقعي، مهتما بوجوده الخاص، ومركّزا على حياته الشخصية، وعلى تطور شخصيته بنوع خاص» (لوجون).. يصنّف عمل الأنباري ضمن مدار الكتابة عن الذات، أي عن حياته الخاصة، عن أفكاره وعواطفه، نجاحه وفشله، وعن أصدقائه وأشياء أخرى.. ويعطي معنى لكل ذلك من خلال تجربة روحية ونفسية تسكن الذات وحياة عاشها ردحا من الزمن، فنكاد نلمس أن الذات المبدعة تتحرك داخل المسافة النصيّة لتكوّن رؤية خاصة لها وللعالم، وذلك حينما تبدأ من لحظة حضور متقدة للإدراك، وتقف في حالة مواجهة مع الوعي الماضوي بكل ما يختزنه من تفاصيل.
هل نصنّف ما كتبه الروائي ترجمة ذاتية أَم رواية سيرة؟ وهل طغيان السرد الذاتي - السيري المحكوم بالأنا، يغمط حق السرد الروائي المتخيل؟
ندرك جيدا أن السيرة أو الترجمة الذاتية هي جنس أدبي مراوغ، يقترب من أجناس وأنواع أدبيّة أخرى كالمذكرات واليوميات والرسائل والشهادات، ويقترض بعض آليات عمل تلك الأنواع، أو نظمها الداخليّة وكذلك أشكالها التي تأثرت هي أيضا بالسيرة، باستثناء أدب الذات التوثيقي.
غير أن إيقاعات سرد السيرة الذاتية أدبيا تختلف من كاتب إلى آخر وفق أدوات وآليات السرد، فتروح كاشفة ومفسّرة للعمل من خلال الاسترجاع والاستشراف وطرح وجهات النظر والعلاقة بالآخرين، ويقوم الكاتب في نصه بعملية تلاقح وتمازج بين رواية حقيقية معاشة، هي روايته الخاصة، ورواية أخرى مفترضة أو متخيلة، ليس كما الرواية التي تعرّف بأنها كتابة تخلّقت من الخيال.
نحن هنا إذن حيال نص يستخدم وسائل تعبيرية موجودة في كتابة السيرة والرواية، فهو ليس سيرة ذاتية مجردّة ولا رواية وفق الشروط الروائية المتعارف عليها، بيد أن الفن الروائي يمتلك مرونة في تضمين السيرة الذاتية أجواء الرواية. ولكن كيف تنشأ هذه الكتابة؟ وعلى ماذا ترتكز؟
* رواية السيرة
السيرة الذاتية كتابة سردية تنتج من خلال علاقة الذات بالذاكرة، بل تعتمد كليا على الذاكرة التي تشيّد معرفة منتقاة بماضوية الأحداث، فـ«هي فن الذاكرة الأول، لأنها الفن الذي تجتلي فيه الأنا حياتها» - كما يشير جابر عصفور.. وهذا ما يقوله الأنباري عن نفسه بأنه «كتلة متحركة من الذكريات».. يتحوّل السارد إلى مستودع أحداث فاتحا صُنبور ذاكرته على نصّه من أجل التكاشف وإشراك الآخرين والبوح، ليدع ذاته بكلمات نيتشه: «تستريح من خلال ذكرياتها ومواجهتها».. ينجم عن ذلك أسئلة حول مصداقية ما هو مكتوب وانتقائيته وإمكانية تعرّضه للنسيان أو التناسي، للحذف والإضافة، للتعديل والتكييف، إذ إن كتّاب السيرة أحيانا يسلّطون على أنفسهم أضواء إيجابيّة مخفين بذلك بعض الحقائق والوقائع كما ينوّه والاس مارتن.. وقد لا يستغني النص عن التقريرية، أي يقترب من الوثيقة، فتسوده لغة التحقيق الصحافي، أو أسلوب البوح الحكواتي أو الانتقاء.. ويوضّح ذلك جورج مور في قوله: «إن المرء ليطالع ماضي حياته مثلما يطالع كتابا قد مُزِّقت بعض صفحاته وأُتلف منها الكثير».. ومن هنا يمكننا استجلاء آليات يعتمد عليها السارد في كتابته كالزمن والمكان والإيقاع.
تتكئ رواية السيرة على زمن خاص نفسي دون تقسيمات الزمن المعروفة، فالأنباري هنا يقتنص لحظة البدء بمهارة من تخوم الحدث حين يبدأ بزمنه من عودته الأولى للدنمارك قادما من بغداد، ثم يتنقل بزمنه الخاص في استرجاعات عديدة لأزمان أخرى في الدنمارك قبل تلك الرحلة، في العراق وإيران وكردستان وساوباولو وسوريا، دون الالتزام بالتراتبية الزمنية العادية، ليُنتج بذلك زمنا غير متجاور، متخيلا ومتداخلا في رسم وترتيب الصور السردية، يشكّل تاليا الزمن الذاتي الذي تدور حوله الأحداث انطلاقا من وجهة نظر السارد، الذي لا يدور في فلك التاريخ بل يدور التاريخ في فلكه، معتمدا على العناصر الأخرى كالمكان والإيقاع الذي يتضح من خلال تكرارات في العمل تدل عليه.
المكان المنتقى المتنقل نفسه، يكون إيجابيا تارة وسلبيا تارة أخرى (بلد غريب مع بشر لا يهمونني وأشجار لا أعرفها وشوارع منظمة أكثر مما أحتمل) و(مدينة تعتقد أني مختلف ولا أنتمي إليها) و(ما جدوى أن نعيش خارج الأوطان)؟.. لا يعرف السارد أين وكيف يعيش، لا مكان يصلح لوجوده جرّاء تشوّه يصيب ذاته وتخلخل يحلّ في روحه، فلا يرغب العيش في ثلاجة الغربة ولا في جحيم الوطن، لا في صقيع كوبنهاغن ولا في فرن بغداد، المدينة التي لا يكاد يعرفها، فهي بنظره (خزان للموت والعنف منذ عقود).
أين يكمن الإبداع الأدبي هنا؟ أراد الأنباري إخبارنا عن حكايته، وتوخّى التجوال في ردهات ذاكرته والبوح بسيرة رصدت ثلاثة عقود من عمره، يمكن تلخيصها ببضعة سطور: «أنا مواطن عراقي هربت من ويلات الحرب العراقية الإيرانية إلى جبال كردستان ومن هناك إلى إيران وبعدها مكثت في سوريا لأرحل إلى الدنمارك لاجئا.. تعرفت خلال رحلتي على أصدقاء أثروا على حياتي، وبعد تغيير الوضع السياسي في العراق عدت لأعمل في بلدي فلم أجد الراحة المنشودة هناك، ورجعت إلى الدنمارك ثم عدت لفترة قصيرة إلى بلدي وبعدها عشت في الدنمارك لليوم».. حكاية تعكس قسوة الحدث ولا تختلف إلا بتفاصيل معينة عن حيوات عدد لا حصر لهم من المغتربين.. لكن الصياغة الفنية للحكاية وقوة التوتر الداخلي لها، يجعلاها عملا أدبيا متميزا في شكله ومضمونه وتناوله للعلاقة بين الفرد والمجتمع.. فالسارد «أنا»، شاكر الأنباري، وصديقه نامق سبنسر، هو الصوت الآخر، هو المجتمع، الصديق، الوفاء، الحلم، الخيبة، الإنسانية، الإحباط.. النص هنا يسترسل ليس بقدرة السرد الذاتي الخالص، بل يبدو محسوبا بدقة كما في استخدام الجملة الحوارية شديدة التركيز والدلالة والوصف والخيال والمقدرة على السيطرة على الحدث، حتى لو كان السارد بعيدا عنه، يتضح ذلك من خلال جزالة مفردات وقوة تعبير وتركيبات متمكنة من أدواتها الفنية، رغم حضور السارد بضمير المتكلم الذي كما هو معروف، لا يسمح بمعرفة دواخل الآخرين ويجعل من يكتب به، مكتفيا بأوصاف جسمانية لهم، فنامق مثلا بلحية يشبه ممثلا، ونادر بعيون ضيقة، وسُرى بوجه يشبه الأميرة ديانا، وبكذا ألوان ملابس، والنساء بصدر عامر، وغير ذلك من مظاهر عيانية لا تخترق نفس الآخرين وأفكارهم، كل ذلك بلغة عربية فصحى تخلو من اللهجات المحلية والحوارات الشائعة في الرواية.
* رداءة الحياة
تستنهض الرواية أسئلة جمّة وتمتد أناملها داخل جروح طرية لا سبيل لعلاجها راهنا.. ما هو أفق حلول ممكنة لمشاكل العراق والعراقيين في الداخل والخارج في خضم راهن مائج بمجهولية وبؤس؟ لا يعلم الروائي ولا نعلم نحن.
يؤكد الأنباري ذلك حين يصف ما يجري بـ«رداءة الحياة».. تكفي هذه العبارة لاستجلاء أفق الحاضر والغد، وها هو نامق وقد تحول إلى محض «مسوگچي» قبل أن يموت وتموت معه «حياة عرفتها عقودا من السنين».. «اقتطعت ثلاثين سنة من حياتي وأرسلتها إلى القبر». ويصيب نادر خرف جرّاء وحدته، يقضي يومه باحثا في القمامة وحياته منقضية وزائدة، وسنان الشاعر - في الداخل - يتحول إلى قمامة إنسان على فراش.. لا وجود لشخصية إيجابية سوى ذلك العراقي صاحب المطبعة (ص 112) الذي يحقق إنجازا وتوافقا مع غربته وتصالحا معها ومع نفسه بالعمل وباتزان وموضوعية، كان ينبغي التوقف عنده كنموذج للأمل والإيجابية.
ورغم ذلك، يستنتج السارد عبر طيات روايته بأنه «ليس هناك قناعات مطلقة ففي هذه الحياة يمكن لأي شيء أن يحصل»، و«علينا تنظيف رؤوسنا من أفكار ومعتقدات وأوهام ذلك التاريخ البدوي الذي تربينا عليه، التكرار، الاستفاضة، التهويل، الحشو للغة تكرر نفسها»، وأنه لا جدوى من الارتباط بنساء أجنبيات، نظرا لاختلاف الأبوين حضاريا مما ينشأ عنه جيل ثان وثالث محشو بالمشاكل وفاقد للهوية، مثل كارين المشوّشة، ونجمة التي ترفض أبوته عقابا له بعد أن رحل عنها.
ما برحت تساؤلات شتى مفتوحة، إذ ليس هناك ما يحسمها، تطوف في أجواء الرواية بروح وجودية تبحث عن سبب وجيه للحياة، أسئلة عبثية متمردة في الذات القلقة، سؤال الهوية والوجود والرحيل والآخر، تأملات في الحياة والموت، لماذا نعيش ولماذا نموت (الموت هو النسيان المطلق)، ملمّحة بإعجاب إلى فلسفة أبو نضال في اقتناص لذات حياة قصيرة، نهايتها معلومة ومحتومة.
ثمة شخصية تجسّد وضع بلد غارق في التخبّط والانفلات والفساد، ألا وهي الصحافية سُرى، التي قد تكون التغيير الذي حدث والسوء الذي تبلور في العراق، البلد الذي تحوّل إلى منفعة، استنفذه السارد وتاه منه، فغدا السبب المباشر في تركه لأرضه، ليفلسف الزمن الذي «يقشر أوهامنا بقسوة» ويفسّر الأحلام وتغيّرها «وقد تسقط وتولد غيرها»، فالعراق كان حلما يوما ما.. ومع ذلك هي الحب - الأنثى، الذي جعله يحتمل مصاعب الوطن لفترة سبعة شهور.
ينتهي السارد بالتالي إلى شخص «محشو بالذكريات»، يتخيل نفسه «قطارا ضالا يجوب أماكن تختلط مع بعضها وتلتصق به روائح تلك الأماكن».. مؤمنا بأن الشقاء صار ملازما لمعظم العراقيين كقدرهم، وبأن هناك عتمة وانقباضا في حياتنا وواقعا لا ينبت سوى الخذلان.
وأخيرا، ليس من الغرابة القول إن لكل عراقي حكاية وسيرة مفجعة، ولو نقرأ أي رواية عراقية اليوم، لا نجد فيها راحتنا ونصطدم بمواضيع مفرطة بأوجاع وعنف وموت تهيمن على طروحاتها ومفرداتها، سمات أضحت ملامح بارزة في الأعمال الأدبية والفنية.. فهل هناك من طريقة لمحو الذاكرة وإعادتها مجمّلة؟