رشيد درباس: السيّاب جعلني أتوقف عن كتابة الشعر عشرين سنة

بعد رحلة عمر مع الأدب وفي دهاليز السياسة

رشيد درباس
سيرة في ديوان
رشيد درباس سيرة في ديوان
TT

رشيد درباس: السيّاب جعلني أتوقف عن كتابة الشعر عشرين سنة

رشيد درباس
سيرة في ديوان
رشيد درباس سيرة في ديوان

يقضي الشاعر والوزير اللبناني السابق رشيد درباس، وقته في مكتبه الزجاجي المطل على بحر مدينته الأثيرة «الميناء»، موزعاً نشاطاته بين كتابة الشعر والمقالات والقراءة، ومتابعة الأحداث السياسية وتحضير ملفاته القضائية. فقد كان نقيباً سابقاً للمحامين، ولا تزال المحاماة مهنته التي لن يتقاعد منها، كما أنه لن يعتزل الكتابة. وإذ يرى أن المرافعة حين تكون معجونة بالأدب ومستعينة بالتاريخ؛ فهي مما يسعد القاضي، ويسهل مهمة المحامي، وهو يستفيد من موهبته اللغوية في الدفاع عن آرائه السياسية تماماً كما عن موكليه.
وبعد ستة دواوين شعرية، ها هو يعدّ العدّة لإصدار سابع، وكلما قال إنه تاب عن الشعر عاد إليه طائعاً، وتحدث عنه عاشقاً، مستشهداً بأبيات يحفظها لكل مناسبة.
وُلد رشيد درباس عام 1941 في قرية عين يعقوب العكارية المعروفة بصنوبرها البري. يقول «كنا حين يمرض أحدنا يأخذوننا إلى الصنوبر للتداوي. لهذا كتبت (سيرة من صنوبر وملح)». في السابعة انتقل رشيد الصغير مع عائلته إلى مدينة والدته ميناء طرابلس، ولم يكن لقاء الطفل بالمدينة سهلاً. «حين دخلنا أنا وأخي مدرسة (مار إلياس) شعرنا بالخوف وأن الناس ستأكلنا. لم أتأقلم في المدرسة. كنت أجرّ أيامي بصعوبة فظيعة، لغاية أن أنهيت البكالوريا الأولى في القسم العلمي». يحاول الشاعر أن يبحث عن منابعه الأولى، يتتبعها «في الصف الثالث الابتدائي كان لمعلمة اللغة العربية أليس أيّا صوت أخاذ. ثم علمني العربية كامل درويش، الذي كان يأتي بنا إلى المدرسة، في أواخر مارس (آذار) بعد الدوام، حيث تكون طرابلس قارورة عطر بسبب رائحة بساتين الليمون. جلس يوماً على الطاولة، وأخذ يقول كلاماً لم أعرف منه سوى أنني كنت مسحوراً به وبلغته وإلقائه، كان شاعراً وكنت أتمنى أن أقلده». مع العائلة لم يكن حال رشيد مختلفاً «حين كان يعود أبي إلى البيت يقول له جدي يالله يا توفيق، إتينا بسيرة عنترة. يقرأ أبي وحين يصل إلى الشعر يغنيه، وكان ذا صوت لم أسمع مثيلاً له في حياتي».
ظن الصبي أن الدنيا شعر وغناء وصوت عود. لم يكن والداه متعلمين، إلا أنه لم يرهما ينامان إلا والكتاب في يديهما، وعنهما أخذ رشيد حب القراءة. «كنا أنا وأخي ثم جاءت أختي بعد 12 عاماً. تأثرت بوالدي وبتلك الأجواء الفنية. كان عمري 13 سنة، يوم قرأت قصيدة لأمين مشرق اسمها (الكمان). وحصل معي بعد أربعين سنة أن تعرفت على صديق عميد في الجيش، هو جوزيف بدوي، يعزف عزفاً خرافياً على العود، ولم أنتبه أنني مسكون بالكمان. وكتبت من وحي تلك القصيدة التي اكتشفت أنني اختزنها في بالي».
ذاكرة طازجة وعفية، يرجع بها رشيد درباس إلى طفولته وكأنه يعيشها اللحظة، يربط بين القصائد التي قرأها، وتلك التي عاد وكتبها بعد سنوات طوال، ليشعر بأنه إنما كان يكتنز المعاني والصور والإيقاعات، ويخرجها بحلة لم يعرفها أحد من قبل. «تغيرت نظرتي للشعر بمرور الوقت، أدركت كم من المهم أن يكون صادقاً، ومبتكراً. وصرت أتعمد في كتابتي التضمين، وبارز عندي تضمين التراث مع تغيير السياق».
لا يخفي أنه لم يحب المدرسة أبداً «كنت أشعر بعبء. اكتشفت متأخراً أنني لم أكن أفهم ما يدور. كانت الفرنسية صعبة. وكرهت الكيمياء ومعادلاتها بشكل فظيع. لم أشعر بالارتياح إلا حين وصلت إلى البكالوريا واخترت قسم الفلسفة. تلك كانت واحتي». بإمكان درباس اليوم أن يشرح لك ابن رشد والغزالي، والفارابي، وعلماء الكلام، المعتزلة والأشاعرة، بفضل قراءاته في تلك الفترة، خاصة ما كتبه الدكتور عبد الرحمن مرحبا.
لكن الوالد كان يريد لرشيد أن يتخصص في الزراعة ليدير عقارات جده في عكار، ورشيد في وادٍ آخر. صار مسحوراً بالناصرية، والقومية تشتعل في قلوب الشباب، فشد الرحال إلى مصر للدراسة هناك. درس في كلية الزراعة مع عادل أمام وصلاح السعدني عام 1961. «مكثت سنة لم أتعلم شيئاً، لكنني تعرفت على مصر، حضرت كل المسرحيات، وارتدت صالون نجيب محفوظ، وحضرت المهرجانات. وقررت الانتقال إلى كلية الحقوق، دون أن أخبر عائلتي».
تخرّج وعاد إلى لبنان ليتخصص في القانون اللبناني في الجامعة اليسوعية، ويتدرج في مكتب عمر مسقاوي.
لا يعرف رشيد درباس، متى بدأت علاقته مع الشعر، إلا أنه يصف المحاولات المبكرة بأنها «أنتجت شعراً من أسخف ما كتبت». شحذ موهبته بالقراءة والاطلاع، وقرر أنه لن يكون شاعراً بعد أن قرأ ديوان «أنشودة المطر» للسيّاب، وأدهش بقصيدته الشهيرة التي مطلعها: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر - أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر. كان ذاك عام 1961 فبقي متوقفاً عن كتابة الشعر حتى 1981.
بعد صمت عشرين سنة، استفاق ذات ليلة مع طلوع الفجر، وهو ينسج قصيدة استلهمها من قصيدة السيّاب تلك، ومن جملة استخدمها يوم كان طالباً في القاهرة، ليصف بها طالبة أعجبته عيناها، فكتب: عيناك الشط الأفريقي. لتكون نواة ديوانه الأول «همزة وصل» وكرة السبحة فكتب «الرمل ديوان نخيل»، «من... إلى حبيبة»، «هبة لحن يضيء الحياة»، «شبابيك ليل»، وفي ديوان خاص أسماه «طفولتي شعر لا يشيب»، كتب سيرة حياته شعراً.
ما كان ربما لينطلق في كتابة الشعر لولا تشجيع صديقه الذي سيصبح وزيراً عمر مسقاوي وهو يسمعه «عيناك الشط الأفريقي»، ودعوة الشاعر عبد الفتاح عكاري له لينضم إلى «منتدى طرابلس الشعري». «مع هذه المجموعة شعرت نفسي أمياً باللغة والشعر. كبار من مثل عبد الكريم شنينه تعلمت منهم الفن والعروض والشعر».
انخرط رشيد درباس في «حركة القوميين العرب»، وبقي نشطاً ومنظماً معهم حتى عام 1964. كان عمره 17 عاماً يوم تعرف على غسان كنفاني الذي كان يأتي ليلتقي بالمجموعات القومية في مقهى عزيزة في طرابلس، تحت المكتب الحالي لرشيد درباس. ثم تحمس لحركة «فتح»، إلى أن خرجت من بيروت عام 1982. ويروي درباس، أنه فور عودة أبو عمار بقارب من قبرص بشكل سري إلى طرابلس، التقاه عند عودته، واختلف معه. «عادوا إلى طرابلس لإنتاج دولتهم. لم أكن موافقاً بالتأكيد». ليلتها، يقول درباس، إنه تعرض لمحاولة قتل ونجا بفضل سائقه.
«كان أول ما حصل بعد دخول السوريين إلى لبنان، أنهم بدأوا البحث عني. نصحني الأصدقاء بأن أتوارى». ويروي أن أحمد كرامي وكان مديراً لمرفأ طرابلس وصديقاً حميماً له، وضعه في سيارته، أدخله المرفأ وهرّبه على متن باخرة شحن إلى قبرص. و«بقيت حرقة عندي أن والدي توفي في غيابي عن 62 سنة ولم يكن مريضاً، ولم أمش في جنازته. وكي يمنعني من العودة في ذلك اليوم الصعب، جاءني أحمد إلى قبرص ومعه زوجتي وأولادي».
ذهب أنور السادات إلى القدس، وغيّر السوريون مواقفهم، وعاد رشيد درباس إلى طرابلس بعد غياب سنتين.
«أنا رضعت عروبة. لكنني حين رأيت ما فعلته العروبة بطرابلس كتبت (النار أخمدت القصيدة)، تحدثت عن السنونوات التي كانت تعيش بالفعل معنا، وفي بيوتنا وهجرتنا، لأنها أليفة ونحن متوحشون».
عرض درباس مجموعته الأولى «همزة الوصل» قبل نشرها على الشاعر والرسام والناقد رضوان الشهال الذي كان متأثراً بتقنياته. يومها قال له «الشعر أمران: تركيز وتكثيف. فحين سألوا رودان عن عمله قال: آتي بالحجر واخلصه من كل الزوائد».
يصف من يكتب على الإيقاع والقوافي بأنه «شاعر أما من يكتب شعراً نثرياً فهو يقترب من طبقة الأنبياء التي لا أدعيها لنفسي. الفرق بين الشعر الموزون والشعر النثري أن الأول له كثافته التي تحملك، بالإيقاع والروي، والآخر يحتاج إلى مهارة فائقة. أدونيس حين يكتب نثراً أو نزار قباني فهما يكتبان أرفع من الشعر. وكذلك محمود درويش».
ونسأل هذا الشاعر كيف أنه أصبح وزيراً وصديقاً للجميع، دون أن ينخرط في حزب، فيجيب «أنا حيوان سياسي، وعندي جرأة القول. اتُهمت بأنني شيوعي لأنني ترشحت على لائحة مع نقولا الشاوي وفاروق المقدم عام 1972على الانتخابات النيابية، كان عمري 30 عاماً ومجرد زيادة عدد، وبالطبع لم يفز أحد. وذات مرة، قرر الرئيس رفيق الحريري ترشيحي وضمي إلى لائحته. حدث ذلك قبل إغلاق باب التسجيل بيوم واحد، ولم نكن على معرفة مسبقة، رفض وجودي على اللائحة مرشحو الجماعة الإسلامية على اعتبار اني شيوعي، وما أنا بذلك».
درباس مدين بكثير من تفكيره للماركسية أو الديالكتيكية؛ «لأن الديالكتيك يخرجك من الخرافة. إنه علم، لكن الخطر أن يقع الإنسان بالدوغمائية كما حصل للحزب الشيوعي. نحن نعتبر البرغماتية عيباً، لكنني حالياً أرى فيها رقياً. تفكيري تغير بمرور الوقت، وفي ديواني الأخير نقد ذاتي في العمق».
حين أصرّ الرئيس سعد الحريري على توزيره في حكومة تمام سلام عام 2014، وزيراً للعدل، وعلى طريقة الحكومات اللبنانية التي يختلف فيها على الحصص، رفض أشرف ريفي دخول الحكومة بوزارة الشؤون الاجتماعية، فتنازل له عن العدل، وقرر عدم المشاركة. يروي درباس «لكنهم أصروا. اتصلوا بي وطلبوا مني الحضور لأن المراسيم صدرت والصورة الرسمية تؤخذ، في القصر الجمهوري وأنا في طرابلس. حين وصلت كان نبيه بري يغادر والصورة قد التقطت من دوني. لتدارك الوضع، أتوا بشخص اسمه أبو عقل أوقفوه مكان نبيه بري، والتقطت الصورة الرسمية مرة ثانية. وبواسطة الفوتوشوب تم استبدال رأس أبو عقل في الصورة برأس نبيه بري»... يضحك ويقول «هذه صورة رسمية مزورة».
تأثر كثيراً بشخصية جورج حبش «كان بالنسبة لي مثلاً أعلى». وأحب محسن إبراهيم. ومصطفى صيداوي الذي أدخله حركة القوميين العرب. «أما الشخص الذي غيّر مقارباتي السياسية فهو جان عبيد، ربطتنا عِشرة عميقة لدرجة غريبة، وكان يروج لي حيثما تواجد، وبسبب كلامه عني عرفني المرحوم رفيق الحريري، وأرادني أن اضم إلى لائحته الانتخابية دون سابق معرفة».
هذه الأيام يقرأ رشيد درباس «لسد الثغرات؛ لأن زمن امتصاص المعرفة انتهى». قرأ كثيراً عن الحرب العالمية الثانية، وكذلك كتاب «فلاحو سوريا» لحنا بطاطو، وحالياً يعكف على «الموحدون» لعباس الحلبي. القراءة صارت وسيلة لتسكير الفجوات، وتوضيح الرؤية.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي