موسكو تواجه «تضارب مصالح اللاعبين» في سوريا بتعزيز دعمها النظام

تطوّرات درعا وضعت الروس أمام اختبار القوة والنفوذ

موسكو تواجه «تضارب مصالح اللاعبين» في سوريا بتعزيز دعمها النظام
TT

موسكو تواجه «تضارب مصالح اللاعبين» في سوريا بتعزيز دعمها النظام

موسكو تواجه «تضارب مصالح اللاعبين» في سوريا بتعزيز دعمها النظام

قد تكون التطورات التي شهدها الجنوب السوري خلال الأسابيع الأخيرة، قد شكّلت أصعب اختبار لقدرة روسيا على فرض أجندتها على اللاعبين المحليين من جانب، والأطراف الخارجية المنخرطة في النزاع السوري من الجانب الآخر. ومع أن الحصيلة التي آلت إليها الأمور عكست تمكّن موسكو من تثبيت اتفاق وصفته المعارضة السورية بأنه مجحف، فالمهم، مع تعزيز النفوذ العسكري الروسي في الجنوب، أن التطور حمل تقويضاً كاملاً لاتفاق الهدنة الموقع في العام 2018. وهو اتفاق ضمنته روسيا بالاتفاق مع الولايات المتحدة والأردن وبحضور غير مباشر من جانب إسرائيل. وهذا الأمر يعني أن النتيجة وضعت أسساً جديدة للتعامل في المنطقة، لم تكن موسكو هي صاحبة المبادرة إليها، بقدر ما أنها اضطرت إلى التعامل فيها مع أمر واقع فرضه النظام وحلفاؤه من القوى المدعومة من جانب إيران.
ولقد بدا «الارتباك» الروسي واضحاً منذ بداية أزمة الجنوب الجديدة، إذ إن احتمال انزلاق الوضع نحو مواجهة واسعة، كان آخر ما شغل بال موسكو، بينما هي تضع تصورات للمرحلة المقبلة. وهذه المرحلة، حسب موسكو، تقوم على تعزيز مسار الإصلاح الدستوري في جنيف، عبر حمل النظام على إبداء مرونة كافية، بالتوازي مع إبراز ملف اللاجئين وتحويله إلى بند ثابت على أجندة الحوارات الإقليمية والدولية.

أظهرت التصريحات الروسية في الفترة السابقة اطمئناناً كاملاً إلى تثبيت مناطق النفوذ في سوريا، وتراجع احتمالات استخدام القوة العسكرية لتوسيع أو تغيير الخرائط القائمة. حتى إن المستويين الدبلوماسي والعسكري في روسيا ردّدا أكثر من مرة أن مراحل المواجهات الحربية انتهت، وأن الدور الأساسي في المرحلة المقبلة سيكون للترتيبات السياسية.
لكن في هذه الظروف جاءت الاستعدادات العسكرية والحشود التي تعاظمت حول درعا، والمناوشات التي بدأت في محيطها، لتضع الروس أمام موقف محرج. لذلك، سارعت أوساط روسية في البداية إلى الحديث عن «رفض الاستفزازات» التي يمارسها النظام، وعن ضرورة الالتزام بالهدنة وباتفاق وقف النار بكل تفاصيله. وأكثر من ذلك، لجأت أوساط دبلوماسية إلى توجيه رسائل تحذير إلى نظام دمشق من «خطورة هذه التحرّكات التي تقوض الثقة بروسيا كضامن أساسي، وتعرقل جهود موسكو لدفع التسوية السياسية في البلاد».

- 3 أولويات سقطت لاحقاً
على هذه الخلفية، ومع اتجاه العشائر في حوران، تحديداً محافظة درعا، إلى «الضامن الروسي»؛ خصوصاً بعد اتضاح مطالب النظام حول تسليم الأسلحة وانسحاب المقاتلين وفرض السيطرة في المدينة ومحيطها، وضعت موسكو 3 أولويات لسياستها، تمثلت بالتالي...
أولاً، رفض السماح بانزلاق الوضع نحو مواجهة شاملة.
وثانياً، رفض مطالب ترحيل سكان درعا أو تهجيرهم إلى مناطق أخرى.
وثالثاً، تثبيت اتفاق وقف النار الموقّع في 2018.
غير أن اللافت هو أن التطورات سرعان ما أظهرت عجز موسكو عن فرض وجهة نظرها على حليفيها السوري والإيراني، وهو ما برز من خلال تعزيز الحشود العسكرية وإطلاق أوسع عمليات قصف لمناطق في درعا ومحيطها، في تجاهل صريح للتوجهات الروسية نحو التهدئة.
وعلى الرغم من تسريبات عدّة عكست «الغضب» الروسي من تحرّكات النظام في تلك المرحلة من الأزمة، بينها التسريب الذي تحدث عن إقدام جنرال روسي على إخراج وزير الدفاع السوري من أحد الاجتماعات بسبب خطاب التهديد والتلويح بالقوة العسكرية، فقد بدا واضحاً أن موسكو لا ترغب أو لا تقدر على «كبح جماح النظام خلافاً لما أظهرته خلال مواجهات سابقة» وفقاً لتعبير محلل وخبير سوري. وتابع هذا المحلل القول إن القوات الروسية «لم تتدخل عسكرياً لتحسم المعركة لصالح النظام، كما كانت تفعل سابقاً (..) وفي الوقت ذاته لم يبدُ أنها تريد أن تستغل نفوذها كما يجب لإرغام النظام والإيرانيين على وقف حملتهم العسكرية في المنطقة». ومن ثم، استطرد شارحاً أن «روسيا قد تكون مستفيدة من بقاء الوضع على حاله واستمرار حالة التوتر في جنوب سوريا، ولو لمرحلة محددة من الزمن، تأمل خلالها تحقيق مجموعة أهداف، في مقدمتها استعادة الزخم للاهتمام بالدور الروسي في سوريا، بعد تراجعه قليلاً خلال الفترة الأخيرة».
لكن في المقابل، برز رأي آخر، مفاده أن موسكو عندما فشلت في الضغط على قوات نظام دمشق، سعت إلى قياس درجة قدرة المعارضة في الجنوب على تغيير الوضع العسكري الميداني. ولذلك وقفت متفرّجة، واكتفت بالسعي إلى لعب دور الوسيط في الحوارات، عندما كانت قوات المعارضة السورية تتقدّم بشكل واسع، حتى نجحت في استعادة السيطرة على ثلثي المساحة التي كانت تحت سيطرة النظام في محيط درعا البلد. هنا تدخلت بقوة وعزّزت جهودها ليصل الجانبان برعاية روسية إلى اتفاق لوقف النار لم يصمد طويلاً.
خبير عسكري يقول إن موسكو تعمّدت ترك قوات النظام والقوات الحليفة والداعمة لها، تحت رحمة نجاحات مؤقتة لقوات المعارضة، بغرض إظهار أن دمشق لن تكون قادرة على تحقيق تقدم واسع من دون مساعدة روسية... وهذا أمر سبق أن تعرّضت له قوات النظام في معركة سابقة قرب مدينة حلب في الشمال السوري.

- تبني موسكو الكامل لموقف النظام
إن صحت هذه التقديرات، فهي لا تنفي حقيقة أن الموقف الروسي سرعان ما تبدّل بشكل واسع تحت ضغط الأمر الواقع الذي نجحت دمشق وحلفاؤها، ولا سيما الميليشيات الإيرانية، في فرضه على الروس. والحاصل أن روسيا بعدما كانت ترفض وقوع أي مواجهات عسكرية، انتقلت بالكامل إلى تأييد التحرك العسكري لقوات نظام دمشق، انطلاقاً من ذريعة ضرورة «مدّ سيطرة الحكومة الشرعية على كل الأراضي السورية».
وبالأمس، كان هذا فحوى كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أثناء مؤتمر صحافي مشترك عقده في موسكو مع نظيره الإسرائيلي يائير لبيد، عندما قال إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في درعا «يقضي بإعادة سيطرة القوات المسلحة السورية الشرعية على هذه المنطقة، وأما بخصوص الأسلحة فيقضي الاتفاق المبرم بتسليم المسلحين كل أسلحتهم الثقيلة إلى الجيش السوري مع احتفاظهم بأسلحتهم النارية الخفيفة التي سوف يخرجونها معهم... والتفاوض جارٍ الآن بشأن المكان الذي يمكن لهم الانسحاب إليه من هذه المنطقة لأن بقاءهم هناك ليس مرجحاً». وفي تبنٍ كامل لموقفي النظام وإيران، أشار لافروف إلى ضرورة «ألا تبقى في درعا، بل في سوريا عموماً، أراضٍ خاضعة لسيطرة تشكيلات مسلحة غير الجيش العربي السوري» حسب تعبيره. وهكذا، انتقل الموقف الروسي مرة واحدة من رفض عمليات تهجير جديدة، ورفض اندلاع مواجهات جديدة... إلى إعطاء «الضوء الأخضر» ومباركة النتيجة التي وصلت إليها الأمور في الجنوب السوري.
هنا، وفقاً لتحليلات خبراء روس وسوريين، ظهر أن «توازنات دولية دقيقة فسّرت المشهد في درعا. إذ إن إيقاف الدعم عن الجبهة الجنوبية التابعة للمعارضة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان العربية لم يكن مكسباً مجانياً بالنسبة للروس، بل كان مشروطاً بالتعهد بضبط النفوذ الإيراني. وبالتالي، فإنَّ الحسم العسكري الشامل كان سيفوِّت على روسيا فرصة تعزيز المكاسب السياسية، ولذا سعت روسيا إلى إيجاد حالة من التوازن بين المكوِّن المحلي من خلال القبول بفكرة بقاء بعض المجموعات غير المنضبطة بسلاحها الخفيف، وكتلة أكبر تابعة لـ(الفيلق الخامس) بشكل مباشر، في مقابل قوات النظام والميليشيات الإيرانية».

- مكاسب سياسية مأمولة
هذا الحديث يعكس القناعة السائدة بأن موسكو، مع ميلها نحو التشدد لاحقاً، ومساعدة النظام في فرض شروط تسليم الأسلحة وتهجير الرافضين للهدنة وفقاً للشروط الجديدة، فإنها عملياً كانت تمهّد لاستخدام التطورات حول درعا لتحقيق مكاسب سياسية لاحقة من اللاعبين الإقليميين والدوليين... وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
بهذا المعنى، فإن روسيا، كما يقول محللون: «أدركت أن الولايات المتحدة أظهرت بعض المرونة في ملفات مهمَّة بالنسبة لروسيا، في خطوة تشير إلى الرغبة بجعل درعا نموذجَ اختبار مصغَّراً عن الحالة السورية». ولذلك «أتاحت التوصل إلى اتفاق بشأن فتح معبر جابر نصيب مع الأردن، ووافقت على تمرير الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا، بهدف سبر حجم التعاطي الإيجابي مع مطالب المجتمع الدولي المتعلِّقة بالوصول إلى حلٍّ مناسبٍ للأزمة السورية».
وإذا صح هذا التحليل، فإن موسكو ستجد نفسها في المرحلة المقبلة أمام استحقاق جدّي، عليها معه الإجابة على سؤال حول مدى قدرتها على التعامل مع امتداد النفوذ الإيراني في الجنوب. واللافت في هذا الموضوع أن الأوساط الدبلوماسية الروسية كانت تتشدّد مع تفاقم أزمة درعا في الحديث على أن «كل الدعاية التي تتحدث عن الدور الإيراني في درعا لا تستند إلى أساس... وهي متعمّدة لتشويه الوضع ولفت الأنظار عن الأسباب الحقيقية لاندلاع الأزمة»، وفقاً لما أبلغ به مصدر دبلوماسي «الشرق الأوسط» في وقت سابق.
لكن ملف الوجود الإيراني ونشاط القوى القريبة من طهران في الجنوب السوري له أبعاد أخرى. ذلك أنه يتعلق أيضاً بالعلاقة الروسية - الإسرائيلية التي مرّت بمرحلة فتور وتوتر بسبب رفض تل أبيب الاستجابة لمطالب روسية بوضع قواعد جديدة للتعامل العسكري في سوريا ووقف الغارات المتواصلة على مواقع داخل الأراضي السورية.
ولقد كان لافتاً أن البيان الروسي الذي صدر تعليقاً على الغارات الإسرائيلية الأخيرة في 3 سبتمبر (أيلول) على مناطق قرب دمشق لم يحمل جديداً في لهجته أو مضمونه، إذ جاءت الإفادة التي أعلنها نائب رئيس المركز الروسي للمصالحة، فاديم كوليت، مقتضبة خالية من أي موقف، وتكاد تكون تكراراً حرفياً لبيانات مماثلة صدرت بعد سلسلة غارات استهدفت مواقع في سوريا في يوليو (تموز) الماضي.
ويومذاك، قال البيان إن القوات السورية تصدّت للغارات الإسرائيلية، وأسقطت 21 صاروخاً من أصل 24 جرى إطلاقها على الموقع المستهدف. وهذا التكرار الحرفي لبيانات سبق أن صدرت مثيلات لها قبل شهرين لا يخلو من دلالات، لأن روسيا باتت توجه رسائل مباشرة إلى الإسرائيليين بأنها «ترصد» و«تساعد السوريين على مواجهة الهجمات».

- موافقة أميركية على كبح الإسرائيليين
كانت أوساط المراقبين والمعلقين العسكريين انشغلت قبل شهرين بالحديث عن تبدّل في «قواعد اللعبة»، وأن روسيا تعمل على إغلاق المجال الجوي السوري أمام الطيران الإسرائيلي. وأكثر من ذلك أن هذا التطور يجري بعلم وموافقة ضمنية من جانب الولايات المتحدة، التي لا تحبذ ضمن أولوياتها الحالية في المنطقة تفجير الوضع في سوريا.
وفي هذا السياق، جاء تسريب معطيات عن قيام موسكو بتزويد دمشق بنسخ محدثة من أنظمة «بوك» الصاروخية، ومدّها بخبراء عسكريين روس لمساعدة القوات السورية على تشغيلها بفاعلية قصوى، ليؤكد التوجه الروسي الحاسم لوضع حد نهائي للغارات المتكررة.
إلا أن التباين الروسي - الإسرائيلي القديم حول الوجود الإيراني في سوريا، وآليات التعامل معه، ليس العنصر الأساسي للتطور الحاصل في الموقف الروسي. إذ كانت موسكو قد توصلت إلى تفاهمات مبكّرة مع الإسرائيليين بأن من حق تل أبيب استهداف مواقع في سوريا، إذا رأت خطراً أو تهديداً ينطلق منها، لذلك صمتت موسكو طويلاً على الهجمات الإسرائيلية في السابق. لكن «صبر الروس بدأ ينفد»، وفقاً لتعبير دبلوماسي روسي، عندما وسّعت إسرائيل دائرة أهدافها، لتشمل مواقع للسيطرة والتحكم تابعة لقوات النظام، وأيضاً بسبب تجاهل الجانب الإسرائيلي في عدد من المرات قواعد التنسيق المسبق، ما كاد يوقع في أكثر من مرة ضحايا بين العسكريين الروس العاملين في مواقع سورية.
ولذلك، بدأت موسكو منذ مطلع العام تهيئ لـ«قواعد جديدة» في التعامل مع ملف الغارات الإسرائيلية. وهذا أمر أوضحه وزير الخارجية الروسي لافروف، عندما اقترح على تل أبيب مبادرته حول استعداد موسكو للتعامل بشكل مباشر مع أي تهديد يصدر ضد الدولة العبرية من الأراضي السورية. وقال لافروف، في حينه: «إذا توافرت لديكم معطيات عن خطر مباشر أو تهديد أبلغونا بها ونحن سنتعامل مع الموقف فوراً». وهذا الموضوع، بعد اتساع هوة المواقف بين موسكو وتل أبيب، غدا الموضوع الأساسي للحديث خلال الزيارة الأولى لوزير الخارجية الإسرائيلي الجديد يائير لبيد إلى موسكو.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.