على أطراف فرنسا... الدراما والطبيعة تمتزجان

الغابة التي شكلت خلفية مسرح فرنسي لأكثر من 125 عاماً مازالت مصدر جاذبيته

TT

على أطراف فرنسا... الدراما والطبيعة تمتزجان

على خشبة مسرح «تياتر دو بوبل» (مسرح الشعب) التي يرجع تاريخ إنشائها إلى 126 عاماً ماضية، جرى تقديم المئات من الأعمال الدرامية. ويقع المسرح العتيق على بعد 45 ميلاً من الحدود مع ألمانيا. أما الأمر المميز بخصوصه، فهو أنه بغض النظر عن مدى براعة الممثلين الذين يقفون على خشبته، فإن الخلفية الاستثنائية للمسرح غالباً ما تطغى عليهم وتستحوذ على اهتمام الجمهور، وتتمثل هذه الخلفية في غابات شديدة الانحدار تبدو واضحة تماماً للعيان من خلف خشبة المسرح.
يبدو المسرح أشبه بلوحة يحيطها جدار خشبي، ويدفع هذا المنظر بالطبيعة إلى قلب الأحداث الجارية على خشبة المسرح، بينما يبدو الجمهور في تعطش دائم للمناظر الطبيعية الآسرة الماثلة أمامه. هذا الصيف، وبعد ساعتين من بداية مسرحية «وأطفالهم من بعدهم»، عمل جديد من إخراج سيمون ديليتانغ، جرى رفع الخلفية البسيطة على خشبة المسرح لتكشف خلفها عن مجموعة من الأشجار. وسحر المنظر ألباب الجمهور الذي لم يتمالك نفسه وانطلق في وصلة تصفيق عفوية.
واستمر هذا الإعداد الذي يمزج بين الخلفيات الداخلية والخارجية التي تظهر فيها جبال فوسيج داخل «تياتر دو بوبل» عبر الكثير من التجليات والتجسيدات. كان المسرح قد تأسس عام 1895 على يد الكاتب المسرحي والمخرج موريس بوتشر، الذي استوحى الفكرة من زياراته إلى مسرح «فيستشبيلهاوس» الذي أسسه ريتشارد فاغنر في مدينة بايرويت الألمانية. وأصبح هذا «تياتر دو بوبل» معروفاً كمثال رائد خارج باريس «للمسرح الشعبي»، حيث يجذب الجماهير من جميع الخلفيات الاجتماعية. قبل عقود من دفع الحكومة الفرنسية بعد الحرب لإضفاء طابع اللامركزية على المشهد الثقافي الذي كان متركزاً داخل العاصمة، أقنع بوتشر العمال المحليين بحضور مسرحياته، بل والمشاركة فيها.
وفي الوقت الذي لا يزال الهواة يشاركون في تقديم عمل مسرحي واحد كل عام، تولى ممثلون محترفون مسؤولية معظم الأدوار منذ فترة طويلة. واليوم، يقف مسرح «تياتر دو بوبل» عند نقطة متميزة للغاية على الصعيد الفني، فمن ناحية يبقى مؤسسه، الذي يطلق عليه «لو بادر»، في الخلفية، خاصة أنه مدفون في حديقة المسرح بجوار زوجته الممثلة كاميل دي سانت موريس. كما أن الشعار الذي ابتكره، «من خلال الفن من أجل الإنسانية»، لا يزال يزين قوس المسرح.
من ناحية أخرى، توارت المسرحيات التي كان يقدمها بوتشر، والتي شكلت السواد الأعظم من الإنتاج الفني للمسرح منذ عام 1895 حتى وفاته عام 1960 في الظل بعدما فقدت جاذبيتها وأصبحت عتيقة الطراز.
وخلال مقابلة أجريت معه في بوسونج، قال ديليتانغ: «كل مخرج يبدأ عمله هنا معتقداً أنه سيكون من الرائع أداء أعمال بوتشر مرة أخرى، لكن عندما تقرأ هذه الأعمال، يولد بداخلك يقين بأن هذا الأمر غير ممكن، لأنها أعمال عفا عليها الزمن».
جدير بالذكر أنه يجري تعيين مخرجين فنيين لفترات تستمر كل منها أربع سنوات من جانب «اتحاد تياتر دو بوبل»، مؤسسة محلية معنية بإدارة المسرح، ويعطي الاتحاد المخرجين الفنيين مطلق الحرية في اختيار الأعمال التي يرونها مناسبة.
جدير بالذكر هنا أن ديليتانغ، الذي تولى إدارة مسرح صغير في ليون يعرف بـ«ليز إتيليه» بين عامي 2008 و2012، لم تكن لديه خبرة مهنية في بوسونج عندما جرى تعيينه مخرجا فنيا في «تياتر دو بوبل» منذ أربع سنوات. وقد جرى في وقت قريب تجديد عقده مع المسرح لأربع سنوات جديدة تستمر حتى عام 2025. ويوحي الموسم الحالي، الممتد حتى السبت، إلى أن إرث بوتشر حالياً يتركز بصورة أساسية في تجربة ارتياد «تياتر دو بوبل»، وليس في العروض المسرحية ذاتها. يذكر أنه منذ أيام قليلة وقبل بدء عرض مسرحية «وأطفالهم من بعدهم»، كان سكان محليون يتنزهون في حديقة المسرح، في تقليد مستمر منذ فترة بعيدة، بينما كان ديليتانغ والممثلون المشاركون في العرض في كافيتريا المسرح ويتبادلون أطراف الحديث مع الجمهور.
وبهذا المعنى، تبدو بوسونج سلفاً لجيل المهرجانات الريفية، مثل «نوفو تياتر بوبولير»، والتي انتشرت عبر أرجاء فرنسا على مدار العقد الماضي، والتي تشدد على إتاحة التواصل السهل بين القائمين على العمل المسرحي والجمهور.
ومع ذلك، يبقى اختلاف كبير بين النمطين، ففي حين شددت المهرجانات الريفية على العملية الجماعية لصنع القرار والتنوع، لم يستقبل «تياتر دو بوبل» أول مخرجة به، آن لوري ليجوا، سوى في يوليو (تموز) الماضي لعرض عرض مسرحية «بير جينت» لإيبسن. وعلى خشبة المسرح، تتميز إنتاجات بوسونج المسرحية كذلك بأنها أكثر بساطة وتوافقاً مع معايير المسارح الفرنسية الممولة من القطاع العام ـ باستثناء الخلفية الطبيعية الساحرة.
في أغسطس (آب)، يعرض المسرح عملين: «وأطفالهم من بعدهم» و«حاجتنا إلى المواساة لا تشبع»، وهما عملان جديران بالعرض في المسارح الباريسية رفيعة المستوى.
كان عرض «حاجتنا إلى المواساة لا تشبع» قد بدأ العام الماضي كرد فعل للجائحة. وبعد إلغاء موسم 2020 في «تياتر دو بوبل»، تولى ديليتانغ إخراج العرض وتقديمه في 40 دقيقة. ويعتمد هذا العمل المسرحي على مقال سيرة ذاتية للكاتب السويدي ستيغ داغيرمان، وعرضه المسرح كنوع من التعويض عن إلغاء الموسم. ويوصف هذا العرض بأنه «خطبة بموسيقى الروك»، وعرض للمرة الأولى هنا الصيف الماضي في الهواء الطلق، بالاستعانة بموسيقى حية من أداء فرقة «فيرغيسين».
ومع ذلك، ربما لم يكن قرار نقل العرض إلى خشبة المسرح الرئيسية بالقرار الصائب، حيث يبدو العمل غير ملائم هناك. كان هذا المقال الذي كتبه داغيرمان عام 1951 أشبه بتأملات في الحياة والاكتئاب.
أما «وأطفالهم من بعدهم»، فيلتزم على نحو وثيق بالمثل الإنسانية لبوتشر. وتستند المسرحية إلى رواية حائزة على جائزة غونكور ومن تأليف نيمولاس ماتيو، الذي نشأ بمنطقة جبال الفوج. ومثل الرواية، يتتبع العمل المسرحي الذي قدمه ديليتانغ مجموعة من الأصدقاء في التسعينات في جزء ريفي من شرق فرنسا خلفته موجة التحول إلى الصناعة وراءها. والملاحظ أن قليلا للغاية من المشاهد جرى أداؤه على النحو التقليدي. وبدلا عن ذلك، يتناوب الممثلون الـ13 في سرد القصة ولعب الشخصيات الرئيسية على نحو فضفاض.
أما الجانب السلبي هنا، فهو قلة الحركة على مدار أكثر عن ثلاث ساعات. واللافت أنه في عرض «حاجتنا إلى العزاء لا تشبع»، يجري تكرار مشهد ثابت من جانب جميع الممثلين.
وعلى نحو غير متوقع ونظراً لعدد المرات التي يجد فيها المراهقون في رواية ماتيو أنفسهم في الغابة، يختار ديليتانغ فتح الجدار الخلفي لـ«تياتر دو بوبل» فقط في النهاية عندما يجتمع شمل الشخصيات في معرض المدينة.
والسؤال هنا: هل هناك طرق أفضل لاستخدام محيط «تياتر دو بوبل»؟ من المحتمل، وهذا سبب إضافي للعودة إلى بوسونج.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

«يوم 13» يطارد «هارلي» في سباق إيرادات «الفطر السينمائي» بمصر

أحمد داود في لقطة من الفيلم
أحمد داود في لقطة من الفيلم
TT

«يوم 13» يطارد «هارلي» في سباق إيرادات «الفطر السينمائي» بمصر

أحمد داود في لقطة من الفيلم
أحمد داود في لقطة من الفيلم

حقق فيلم الرعب والإثارة «يوم 13» مفاجأة خلال الأيام الماضية في شباك التذاكر بمصر، حيث حصد أعلى إيراد يومي متفوقاً على فيلم «هارلي» لمحمد رمضان، الذي لا يزال محتفظاً بالمركز الأول في مجمل إيرادات أفلام موسم عيد الفطر محققاً ما يزيد على 30 مليون جنيه مصري حتى الآن (نحو مليون دولار أميركي)، بينما يطارده في سباق الإيرادات «يوم 13» الذي حقق إجمالي إيرادات تجاوزت 20 مليون جنيه حتى الآن.
ويعد «يوم 13» أول فيلم عربي بتقنية ثلاثية الأبعاد، وتدور أحداثه في إطار من الرعب والإثارة من خلال عز الدين (يؤدي دوره الفنان أحمد داود) الذي يعود من كندا بعد سنوات طويلة باحثاً عن أهله، ويفاجأ بعد عودته بالسمعة السيئة لقصر العائلة المهجور الذي تسكنه الأشباح، ومع إقامته في القصر يكتشف مغامرة غير متوقعة. الفيلم من تأليف وإخراج وائل عبد الله، وإنتاج وتوزيع شركته وشقيقه لؤي عبد الله «أوسكار»، ويؤدي بطولته إلى جانب أحمد داود كل من دينا الشربيني، وشريف منير، وأروى جودة، كما يضم عدداً من نجوم الشرف من بينهم محمود عبد المغني، وفرح، وأحمد زاهر، ومحمود حافظ، وجومانا مراد، ووضع موسيقاه هشام خرما.
وقال مخرج الفيلم وائل عبد الله في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه ليس متفاجئاً بالإيرادات التي حققها الفيلم، ولكنه كان متخوفاً من الموسم نفسه ألا يكون جيداً، قائلاً إن «إقبال الجمهور حطم مقولة إن جمهور العيد لا يقبل إلا على الأفلام الكوميدية، وإنه يسعى للتنوع ولوجود أفلام أخرى غير كوميدية، وإن الفيصل في ذلك جودة الفيلم، مؤكداً أن الفيلم احتل المركز الأول في الإيرادات اليومية منذ انتهاء أسبوع العيد».
وكشف عبد الله أن الفيلم استغرق عامين، خلاف فترات التوقف بسبب جائحة كورونا، وأنه تضمن أعمال غرافيك كبيرة، ثم بعد ذلك بدأ العمل على التقنية ثلاثية الأبعاد التي استغرق العمل عليها عشرة أشهر كاملة، مؤكداً أنه درس طويلاً هذه التقنية وأدرك عيوبها ومميزاتها، وسعى لتلافي الأخطاء التي ظهرت في أفلام أجنبية والاستفادة من تجارب سابقة فيها.
وواصل المخرج أنه كان يراهن على تقديم الفيلم بهذه التقنية، لا سيما أن أحداً في السينما العربية لم يقدم عليها رغم ظهورها بالسينما العالمية قبل أكثر من عشرين عاماً، موضحاً أسباب ذلك، ومن بينها ارتفاع تكلفتها والوقت الذي تتطلبه، لذا رأى أنه لن يقدم على هذه الخطوة سوى أحد صناع السينما إنتاجياً وتوزيعياً، مشيراً إلى أن «ميزانية الفيلم وصلت إلى 50 مليون جنيه، وأنه حقق حتى الآن إيرادات وصلت إلى 20 مليون جنيه».
ورغم عدم جاهزية بعض السينمات في مصر لاستقبال الأفلام ثلاثية الأبعاد، فقد قام المخرج بعمل نسخ «2 دي» لبعض دور العرض غير المجهزة، مؤكداً أن استقبال الجمهور في القاهرة وبعض المحافظات للفيلم لم يختلف، منوهاً إلى أن ذلك سيشجع كثيراً على تقديم أفلام بتقنية ثلاثية الأبعاد في السينما العربية.