بالموسيقى العذبة والتقنية الحديثة... فرقة «آبا» تعود لتألقها

بألبوم جديد وحفل ضخم

TT

بالموسيقى العذبة والتقنية الحديثة... فرقة «آبا» تعود لتألقها

على مدى 47 عاماً غنى فريق «الآبا» وغنى معه الجمهور، رغم توقف الفريق بعد 7 سنوات من بدايته إلى أن شهرته وأغانيه لا تزال تملأ الأسماع، وهل هناك دليل أكثر من أن الألبوم الجامع لأغاني الفرقة «آبا غولد» لا يزال من أكثر الألبومات الموسيقية مبيعاً. أو أن المسرحية الموسيقية «ماما ميا» معتمدة على أشهر أغنيات الفريق حققت نجاحاً ساحقاً على المسرح في بريطانيا وأميركا، ثم تحولت لفيلم سينمائي ناجح جمع نخبة من نجوم السينما العالمية ميريل ستريب وكولين فيرث وبيرس بروسنان.
لم يتوقع أحد أن يلتئم شمل الرباعي السويدي مرة أخرى، ولا أن يصدروا ألبوماً موسيقياً جديداً، هل ستحافظ الفرقة على مجدها السابق، أم هل ستكون العودة مخيبة للآمال، خصوصاً أن أربعين عاماً تفصل بين الفريق الآن وبين الصورة الشابة التي عرفها الجمهور لهم، هل بإمكان أفراد الفرقة المؤلف اسمها من الأحرف الأولى من اسم كل فرد، أنييتا فالتسكوغ (71 عاماً) وبيورن أولفاوس (76 عاماً) وبيني أندرسون (74 عاماً) وأني - فريد لينغستاد (75 عاماً)، سحر الجمهور مرة أخرى بعد أن بلغوا السبعين؟
لكن «آبا» فريق عرف جيداً قواعد اللعبة منذ البداية، هم يعرفون مفاتيح النجاح ويعرفون استخدامها لصالحهم. لم يكن من المجدي بالنسبة للفريق أن يعودوا بشكلهم الحالي، لن تستطيع الأعوام السبعون منافسة الصورة الشابة المتألقة لشباب في الثلاثينات سحروا الملايين حول العالم وتحولوا إلى أساطير، ليس من المصلحة الإطاحة بالهالات المضيئة التي رسخت لدى الجمهور، وكان هناك حل آخر يحافظ على البريق ويسافر به نحو المستقبل.
في شريطين مصورين، عادت فرقة «الآبا» بأغنيات جديدة وطلة ليست جديدة، بل عادوا هم أنفسهم بصورتهم الشابة وبالتوافق بينهم الذي عكره الطلاق والانفصال. الماضي عاد مرة أخرى ولكن بصورته الجميلة المتألقة، عادت أنيتا تغني بصوتها الماسي، وعادت أنغام بيورن وبيني لتستأذن الجمهور في العودة مرة أخرى لمكانهم الأثير في القلوب.
في الفيديو المصور لأغنية «آي ستيل هاف فيث إن يو» (ما زال لدى ثقة بك) انطلقت بنغمات عذبة تذكر بأغنيات الفرقة السابقة، تبدأ أنيتا بالغناء تماماً، كما صدحت بـ«ماما ميا» «ذا وينير تاكس ات آل» وغيرها من كلاسيكيات الفرقة، غير أن الرباعي لم يظهر على الفور في الشريط المصور، بل تتابعت لقطات فيلمية وصور من الأرشيف يعرفها الجمهور. ينتقل بنا الفيلم لخشبة المسرح حيث يظهر الرباعي بصورتهم المعدلة رقمياً، هم ما زالوا بصورتهم الأمثل والأصوات العذبة والموسيقى المميزة. الحل أمام الفريق كان واضحاً، وهو استثمار الصورة المتألقة للفرقة والمحافظة على الشباب الدائم.
أعلن أيضاً عن حفل يقام في لندن الشهر المقبل يظهر فيه الفريق من خلال الصور التجسيمية الثلاثية الأبعاد (الهولوغرام) التي أطلقوا عليها تسمية «آباتار» (نسبة إلى الصور الرمزية «أفاتار» ولعبا على اسم الفرقة).
أعلن بيورن أولفاوس وبيني أندرسون من لندن عن الألبوم الجديد، وقال أولفاوس مازحاً: «يجب عدم ترك 40 عاماً تمر بين ألبوم وآخر»، موضحاً أن الجديد يتضمن «مزيجاً من أعمال (الفرقة) وأغنية بمناسبة أعياد الميلاد»، حسب وكالة الصحافة الفرنسية.
أما الحفل المنتظر، الذي يحمل عنوان «فوياج» (رحلة)، فحدد له شهر مايو (أيار) المقبل في مسرح يتسع لثلاثة آلاف شخص جُهز خصيصاً لهذا الغرض في شرق لندن. ويتضمن العرض 22 أغنية تؤديها على مدى ساعة ونصف الساعة صور تجسيمية للمغنين الأربعة في شبابهم. ستظهر النسخ الرقمية كل ليلة جنباً إلى جنب مع فرقة موسيقية حية من 10 قطع في مكان جديد بسعة 3000 شخص في الحديقة الأولمبية بالمدينة، يسمى «أبا أرينا»، وسيتم طرح التذاكر للبيع العام يوم الثلاثاء 7 سبتمبر (أيلول).
أعلنت الفرقة في أبريل (نيسان) 2018 عن عودتها إلى الاستوديو للمرة الأولى منذ أربعة عقود، حيث سُجلت يومها أغنيتان هما «آي ستيل هاف فايث إن يو» و«دونت شات مي داون»، حسب الصحافة الفرنسية. وقال بيتي أندرسون في حديث عبر تلفزيون «إس في تي» السويدي الحكومي، «كانت لدينا هاتان الأغنيتان، وبدا لنا ذلك خفيفاً، فقلنا لأنفسنا: لماذا لا نسجل بضع أغنيات إضافية؟ وهذا ما فعلناه، وكان ذلك جيداً، فأكملنا وسجلنا ألبوماً كاملاً».
أما عن الصورة الرقمية التي اختيرت لتعيد «الآبا» لجمهورها، فلم تكن سهلة التنفيذ، حسب ما قال الخبير في شؤون المجموعة السويدي كارل ماغنوس بالم، لوكالة الصحافة الفرنسية، مشيراً إلى أن أعضاء الفرقة «واجهوا مشكلات مع التكنولوجيا، ولم تحصل الأمور فعلياً كما كانوا يأملون».
وعلق بيني أندرسون: «نحن حقاً نبحر في مياه مجهولة. بمساعدة ذواتنا الشابة، نسافر إلى المستقبل». تم إنشاء الصور الرمزية الرقمية لـ«Abba» باستخدام تقنية التقاط الحركة، على غرار تلك المستخدمة لتصوير وحوش «CGI» في أفلام هوليوود، حيث تم تصوير المجموعة ببدلات ضيقة. وصمم واين ماكجريجور، الفنان المقيم في Royal Ballet بلندن، أداء الفرقة، وقام فريق قوامه 850 فرداً من شركة المؤثرات الصناعيةIndustrial Light & Magic» »، التي أسسها جورج لوكاس بتصميم وتحريك الصور الرمزية التي لا تتقدم في العمر من اللقطات.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)