التاريخ المنسي للمطعم الأول في العالم

TT

التاريخ المنسي للمطعم الأول في العالم

خضع مفهوم المطعم لتغييرات كبيرة عبر السنين. من ظهور الطلبات «بالنقر والجمع - الطلب إلكترونياً ثم التسلم من أقرب فرع» إلى ظهور المطابخ الشبحية حيث تعد الوجبات للتوصيل المنزلي بواسطة طهاة بدون وجود مطعم فعلي. وحتى قبل تفشي الوباء، كان المستهلكون يتحركون بعيداً عن زيارة الموقع الفعلي للمطعم، التحول الذي تسارع بفعل الجائحة. حتى صارت الطرق الجديدة لتناول الطعام تشكك في هوية المطعم نفسه، وتدعونا للتحقق في أصوله.

- فرنسا مسقط رأس المطاعم
إن كلمة «مطعم» كما نفهمها اليوم كانت مقبولة لدى الأوساط الأكاديمية الفرنسية منذ عام 1835 — وهي الهيئة الحاكمة للاستخدامات الرسمية للغة الفرنسية. وحتى ذلك الحين، كان «المطعم» الذي يُسمى أيضاً «مطعم بويلون» (الحساء)، عبارة عن طبق يتكون من اللحم، والبصل، والأعشاب، والخضراوات، هو حساء بخصائص طبية وهضمية، وكان هدفه استعادة الناس لصحتهم.
وعلى هذا فإن المصطلح «مطعم» كان يحمل في بدايته دلالة طبية، والأماكن التي قدمت هذا الحساء الشافي في ستينات القرن العشرين كانت تسمى أيضاً «البيوت الصحية».

- المطعم الأول
افتتح أول مطعم كما نعرفه الآن في باريس عام 1765 على شارع دو بوليز، شارع اللوفر اليوم. ونُقشت على مقدمة المطعم عبارة لاتينية من الكتاب المقدس تقول: «تعالوا إلي، أولئك الذين تؤلمهم بطونهم، وأنا أعالجكم».
كان اسم المالك «ماثورين روز دي شانتواسو». وذكرت كتابات أخرى أنه شخص يدعى السيد بولانغر. فقد باعت المؤسسة أطباق «المطعم» مثل الدواجن، والبيض، والمعكرونة المزبدة، وكعك السيمولينا، الذي يقال إن للونه الخفيف فوائد صحية. وحظي في البداية بنجاح على مستوى الطهي بفضل طبق الدجاج الذي كان رائجاً بكل أنحاء باريس.
ذكر الفيلسوف دينيس ديديدرو «المطعم» في وقت مبكر يرجع لعام 1767 في رسالة إلى مراسلته وحبيبته صوفي فولاند. ويصف الكاتب إدوارد فورنير ذلك في كتابه «باريس ديمولي: موسايك دي روينز»، أو (باريس المتهدمة: فسيفساء الأطلال)، الصادر علم 1853.
ويقال إن روز دي تشانتواسو هو أول من طرح المفهوم المبتكر لتقديم الطعام دون جدول زمني محدد، على طاولة فردية مع عرض مجموعة مختارة من الأطباق، محددة السعر مسبقاً، على الجانب الخارجي للمبنى.
في ذلك الوقت، في فرنسا ما قبل الثورة، كان المكان الوحيد للأكل خارج المنزل هو في حانة أو نُزُل. لكن هذه الأماكن لم تقدم سوى (موائد الضيوف) مع طبق واحد، بسعر غير محدد مسبقاً، حيث يأتي الناس في وقت معين فقط. لم تكن الجودة ممتازة دائماً — فالناس الذين ذهبوا إلى هذه الأماكن كانوا يأكلون ولا يستمتعون بطعم المأكولات. وكانت معامل التحميص ومتعهدو الطعام الموجودون آنذاك لا يستطيعون إلا بيع القطع الكاملة فقط وليس الحصص المنفردة.
أحرزت هذه الطريقة الجديدة للأكل نجاحاً عظيماً، وانتشر ثم تطور هذا الأسلوب من المطاعم. وأصبح مفهوم متعة الأكل هو السائد، وتطور فن الطهي، وأصبح إلى حد ما أكثر ديمقراطية. وقبل ذلك، كان الأشخاص الوحيدون الذين أكلوا طعاماً جيداً في فرنسا هم رجال البلاط في قصر فرساي وغيرهم من النبلاء الذين كان لديهم طهاة شخصيون.

- ميلاد قائمة الطعام
قبل الثورة الفرنسية، كان العديد من المطاعم، التي بلغ عددها نحو مائة مطعم، ذائعة الصيت في العاصمة. وكان الزبائن يأتون إليها لتذوق الأطباق التي تسر أذواقهم، وليس لمجرد سد جوعهم.
وكان المطعم في ذلك الوقت مكاناً فخماً يمكن العثور عليه بصورة رئيسية في منطقة باليه رويال في باريس. وعاش هنا نخبة الزبائن الأثرياء القادرين على تحمل تكاليف الوجبات، والتي برغم أنها لم تعد مخصصة للأرستقراطيين، إلا أنها لم تكن أقل تكلفة.
كان الابتكار الممتاز بذلك الوقت يكمن في تقديم القائمة. وغالباً ما كانت المطاعم تقدم مجموعة كبيرة من الأطباق، لذا، كما تذكر المؤرخة ريبيكا سبانغ، كان على المدعوين عادة الاختيار من مجموعة أصغر من هذه الأطباق، المعروضة في القائمة (مشتقة من اللفظة اللاتينية «minutus» وتعني «الصغير»).
كان أنطوان بوفيلييه، المشرف السابق في مطبخ كونت بروفانس شقيق الملك، هو أول طاهٍ خصوصي يترك خدمة سيده ويقيم مشروع المطعم الخاص به في باريس. وفي عام 1782، افتتح مطعم «لو بوفيلييه» في باليه رويال بشارع دي ريشيليو.
وسرعان ما حقق هذا المكان الفاخر نجاحاً كبيراً لأنه منح زبائنه — الأرستقراطيين بصفة رئيسية — فرصة تناول الطعام كما لو كانوا في قصر فرساي. كان المشهد رائعاً، والخدمة خالية من الأخطاء، والأطباق ممتازة، ومقدمة بعناية على الصحون الفاخرة. ولسنوات عديدة، لم يكن لمطبخه منافس في المجتمع الباريسي الراقي. وهكذا يعتبر «لو بوفيلييه» أول مطعم متخصص في فنون الطهي الفرنسية.
في السنوات التي سبقت ثم أعقبت الثورة الفرنسية، اتبع العديد من الطهاة الذين عملوا سابقاً مع النبلاء نموذج «بوفيلييه»، وفتحوا المطاعم الخاصة بهم. فقد انتقل المطبخ النوعي القائم على الوصفات، والطقوس، والأساليب الجديدة لتناول الأكل من المطابخ الخاصة للطبقة الأرستقراطية إلى المطابخ العامة للمجتمع الراقي.
فقد ظهرت مطاعم فرنسية متخصصة في فنون الطهي، وأنشئت أيضاً ماركات شهيرة فاخرة مثل «فيري»، و«لي تروا - فريس بروفنسو»، أو مطعم «لو غراند فيفور» الذي لا يزال يعمل حتى الآن.
إن الجانب الطبي لمطاعم «بويلون» الأولى قد تلاشى منذ زمن بعيد وجرى بالفعل استبداله.
- خدمات تريبيون ميديا


مقالات ذات صلة

فعاليات «موسم الرياض» بقيادة ولفغانغ باك تقدم تجارب أكل استثنائية

مذاقات الشيف الأميركي براين بيكير (الشرق الأوسط)

فعاليات «موسم الرياض» بقيادة ولفغانغ باك تقدم تجارب أكل استثنائية

تقدم فعاليات «موسم الرياض» التي يقودها الشيف العالمي ولفغانغ باك، لمحبي الطعام تجارب استثنائية وفريدة لتذوق الطعام.

فتح الرحمن يوسف (الرياض) فتح الرحمن يوسف (الرياض)
مذاقات فواكه موسمية لذيذة (الشرق الاوسط)

الفواكه والخضراوات تتحول الى «ترند»

تحقق الفواكه والخضراوات المجففة والمقرمشة نجاحاً في انتشارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتصدّر بالتالي الـ«ترند» عبر صفحات «إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك»

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات طواجن الفول تعددت أنواعها مع تنوع الإضافات والمكونات غير التقليدية (مطعم سعد الحرامي)

الفول المصري... حلو وحار

على عربة خشبية في أحد أحياء القاهرة، أو في محال وطاولات أنيقة، ستكون أمام خيارات عديدة لتناول طبق فول في أحد صباحاتك

محمد عجم (القاهرة)
مذاقات الشيف أليساندرو بيرغامو (الشرق الاوسط)

أليساندرو بيرغامو... شيف خاص بمواصفات عالمية

بعد دخولي مطابخ مطاعم عالمية كثيرة، ومقابلة الطهاة من شتى أصقاع الأرض، يمكنني أن أضم مهنة الطهي إلى لائحة مهن المتاعب والأشغال التي تتطلب جهداً جهيداً

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)

الشاي... من الفنجان إلى الطبق

يمكن للشاي أن يضيف نكهةً مثيرةً للاهتمام، ويعزز مضادات الأكسدة في أطباق الطعام، وقد لا يعرف كثيرٌ أننا نستطيع استخدام هذه النبتة في الطهي والخبز

نادية عبد الحليم (القاهرة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».