صورتها تُخرج من الأعماق براكين الغضب، اسمها: بهاء جورج قسطنطين، وهي في الحقيقة صوت الآلام جميعها. توافد الحضور إلى حديقة جبران خليل جبران، قرب السرايا الحكومية في بيروت، أمام مبنى «الإسكوا»، يحملون لافتات تنادي بأبسط حق إنساني: «بدنا دوا السرطان». الاعتصام بدعوة من «جمعية بربارة نصار»، أراد إيصال صرخة إلى عمق مبنى الأمم المتحدة. تحاول الكمامة إخفاء ملامح تبدو متعبة. تفضل مناداتها بـ«باهو»؛ هذه الشابة الجبارة، المتمسكة بأعناق الحياة. تتنقل بين وسائل الإعلام الموجودة بكثافة لتغطية التجمع، وكم تحمل من الشجاعة والعزم لتعيد سرد المعاناة! الباحث في حسابها «الفيسبوكي» يجد صوراً قديمة لشابة طويلة الشعر تشع وتتوهج. لم تبقَ سوى شعيرات قليلة في خلفية رأسها المثقل بهمّ الشفاء، بعدما امتدّ السرطان إليه من ثدييها. «مستعدة لتحمل آلامي»، تقول لـ«الشرق الأوسط»، مضيفة: «فقط أريد الدواء».
تحاول «باهو» القبض على الدمع. لا تريد أن تبدو «ضعيفة». تحبس الوجع وتبتلع المفتاح. تريد فقط أن تصل الصرخة. «أوصلوا أصواتنا»، تقول للصحافيين، مضيفة: «إننا نموت كل يوم». توقفت عن متابعة العلاج منذ شهرين، فهو مقطوع، واستيراده باهظ بالدولار. تحاول عن الجميع. لا تريد الموت. هل من أحد يريده حقاً، حتى أكثر البشر إحباطاً ويأساً؟ ترفض الاستسلام: «سأحارب للنهاية».
ساعة السرايا الحكومية العملاقة تشير خطأ إلى الحادية عشرة إلا عشر دقائق، والوقت عصراً في وسط بيروت المنكوب. على بُعد أمتار من التوقيت البيروتي الجامد، تقف بهاء قسطنطين التي ملأت صورتها خلال الاعتصام «السوشيال ميديا»، كجبل صلب رغم الأحمال. بدأت «باهو» العلاج في 17 سبتمبر (أيلول) 2020. ومنذ شهرين توقفت. تخبرنا عن تعب جسدي يرافق مسار الشفاء، وحياة تغيّرت تماماً، كما تغيّر الشكل، فتساقط الشعر، ضعفت الأظفار وأسود الجلد: «أتذكر، فأتألم بما يفوق آلام العلاج!».
لِمَ يحارب المرضى؟ «أحارب على أمل الشفاء. الآن، لا علاج. صحتي تتدهور والسرطان ينتشر». يفرض البروتوكول الصحي الالتزام بالدواء كل ثلاثة أسابيع. «منذ شهرين وأنا من دونه». بكل آلام الإنسانية، تتحمّل التنقل من وسيلة إعلامية إلى أخرى، لتصل الاستغاثة: «أحارب من أجلي وأجل الآخرين».
تمتلئ العين بدمعة تشاء أن تُذرف لولا قرار الصلابة: «نحتاج إلى العلاج. إن لم يصغِ إلينا أحد، ويدعم ويساعد، قد أصبح ميتة بعد شهرين».
شكراً لـ«جمعية بربارة نصار» على الجهد الإنساني لدفع الموت عمن يستحقون الحياة. بإمكانها السعي إلى دعم خارجي، جمع تبرعات وتأمين أدوية بسيطة، لكنها لا تحل مكان الدولة، ولا تستطيع المجيء بعلاجات متطورة. الاستيراد يحتاج إلى ظروف خاصة كالتبريد العالي، وقد تصل الكلفة إلى عشرة آلاف دولار. 200 مليون ليرة ثمن الجلسة!
يتحدث رئيس الجمعية، هاني نصار، لـ«الشرق الأوسط» والعرق يتصبب على وجهه. ليس لأنه الحرّ فحسب، بل لأنها المسؤولية والقضية. أصاب السرطان زوجته بربارة في 2009. وقال الأطباء إنّ العمر لن يمتد لأكثر من عام. ظلّت تكافح وتتحدى. في عيد زواجهما، العام 2012، طُلب منهما وداع بعضها بعضاً. وبعد عام، ومن القرنة السوداء (قمة في شمال لبنان)، أرسلت بتحية إلى الطبيب تقول له: «لا أزال حيّة. الأعمار بيد الله». «عاشت مرضها بقوة وآمنت بالأمل»، يصفها الزوج بوفاء. يريد من كل مريض مواجهة مرضه كما واجهت، بشجاعة وإصرار. بعد رحيلها بسنة، تأسست جمعية تحمل اسمها في 2015 لمساعدة الكبار، فيما معظم الجمعيات اللبنانية تهتم بالأولاد المصابين بالسرطان. «الكرامة هي الأساس. الموت حق، لكن بكرامة». في مقطع فيديو طلبت بثه خلال دفنها، تركت رسالة: «لا تخافوا ممن يقتل الجسد. خافوا ممن يقتل الروح».
يقاطع مريض الحديث مع نصار، ليسأل عن كيفية التواصل لتسريع شفائه. خمسون طبيب سرطان هم اليوم في الجمعية، عدا المتطوعين. ثلاثة مواعيد أُرجئت مع وزير الصحة، و«طلبنا موعداً من المدير العام للوزارة، ولا جواب. يرمون الكرة المشتعلة على مصرف لبنان. كفى تراشقاً للتهم. حياة المريض لا تنتظر».
تنضم إلى الاعتصام منسقة الأمم المتحدة في لبنان للشؤون الإنسانية نجاة رشدي. يناشدها هاني نصار والمرضى: «عليكم بالتدخّل. الدولة تقتل الشعب. ساهموا بوصول الدواء من الخارج ليستكمل المريض علاجه». تعلم مدى الهول، وأنّ بشراً يموتون على مرأى سلطة تتفرّج. «يمكنكم التعويل علينا. طلبنا من الدول الشقيقة والعالم المساعدة. معيب ما يحدث. سأوصل أصواتكم بالطبع». بينما تتحدث رشدي، علا صوت: «دولتنا تسرق الدواء وتتاجر به». وصوت آخر: «أين وزارة الصحة؟». وسيدة تصوّر فيديو، وكاميرا هاتفها نحو وجهها: «We should stop this genocide».
نبيل القاسم، مريض سرطان بالنخاع الشوكي، يأمل بتأمين الدواء بعد الصرخة. أوقف العلاج منذ أربعة أشهر، وبأنفاس تكاد تختنق يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا دواء ولا قدرة على دخول المستشفيات. لم أعد أنتظر شيئاً. لا أمل مع هذه الدولة. ننتظر آخرتنا فقط».
«بدنا دوا السرطان»... صرخة مدوية لمرضى لبنانيين أوقفوا العلاج لفقدان الأدوية!
اعتصام أمام «الإسكوا» في بيروت
«بدنا دوا السرطان»... صرخة مدوية لمرضى لبنانيين أوقفوا العلاج لفقدان الأدوية!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة