صدر للناقد السينمائي المغربي محمد شويكة، ضمن منشورات دائرة الثقافة بالشارقة، كتاب جديد تحت عنوان «السينما العربية تجارب... رؤى... رهانات».
وجاء في مقدمة هذا العمل أنه «يصعب الحديث عن السينما في العالم العربي بالجمع، لأن لكل قطر تاريخه الخاص في مجال الفن السابع، كما أن المستويات مختلفة من حيث التكوين والصناعة والرهان والتلقي».
لا يقدم الكتاب جرداً للمعطيات الكمية المرتبطة بالسينما في العالم العربي، وإنما يطرق بعض الإشكالات ذات السمة العربية والإنسانية الكونية، وذلك من خلال علاقة الصورة بالذات وبالآخر، حيث إن الواقع يطفح، كما يقول شويكة، بالظواهر التي تثير فضول الناقد من الناحية السوسيولوجية والسياسية والفكرية والبصرية. ومع ذلك، ورغم التفاوت الحاصل على مستوى الحذر من الصورة، والانخراط في صناعتها، فقد «استطاع بعض المبدعين العرب أن يخترقوا كل السلطات الكابحة، وأن يحلقوا في سماء الإبداع بعيداً عن المحلية الضيقة».
اختار شويكة الوقوف عند نماذج متباينة من حيث الجغرافيا والشهرة والتأثير، حيث يقطن مبدعوها بداخل أوطانهم أو سافروا إلى الخارج نتيجة ظروف غير مناسبة لهم، فضلاً عن السينما التي ينتجها الجيل الجديد من العرب الذين ازدادوا وترعرعوا بأوروبا، فدرسوا بها وتشبعوا بثقافتها وقيمها، ولكن التربية الأبوية والتنشئة الاجتماعية جعلتهم ينشدّون إلى ثقافاتهم الأصلية، وذلك ما جعلهم ينخرطون في إنجاز أفلام نقدية تجاهها، لينتجوا رؤى تثير الاهتمام والمناقشة.
يأتي الكتاب، كما جاء في مقدمته، ضمن «رؤية نقدية تحاول مقاربة السينما في الوطن العربي ضمن الشروط الإبستيمية المنتجة لها». وهو يعبر عن وجهة نظر خاصة لا تَدَّعِي الإحاطة أو الشمولية أو التأريخ. بل، يندرج ضمن تصور يبحث عن الأسئلة الراهنة (الحارقة) التي تطرحها الظاهرة السينمائية في وطن مجتمع - متفرق، واحد - متعدد، منسجم - متنافر، متقارب - متباعد. كتابٌ يحاول الانطلاق مما تمت مراكمته استناداً على التجربة القطرية المغربية ثم المغاربية، وذلك بغرض ربط أسئلة المخرجين المغاربيين بنظرائهم المشارقة قصد مقارنتها، واستكشاف هواجسها، والوقوف عند جمالياتها العامة والخاصة.
وكتب شويكة موضحاً طريقة تعاطيه مع مضامين الكتاب: «التحليل ديدني، والانفتاح على التجارب مقصدي، وهي أهداف ترفدها ترسانة منهجية ومفاهيمية منفتحة على الفلسفة والعلوم الإنسانية لتعميق النقاش وتبادل الشغف مع النقاد والباحثين وعموم القراء المهتمين بالسينما في العالم العربي». قبل أن يتساءل: «كيف يمكن الحديث عن السينما العربية؟ ما هي خصوصياتها؟ هل تشكل قوة اقتصادية خارج فضائها اللغوي؟ هل هي متكافئة؟ كيف تتبلور الرؤية الجمالية لدى بعض أعلامها؟ ما مدى تأثيرها في محيطها القريب والبعيد؟».
يرى شويكة أن «السينما تنبني على رؤية عميقة لقضايا الوجود والمعرفة والقيم»، إذ «ليست الكاميرا مجرد آلة محايدة، بل تكشف لنا عن نسق منظم يتوفر على سَنَنٍ بصري وثقافي يسعى إلى الإقناع وفق منطق متعدد: تقني، لغوي، بصري، آيديولوجي».
يقترح شويكة رصداً لأوضاع السينما العربية، من حيث التأسيس للاحتراف والبنية التحتية لصناعة الأفلام، ملاحظاً أن جل الدول العربية لم تنخرط في بناء معاهد أكاديمية كي يتم التأسيس، جدياً، لإرساء أسس الاحتراف، وقطع الطريق أمام الهواية والادعاء، حيث إن غالبية الدول العربية لا تتوفر على بنية تحتية لصناعة الأفلام السينمائية خاصة المختبرات الخاصة بمعالجة الصورة والصوت وغيرهما.
وشدد شويكة على أن معظم هذه الدول لا تراهن على الصورة لأسباب مختلفة تتراوح بين ما هو آيديولوجي وما هو سياسي، كالخوف من خطورتها، وضغط النُخَبِ المُحَافِظَة، والاشتغال بالأولويات الملحة. ولذلك، تستهلك الدول غير المنتجة لصورتها المحلية عدداً لا يُحصى من الأفلام الأجنبية، الشيء الذي يجعلها عُرضة للاستلاب والاختراق والغزو البصري والقصف الخيالي، كظواهر تؤثر سلباً على الأجيال، وتساهم في خلق شرخ عميق في شخصياتهم. ولذلك، لا تخرج السينما في المنطقة العربية عن نطاق التصور العام لكل قطر من الأقطار العربية للحداثة والحرية والزمن، وما يستتبعها من تفاصيل قد تضيق أو تتسع دائرتها.
يرى شويكة أن التجارب السينمائية في البلدان العربية تتباين بشكل جذري، مشيراً إلى أنه إذا استطاعت مصر أن تغزو العالم العربي وتؤثر فيه بواسطة صناعتها السينمائية إلى الدرجة التي يمكن تسميتها بهوليوود العرب، فإن بعض الدول لم تستطع الانخراط بشكل فعلي في مجال صناعة السينما، ولا تتوفر على استراتيجية قارة في المجال، كما أن دولاً قد تراجعت بها هذه البنيات كالجزائر وتونس، وأخرى تتطور فيها هذه السينما بشكل متصاعد، كالمغرب، فضلاً عن أقطار تحافظ على معدل إنتاج قليل كسوريا، أما فلسطين ولبنان فيستمران في الإنتاج بفضل إصرار منتجيهما ومخرجيهما الخواص على بلورة صناعة سينمائية ذات خصوصيات مغايرة، ويسعى بعض المخرجين اليمنيين إلى تحدِّي صعابٍ بنيوية لإنجاز نزر قليل من الأفلام، وتشحذ دول أخرى، كالإمارات العربية المتحدة، كل هممها لتوطيد دعائم إنتاج سينمائي دائم في حين دَمَّر غزو العراق البنية السينمائية التحتية، كما تكشف ذلك الأفلام الروائية، الطويلة والقصيرة، المُنْتَجَة فيه بعد سقوط النظام. فيما لا يمكن الحديث عن السينما ببعض الدول العربية.
وتحدث شويكة عن الصورة، فقال إنها تشكل، اليوم، رهاناً حضارياً يرتبط بشكل وثيق بالعولمة، إذ «بالقدر الذي تنتشر به التكنولوجيا وتكتسح مختلف التشكلات الاجتماعية، تتعدد المنتوجات المسموعة والمرئية، ويزداد استهلاكها بفضل تخفيض كلفتها وتسهيل أنماط ولوجها، وذلك من خلال انتشار الرقمنة بدء بالهواتف المحمولة، وشاشات التلفزيون، والكاميرات اليدوية الخفيفة، والإنترنت وما يرتبط بها من توابع وملحقات»، لافتاً إلى أن هذه التكنولوجيات تؤثر بشكل مباشر في المجتمعات العربية التي تُعتبر سوقاً مفتوحة لهذه المنتوجات، التي يظل أمر استهلاكها مفتوحاً على الأهواء الفردية كأي منتوج صناعي آخر. وبالتالي، فالمسألة تبقى في «غاية الخطورة»، من منطلق أن الأمر لا يتعلق بـ«إشباع بيولوجي عابر»، وإنما بـ«آليات ذات تأثير على الذاكرة والمخيال والوجدان».
ويعتقد شويكة أن الأجيال الجديدة في العالم العربي تحاول أن تنخرط في إنتاج «سينما» تختلف كَمّاً وكيفا، وهي تسعى إلى أن تنشرها عبر مختلف الوسائل المتاحة، خاصة أن مفهوم السينما خضع بدوره إلى تغيرات جذرية هزت مفهومه الذي كان يتأسس على اعتبار أنها صناعة ثقيلة، وذلك لحساب رؤية جمالية جديدة تتعامل مع الفيلم كرؤية يمكن أن نحققها، مثلاً، عبر كاميرا الهاتف الجوال وغيره من العتاد المرئي الخفيف.
فضلاً عن مقدمته، يتضمن الكتاب ثلاثة فصول: فصل أول، حول قضايا الواقع والإبداع، فيما يتناول الثاني نماذج ورؤى من الداخل، والثالث نماذج ورؤى من الخارج. على مستوى التجارب والأفلام، من جهة النماذج والرؤى من الداخل تناول شويكة بعض الملامح السوسيو - أنتروبولوجية لفكرة «الجميل» في أفلام يوسف شاهين القصيرة، فضلاً عن أفلام فيلم «مدام كوراج» لمرزاق علواش من حيث البساطة العميقة، وفيلم «تمبوكتو» لعبد الرحمن سيساكو من حيث رهافة الجمال وبؤس العنف، مع قراءة في فيلم «السنونوة» لمانو خليل، وفيلم «على حلة عيني» لليلى بوزيد من حيث الغناء رمزاً للتحرر، وفيلم «الشجرة النائمة» لمحمد راشد بوعلي من حيث مساءلة العلاقة الملغزة للحياة والموت، وفيلم «قصر الدهشة» لمختار العجيمي من حيث أقنعة الثورة الخفية، وفيلم «آخر الزمان» لياسمين شويخ من حيث المقبرة مجازاً سينمائياً، وفيلم «صمت الفراشات» لحميد باسكيط من حيث جمالية الانتقال بين الأنواع السينمائية.
من جهة النماذج والرؤى من الخارج، تناول شويكة مفهوم النمطية السينمائية من خلال فيلم «باريس... بأي ثمن» لريم خريسي، كما تناول فيلم «البقرة» لمحمد حميدي من حيث رمزية البدائل السينمائية، وفيلم «طواف فرنسا» لرشيد جعيداني من حيث سؤال الهوية الهجينة، وفيلم «ذيب» لناجي أبو نوار من خلال سؤال: «هل يمكن تجاوز الصور الاستشراقية؟»، وفيلم «طعم العسل» لمانو خليل من حيث استعارة الخبز والبصل... النحل والعسل.
السينما... علاقة الصورة بالذات والآخر
تتباين التجارب السينمائية في البلدان العربية بشكل جذري
السينما... علاقة الصورة بالذات والآخر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة