خطة متحف «يوفيزي» بفلورنسا لإنعاش المدن الصغيرة في توسكانا

يعير متحف «يوفيزي» في فلورنسا الأعمال الفنية من مستودعاته  إلى أصغر المدن في جميع أنحاء توسكانا ما زاد من جاذبيتها وتعزيز روابطها مع المنطقة
يعير متحف «يوفيزي» في فلورنسا الأعمال الفنية من مستودعاته إلى أصغر المدن في جميع أنحاء توسكانا ما زاد من جاذبيتها وتعزيز روابطها مع المنطقة
TT

خطة متحف «يوفيزي» بفلورنسا لإنعاش المدن الصغيرة في توسكانا

يعير متحف «يوفيزي» في فلورنسا الأعمال الفنية من مستودعاته  إلى أصغر المدن في جميع أنحاء توسكانا ما زاد من جاذبيتها وتعزيز روابطها مع المنطقة
يعير متحف «يوفيزي» في فلورنسا الأعمال الفنية من مستودعاته إلى أصغر المدن في جميع أنحاء توسكانا ما زاد من جاذبيتها وتعزيز روابطها مع المنطقة

هذه القرية الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها نحو 300 نسمة، وتقع على بُعد 40 ميلاً شمال شرق فلورنسا، لم تكن قط ضمن قائمة أشهر المعالم الإيطالية. وادعاؤها الرئيسي للشهرة أنها كانت مسقط رأس رسام عصر النهضة «أندريا ديل كاستانيو»، الذي غادر في سن الطفولة، على الأرجح قبل بلوغه من العمر ما يكفي للرسم على الجدران المحلية (إذا كان قد فعل، فلا وجود لبقايا رسوماته).
ولكن هذا الصيف، زادت السياحة الثقافية هنا بحدة بعد أن أعار متحف يوفيزي القرية لوحة جدارية مرممة حديثاً من أعمال «ديل كاستانيو» للشاعر دانتي أليغييري. وتتزامن إعارة اللوحة مع الاحتفالات الوطنية بالذكرى الـ700 لوفاة دانتي، وكذلك الذكرى الـ600 لميلاد الفنان.
وصول الجدارية كان من أول إجراءات برنامج «يوفيزي ديفوسي»، أو «أوفيزي المبعثر»، وهي مبادرة من ابتكار مدير المعرض إيكي شميت. يهدف «يوفيزي ديفوسي» إلى بناء روابط أقوى بين متحف فلورنسا الشهير والبلدات المنتشرة في جميع أنحاء منطقة توسكانا المجاورة عن طريق إقراضها الأعمال الفنية المحفوظة عادة في المخازن.
قال شميت في مقابلة عبر الهاتف: «ما لدينا في المعرض ليس سوى جزء صغير من المجموعة كما هو الحال مع جميع المتاحف الكبيرة».
بدلاً من السير على خطى متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، الذي افتتح فرعاً في دندي باسكتلندا، أو متحف اللوفر، الذي فتح موقعاً فرعياً في لينس بفرنسا، قال شميت إنه يريد أن يذهب في «اتجاه مختلف قليلاً ويعمل فعلاً على تنشيط المنطقة بالكامل»، باستخدام اسم يوفيزي الشهير كبطاقة للتواصل.
قال شميت: «لا يمكنك فعل ذلك في جميع أنحاء العالم. لكنني أعتقد أنها فرصة مثالية في توسكانا بسبب ارتباط المجموعة بالمنطقة. ولتعزيز الرؤية، يستخدم «أوفيزي» حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي الشعبية للتواصل بين الأماكن المشاركة في المبادرة.
إن جدارية ديل كاستانيو هي واحدة من أقدم صور دانتي الباقية حتى الآن، وكان عرضها في كاستانيو دي أندريا بمثابة «حلم تحقق» لإيمانويل بياني، عمدة سان غودينزو، البلدة المجاورة التي تضم القرية المذكورة ضمن نطاق سلطتها الإدارية.
تم تركيب اللوحة الجدارية في الغرفة الأولى لما أطلق عليه المسؤولون المحليون «المتحف الافتراضي» لأعمال ديل كاستانيو، الذي يتكون في معظمه من صور فوتوغرافية لأعظم أعماله الفنية، مستنسخة على نطاق محدود. المتحف يقع داخل مركز زوار الحديقة الوطنية للمنطقة، التي أدرجت غاباتها القديمة في 2017 ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو.
يقول بياني: «ترتبط السياحة إلى المنطقة عادة بالحديقة الوطنية، حيث تجذب عشاق التنزه وركاب الدراجات في الغالب»، وأضاف أن إعارة اللوحة الجدارية هي وسيلة لأنواع أخرى من السياح للتعرف على منطقتنا».
هذا يتوافق مع وجهة نظر شميت للمبادرة. وقال: «إننا نأمل فعلاً أن نروج لشكل جديد من السياحة يشمل كلاً من الجوانب الثقافية والطبيعية».
توجد على بُعد 30 ميلاً جنوب كاستانيو دي أندريا أبراج قلعة أسطورية فوق بلدة «بوبي»، لطالما جذبت السياح إلى هذا الجزء من توسكانا، وهو وادٍ يقع في جبال الأبينيني المعروفة باسم كازنتينو. ويقول رئيس بلدية بوبي، كارلو توني، إن القلعة التي شيدت في القرن الـ13 «كانت دائماً مركز قوة، ولذلك كانت دائماً محفوظة بشكل جيد».
وعندما علم توني بمبادرة «يوفيزي»، كتب إلى شميت مقترحاً استخدام القلعة كمكان للعرض - وفيها أخفت القوات النازية بعض الأعمال المنهوبة من المعرض خلال الحرب العالمية الثانية، مثل «ميلاد فينوس» لبوتيتشيلي و«دوني توندو» لمايكل أنجلو.
وكانت النتيجة معرض بعنوان «بالإشارة إلى دانتي، كازنتينو في الكوميديا المقدسة»، الذي يستمر حتى 30 نوفمبر (تشرين الثاني). هناك 6 من الأعمال الـ7 المعروضة — بما فيها 4 رسومات لفنانة القرن الـ16 فيديريكو زوكاري — هي من «يوفيزي».
قال توني: «تجذب القلعة الزوار بمفردها، ولكن إذا كانت هناك قيمة مضافة، فسوف يأتي المزيد من الناس».
عندما أعلن شميت عن المشروع في العام الماضي، كانت لديه «أطنان من الرسائل والمكالمات الهاتفية» من المسؤولين المحليين ومديري المتاحف الأصغر حجماً. وشرعت مجموعة عمل من «يوفيزي» في القيام بجولة في البلدات «للنظر فيما يمكننا فعله، وما إذا كانت المواقع ملائمة».
وحتى الآن، طلبت نحو 60 مدينة المشاركة، وهناك نحو 20 مشروعاً قيد الإعداد لعامي 2022 و2023. والآن، لا حدود للطموحات. في هذا الشهر منح شميت لإيلون ماسك مؤسس «سبيس إكس» جولة خاصة في متحف يوفيزي مع عائلته، وأخبره بأنه سوف يفكر بسعادة في مشروع «يوفيزي ديفوسي» إذا ما تم افتتاح محطة فضائية على المريخ.
يقول شميت: «إذا نظرنا إلى المدى البعيد، أعتقد أن الأعمال الفنية سوف تنتقل إلى كواكب أخرى. أعتقد أنه إذا كان الجنس البشري سوف يستقر على كوكب آخر، فأعتقد أن الفن سيكون جزءاً أساسياً منه، وأن الأعمال الفنية يجب أن توجد هناك».
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)