يرتبط الموت في أذهان البشر بالدموع والخوف والرهبة، فهو مصيبة المصائب وقمة الأحزان، لكن ماذا لو كان الأمر غير ذلك؟ ماذا لو كان الموت نفسه كائناً يحمل شيئاً من المشاعر الإنسانية؟
العرض المسرحي «سيدة الفجر» الذي يقام حالياً على مسرح الطليعة بالعتبة (وسط القاهرة)، يسعى لاقتحام مثل هذه الأسئلة المحيرة التي تشغل بال الجميع منذ الأزل عبر نص مدهش مليء بالتشويق كتبه الإسباني أليخاندرو رودريغز ألفاريز المعروف بـأليخاندروا كاسونا (1903 - 1965) وأعدّه وأخرجه أسامة رؤوف.
ففي حين يتوافد المتفرجون إلى قاعة العرض، يفاجأون بأنّه لا توجد خشبة عرض، فالمكان هنا ينتمي إلى ما يعرف بـ«مسرح الغرفة»، حيث يتحطم الحاجز الوهمي بين الجمهور والممثلين ويوجد الطرفان في غرفة واحدة بلا فواصل أو حواجز، لم يبدأ العرض بعد، ومع ذلك ثمة موسيقى ذات إيقاعات جنائزية تصدح بقوة فيما تقف سيدة في منتصف العمر «جسدت شخصيتها نشوى إسماعيل» تتشح بالسواد وتدفن رأسها بين قدميها... يبدأ العرض فإذا بصوت ينادي بهمس: أماه، فترد الأم المكلومة: أنجلا... أين أنت يا أنجلا؟ يسمعها أبو الأم «مجدي شكري»، فيهرع إليها ويقول بصوت يعتصره الألم: «لقد فقدناها يا بنيتي، فلتحاولي النسيان لأنّ الحياة يجب أن تستمر».
تتوالى الأحداث لنعرف أنّ الأم الحزينة تشعر بالقهر ليس فقط لرحيل ابنتها، بل لأنّها لم تجد جثتها حيث غرقت في مياه النهر بتلك القرية، كان ذلك في اليوم الثالث من زواج «أنجيلا» الجميلة بـمارتن «مصطفى عبد الفتاح» الشاب الوسيم الشهير بقدراته في الفروسية وترويض الخيول. يحاول أحد الخدم في بيت تلك العائلة التخفيف عن صاحبة المنزل مذكراً إياها بأنّها إذا كانت قد فقدت ابنة فهو فقد سبعة أبناء، لا يلين قلب الأم فتقاطعه معترضة وتؤكد أنه فقد أبناءه في حادث بشع لكنّه يعرف على الأقل أين المقبرة التي تجمعهم، كما يعرف أنّهم تحت الأرض حيث ينبت الزهر والنبات، أما هي فقد فقدت ابنتها تحت الماء حيث لا يمكن أن تُدفن أو يُعثر عليها.
وقبيل الفجر، يشتد نباح الكلب في الحديقة الأمامية للبيت فجأة على نحو يؤكد أنّه رأى غريباً أو عابر سبيل. تظهر سيدة ترتدي قلنسوة بيضاء ومعطفاً أبيض. تعرض عليها صاحبة البيت العشاء والماء لكنّها ترفض شاكرة، مؤكدة أنّها لا تحتاج سوى الدفء الذي تلتمس شيئاً منه وهي تقف أمام نار المدفأة. حينها يدور حوار مطول بين الجد والزائرة الغامضة، يتذكر أنّها سبق له أن رآها عند وقوع بعض الحوادث المشؤومة مثل حادثة انفجار المنجم وحادثة التساقط الكثيف للثلوج على نحو غير مسبوق. هنا يدرك أنّ السيدة ليست سوى الموت نفسه متجسداً في هيئة أنثى، استناداً إلى فكرة أنّ لفظة «الموت» في اللغة الإسبانية مؤنثة وليست مذكرة. يفاجأ الجد بأنّ السيدة تشكو الوحدة والبرودة وأنّها كثيراً ما ضبطت نفسها وهي تكاد تتورط في المشاعر الإنسانية إلا أنّها تعود لأصلها في اللحظة الأخيرة! يسأل الجد: ما الذي أتى بك؟ تجيبه: مجرد إطلالة عابرة ولأخبرك أني سأعود بعد سبعة أقمار!
بعدها يعود «مارتن» وفي يده فتاة أنقذها من محاولة الانتحار غرقاً في مياه النهر، يعتني بها أهل البيت لتتحول بالتدريج وكأنّها بديل لأنجيلا. إنّها أديلا «راندا جمال» الفتاة الرقيقة التي توهب غرفة أنجيلا وفساتينها وقصات شعرها، يحبها «مارتن»، وحين ترفض مشاعره باعتبارها تخص «أنجيلا» يصارحها بأنّ الأخيرة خانته وهربت مع حبيبها في اليوم الثالث من الزواج، وليس صحيحاً أنّها غرقت في النهر، وعند اكتمال القمر السابع، أي بعد مرور سبعة أشهر، تعود أنجيلا للبيت وقد مر أربع سنوات على فرارها عانت في أثنائها كثيراً وتعرضت للإذلال على يد حبيبها المزعوم. لا تجد أحداً في المنزل، فالجميع ذهب للحفل الكبير في القرية، ولا يوجد سوى «سيدة الفجر»، التي تزف نبأ فقد الحياة لأنجيلا وكأنه بشارة ومناسبة سعيدة لينتهي العرض هنا.
العرض شديد التكثيف، يخلو من الترهل، يستولي على المتفرج بالكامل، وقد نجحت الممثلة «نشوى إسماعيل» في تجسيد شخصيتي أم أنجيلا وأنجيلا نفسها، كما أبدعت كل من وفاء عبده وبدور زاد ومي رضا وآية عبد الرحمن في تجسيد شخصيات زائرة الفجر ورفيقاتها اللواتي يتولين نقل من حان أجله إلى الضفة الأخرى من الوجود، كما ظهرت «راندا جمال» باعتبارها صانعة البهجة وسط جو قاتم يخيم عليه شبح الرحيل!
من جهته، يؤكد المخرج أسامه رؤوف، أنّ العمل يحمل رسالة مهمة تتمثل في أنّ الموت ليس بالضرورة نهاية كل شيء، فقد يكون بداية لأشياء أخرى جميلة، وليس معنى أنّه مجهول بالنسبة لنا أن يكون منطوياً على ما هو سيئ ومخيف. ويضيف لـ«الشرق الأوسط»، أنّه حاول إعطاء العرض نكهة تشويقية من خلال الإيقاع السريع والغموض والتوظيف المختلفين لمساحات الإظلام والإضاءة، فضلاً عن إبراز التحولات المفاجئة في الحبكة حتى لا يتسرب أدنى شعور بالملل إلى نفس المتفرج.
الموت يتخفى في «سيدة الفجر»
تعرض حالياً في «الطليعة» وسط القاهرة
الموت يتخفى في «سيدة الفجر»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة