«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

«الشرق الأوسط» تتجول داخل «رومية» في «زمن الانهيار»

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
TT

«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)

الهدوء في سجن رومية (أكبر سجن في لبنان) في ساعات قبل الظهر قد يوحي للوهلة الأولى أن السجن، المرتفع على إحدى التلال شرق بيروت، منفصل عن الواقع اللبناني «التعيس» الذي يعج بعشرات الأزمات التي تنفجر، واحدة تلو أخرى، من دون إذن مسبق. فالتراجع الكبير بعدد الزوار نتيجة عدم تمكن الأهالي الذين يسكنون في الأطراف والمناطق البعيدة من زيارة أبنائهم بشكل منتظم لعدم توفر مادة البنزين، كما للارتفاع الكبير بتكلفة المواصلات، يجعل الحركة فيه مقتصرة إلى حد كبير على عناصر الأمن.
في الحانوت، أي المتجر الصغير الذي يشتري منه الأهالي حاجيات أبنائهم، الملاصق للمبنى «ب» الشهير الذي يؤوي السجناء المصنفين خطيرين وإرهابيين، حركة خفيفة. فمعظم السلع تماماً كما هي الحال في المحال التجارية خارج السجن مفقودة. يقول السجين «ح.ح» الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط» والذي مضى على وجوده في رومية 26 عاماً كونه محكوماً بالإعدام، إنه لم يشهد طوال الأعوام الماضية ما يشهده اليوم من أوضاع صعبة. خلال تقليبه عدداً من الفواتير، يشتكي عدم توافر السلع وغلاء الأسعار.
في المبنى «د» - الذي يؤوي مزيجاً من السجناء، أي موقوفين لم يحاكموا بعد، إضافة إلى محكومين بجرائم قتل وسرقة، وبشكل أساسي تجار مخدرات، كما محكومين بتهم إرهاب، تم تخصيص طابق لهم كي لا يختلطوا بباقي السجناء وينقلوا إليهم أفكارهم المتطرفة، كما يشرح أحد عناصر الأمن - وصلت عند الساعة العاشرة والنصف من صباح الأربعاء الأغراض التي اشتراها أهالي السجناء وأقاربهم، فملأت المدخل الضيق حيث انصرف عدد منهم لتقسيمها تمهيداً لتوزيعها على سكان الزنزانات في الطوابق العلوية. صناديق كثيرة من المياه المعدنية، لحوم، زيت، فواكه، أكواز ذرة وغيرها كثير من المواد والسلع التي قد تبدو للزائر مفاجئة كماً ونوعاً. عند سؤالنا أحد السجناء عن «هذا الترف» خاصة أن كثيراً من اللبنانيين لم يعودوا يتناولون اللحم والفواكه منذ أكثر من عام بعد ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، يوضح أن كل هذه الأغراض تصل للسجناء الميسورين، وهم أقلية، أما الأكثرية ونتيجة الغلاء المستشري فباتت تأكل من طعام السجن الذي ما كانت تتناوله من قبل نظراً للنوعية السيئة والكمية الصغيرة التي تراجعت بشكل إضافي بعد الأزمة، لافتاً إلى أن كثيراً من الميسورين يتقاسمون طعامهم اليوم مع رفاقهم في الزنزانات. وأضاف: «ما يحصل في الخارج لا شك ينعكس علينا بشكل كبير. صحيح أننا هنا نتساعد فلا يجوع أحد، لكننا في النهاية في سجن صغير داخل السجن اللبناني الكبير حيث لا نفتقد فقط لحريتنا، وإنما أيضاً لكل ما يفتقده اللبنانيون في الخارج». ويشير إلى أن حال الكهرباء حالياً مستقرة بحيث يقتصر التقنين على 4 ساعات في اليوم بعدما بلغ مستويات غير مسبوقة خلال بضعة أيام نتيجة تعطل أحد المولدات، متحدثاً عن «أزمة في المياه بحيث نفتقد إليها بشكل دائم».
ولا يخفي العميد فارس فارس، المكلف بمتابعة ملف السجون في وزارة الداخلية والبلديات، أن هناك تراجعاً بكمية ونوعية الطعام الذي يقدم للسجناء، «فما يسري على اللبنانيين عامة خارج السجن، يسري على السجناء أيضاً، بحيث إنه قبل الأزمة الاقتصادية كان المبلغ المرصود سنوياً لغذائهم 10 مليارات ليرة لبنانية، أي 7.7 مليون دولار، عندما كان سعر الصرف 1500 ليرة للدولار الواحد، أما الآن ومع انهيار سعر الصرف فالمبلغ المرصود لم يعد يتجاوز 500 ألف أو 600 ألف دولار، وقد طلبنا من وزارة المالية زيادة الاعتمادات، وبعد جهد جهيد تمكنا من زيادة هذه الاعتمادات إلى 30 مليار ليرة لبنانية، لكن هذا المبلغ يبقى غير كافٍ، لأننا بحاجة شهرياً إلى وجبات غذائية ومواد أولية بقيمة 3 مليارات ليرة ونصف مليار، ما يعادل 40 مليار ليرة سنوياً».
ويشير فارس في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه وبعكس ما يتم تداوله: «لم نتوقف عن إطعام السجناء اللحم والدجاج، إنما خفضنا الكميات مراعاة للظروف المادية، فمثلاً بدلاً من حصولهم على اللحم والدجاج مرتين في الأسبوع بات ذلك يتم كل 10 أيام تقريباً».
ويشتكي سجناء رومية بأنه لا يسمح لأهاليهم، كما أهالي الموقوفين والمحكومين في سجون أخرى على الأراضي اللبنانية، بإدخال الطعام لهم، وبحصر ما يمكنهم الحصول عليه من مواد غذائية بموجودات الحانوت. ويرد العميد فارس على هذه المطالبات، قائلاً: «منعنا الوجبات من الخارج، وذلك بسبب محاولة الأهالي تهريب المخدرات من خلالها، ومن خلال أغراضهم الشخصية، كما عبر رجال الدين».
وتبلغ الطاقة الاستيعابية لسجن رومية 1050 سجيناً وهو يضم حالياً 3476 سجيناً، ما يعني نسبة اكتظاظ تتجاوز 324 في المائة. ويتألف سجن رومية المركزي وهو أكبر السجون اللبنانية من 6 مبانٍ؛ مبنى «ب»، ومبنى «د» للمحكومين، ويتألف كل منهما من 3 طوابق، ومبنى الأحداث، واللولب المركزي، ومبنى الخصوصية، والمبنى الاحترازي. واللافت أن 40 في المائة من السجناء في لبنان هم من غير اللبنانيين. ويشكو مسؤولون عن السجون عدم تجاوب منظمات الأمم المتحدة (unrwa وunhcr) مع طلبات رسمية لمساعدة السجناء السوريين والفلسطينيين.
وارتفع في الأشهر الماضية عدد الموقوفين حديثاً، بحسب أحد الضباط في سجن رومية، وهو ما يبدو منطقياً تماماً، في ظل الأرقام التي أعلنتها قوى الأمن مؤخراً، وأظهرت ارتفاعاً ملحوظاً في جرائم القتل والسرقة، نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة.

عناصر الأمن يشكون للسجناء!
لا يسمح للسجناء الخروج بشكل يومي إلى الباحة الخارجية، إذ تخصص 3 أيام للزيارات و4 أيام للوجود في الهواء الطلق لنحو 6 ساعات. الأربعاء الماضي، كانت الأكثرية في زنزاناتها. وحدها الملابس الملونة المنشورة من الشبابيك وأصوات أجهزة التلفزة تؤشر إلى وجود آلاف خلف القضبان. بعض الأصوات تعلو عند مشاهدة زائر لدعوته بالاطلاع على أحوالهم داخل الزنزانات.
للمفارقة أن أحوال السجناء لا تختلف كثيراً عن أحوال عناصر الأمن المخولين حراسة المباني. هم يبدون منهكين، وقد ترك الهم والضغط آثارهما بوضوح على ملامحهم التعيسة. فالحرارة المرتفعة خلال أشهر الصيف في لبنان، والتي تترافق مع الضغوط المعتادة التي يواجهونها، باعتبارهم يتعاطون مع أكثرية عنيفة من السجناء، إضافة إلى الضغوط المستجدة المرتبطة برواتبهم التي فقدت قيمتها مع انهيار سعر صرف الليرة، فأصبح راتب العنصر العادي يعادل أقل من 65 دولاراً أميركياً، مقارنة مع نحو 800 دولار قبل بدء الأزمة في صيف العام 2019، كلها عوامل جعلت السجناء يتعاطفون مع حراسهم! ففيما تتجنب عناصر الأمن أي حديث مع الإعلاميين وخاصة خلال دوامهم الرسمي، ينقل السجناء معاناتهم ويقول (ف. ن) لـ«الشرق الأوسط»: «كيف تتوقعون أن يكون حالنا، إذا كانت أحوال عناصر الأمن بهذه التعاسة. قصصهم قد تكون أقسى من قصصنا. فبعضهم لم يعد قادراً على تكبد تكاليف المواصلات... نحن نشكو لهم وضعنا، وهم يشكون لنا أحوالهم».
وتقر مصادر أمنية بالأحوال الصعبة التي يرزح تحتها الضباط والعناصر، وتقول إن البعض يقومون بمهمات خطيرة، كما في سجن رومية، حيث هم على تماس مع أشخاص خطيرين فتكون حياتهم مهددة في كل لحظة، معتبرة أنه إذا كان وضع مالية الدولة صعباً جداً والسلطة السياسية غير قادرة على زيادة رواتب كل الأمنيين فيفترض النظر بأوضاع ورواتب من يؤدون مهمات خطيرة على الأقل.
وإذا كانت وتيرة عمليات التمرد تراجعت بشكل كبير في السنوات الماضية، أو أقله تلك المعلن عنها، فذلك لا يعني أن المخاطر لم تعد موجودة وبشكل كبير. وللتأكيد على ذلك، يطلب أحد الضباط من أحد العناصر الإتيان بسكين كبير تم ضبطه مؤخراً، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أنه «صناعة رومية»، قائلاً: «نضبط عدداً كبيراً من هذه السكاكين التي يصنعها بعض السجناء من الطناجر ومن حاجيات أخرى ويهددون بها الضباط والعناصر في كثير من الأحيان».

شكاوى من الوضع الصحي
لعل أبرز ما يشكو منه السجناء اليوم هو الوضع الصحي. يقول السجين «ف.ح» لـ«الشرق الأوسط» إن «كل يوم أسوأ من الذي سبقه في موضوع نقص الأدوية. فبعد أن كانت الأدوية توزع من قبل إدارة السجن مجاناً، انقطعت الأدوية كلها وأصبح بعضها على حساب السجين. حتى أدوية الأعصاب وأدوية الأمراض المستعصية وأدوية مرض السكري كلها نبتاعها على حسابنا الشخصي... كما أن المشكلة الكبرى هي موضوع العمليات الجراحية والصور الطبية... كل هذا أصبح على حساب السجين بنسبة 20 في المائة». ويضيف «ف.ح»: «مثلاً في حال اضطر السجين لدخول المستشفى في حال الطوارئ فعلى أهله الحضور لدفع مبلغ من المال للمستشفى كي يسمح له بالدخول».
ويوضح العميد فارس أن ما يسري على السجناء بموضوع الأدوية والاستشفاء، يسري على كل اللبنانيين، باعتبار أن معظم الأدوية مقطوعة في الصيدليات كما أن المستشفيات لم تعد تستقبل مرضى الضمان حتى المرضى ذوي التأمين الصحي إلا إذا كانت حالتهم طارئة وترغمهم على دفع فروقات مالية كبيرة، لافتاً إلى أنهم يقومون بإجراءات كثيرة لإلزام المستشفيات على استقبال السجناء المرضى، كما يتم استقدام كثير من المساعدات من المنظمات الدولية والجمعيات. وبحسب العميد فارس، فإن الوضع تحت السيطرة تماماً بموضوع «كورونا»، بحيث أدت التدابير السريعة التي اتخذت مع تفشي الوباء في لبنان مفعولها، وبخاصة لجهة تخصيص مبنى في السجن لحجر المصابين، مشيراً إلى أن مجمل الحالات التي تم تسجيلها في «رومية» لم تتجاوز 1090 وقد شفيت جميعها، وليس لدينا اليوم في مركز الحجر إلا 6 حالات، وهي من خارج سجن رومية.

محاكمات في السجن و«أونلاين»
> يشكل تأخير المحاكمات والبتّ بالقضايا العالقة إحدى أبرز المشكلات التي يعاني منها السجناء، بحيث يقضي كثير منهم أشهراً وسنوات موقوفين بانتظار محاكمتهم. وللمفارقة فإن 51.50 في المائة من سجناء رومية موقوفون و48.50 في المائة محكومون.
وقد فاقمت الأزمات الأخيرة وبخاصة أزمة «كورونا» الأزمة التي يرزح تحتها القضاء اللبناني منذ سنوات لجهة البطء بالمحاكمات. وانكبت وزارة العدل منذ مارس (آذار) 2020 بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين على تفعيل العمل القضائي إلكترونياً، فاتخذ قرار البتّ بالقضايا الضرورية والمستعجلة، وخاصة التي فيها موقوفون عبر الأونلاين، بحيث تحصل الاستجوابات عن بعد، خاصة أن القانون واضح لعدم إمكانية احتجاز الأشخاص الذين يتم توقيفهم بإشارة من النيابة العامة إلا لمهلة قصيرة، ما يحتم مثولهم أمام قاضي التحقيق بعد انقضاء المهلة المحددة.
ويتحدث العميد فارس عن «إنجاز كبير لوزارة العدل بعد السماح باستخدام قاعة المحاكمة التي أنشئت في رومية عام 2014 من قبل قضاة المحاكم الجنائية في جبل لبنان»، لافتاً إلى أنه تم عقد نحو 2000 جلسة فيها، في وقت يتم العمل حالياً على مشروع من قبل مجلس القضاء الأعلى لتوسيع صلاحيات محكمة رومية، لتشمل كل المحاكم، ما يسهل عملية محاكمة الموقوفين بدلاً من سوقهم إلى المحاكم في المناطق المختصة. ويشير فارس إلى أن وزيرة العدل افتتحت أيضاً الأسبوع الماضي المحاكمات التجريبية أونلاين في محكمة العدل في جبل لبنان - بعبدا، من أجل عمليات الاستجواب عن بعد وإخلاءات السبيل، موضحاً أنه «يتمّ إنشاء غرفة عمليات للقضاة بالتعاون مع وزارة العدل ونقابتي المحامين في طرابلس وجبل لبنان، وقد تم تجاوز جميع العوائق الفنية والقانونية كما يُعمل الآن على قوننة هذه الآلية». ويضيف: «ننكب حالياً على مكننة النظام القضائي الذي يتعلق بالمحكومين والموقوفين، وهناك ورشة عمل كبيرة جداً، على صعيد مكننة المحاكم، والسجلات، وتأهيل النظارات في قصور العدل، وعلى صعيد مكننة السجل الصحي للسجين».
وتتكل حالياً إدارة السجون اللبنانية على المساعدات من أي جهة أتت، سواء عبر منظمات دولية أو جمعيات أو مرجعيات دينية حتى أشخاص ميسورين للاستمرار بتأمين احتياجات السجناء، فكما تنصرف قيادات الأجهزة الأمنية لتأمين المساعدات للضباط والعناصر من دول شتى، مع التراجع الدراماتيكي في رواتبهم، فكذلك القيمون على السجون. ويقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف ننكب على (الشحاذة) للاستمرار والصمود!»



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.