«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

موسكو تدرج «التحديات الرقمية» في استراتيجية الأمن القومي

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية
TT

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

لم يكن مستغرباً أن يظهر في النسخة المعدلة لاستراتيجية الأمن القومي الروسي التي أقرّها الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، بند خاص بالتحديات الجديدة في عالم أمن المعلومات. وهذا أمر لم تكن تطرقت إليه النسخ السابقة من استراتيجية الأمن الروسي.
المفارقة هنا أن موسكو، التي وُضعت في قفص الاتهام على مدى السنوات الماضية للاشتباه بوقوفها وراء عمليات تدخل وتخريب إلكتروني استهدفت التأثير على مزاج الناخبين والرأي العام في الولايات المتحدة وغالبية الدول الغربية الأخرى، هي التي تبادر حالياً إلى دق ناقوس الخطر، وتطالب بالحوار.
موسكو تدعو اليوم إلى معاهدة دولية مُلزِمة تنظم آليات الرقابة والمحافظة على أمن المعلومات. وبدا واضحاً من جولات الحوار الروسي الأميركي الأخيرة أن «معركة» الأمن السيبراني صارت تشغل مكانة بارزة، إن لم تكن تحظى بأولوية مطلقة على جدول أعمال النقاشات الجارية بين موسكو وواشنطن، وموسكو وعواصم غربية أخرى.
كشفت جولات الحوار الروسي الأميركي التي جرت خلال الأسابيع الأخيرة في مدينة جنيف السويسرية، أن الاهتمام الرئيس لم ينصبّ على ملفات الأزمات الإقليمية الساخنة، رغم أهمية وحضور هذه الملفات على طاولة البحث، ولا على ملفات التسلح والمعاهدات التي عملت موسكو وواشنطن بدأب وبشكل متبادل على تقويضها تدريجياً خلال السنوات الأخيرة. بل إن الملف الأساسي المطروح على «أجندة» النقاشات، كما برز من تصريحات الجانبين، يتعلق الآن بأمن المعلومات الذي بات يتخذ في الآونة الأخيرة بشكل متزايد صفة العنصر الرئيس للاستقرار الاستراتيجي.
جولات الحوار هذه باتت ممكنة بعد فترة طويلة من انقطاع قنوات الاتصال بين الطرفين، والمحرّك الأساسي لها كانت القمة الروسية الأميركية التي انعقدت منتصف الشهر الماضي في جنيف. وبات واضحاً بعدها أن لدى الجانبين حرصاً واضحا على توجيه الأمور نحو الاستقرار والقدرة على التنبؤ في واحدة من أبرز التحديات المعاصرة أمام العالم.
وبعد الجولة الأخيرة التي انعقدت قبل أيام، كشف سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي جانباً من تفاصيل الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في جنيف. إذ قال ريابكوف إن المفاوضات ركّزت على الأمن السيبراني، وفي إشارة واضحة إلى صعوبة المباحثات، تابع الدبلوماسي الروسي أنه «من السابق لأوانه الحديث عن أي اتفاقات ملزمة في هذا المجال».
- قضايا أمن المعلومات
الواضح هنا تأكيد الجانب الروسي أن لدى موسكو إدراكاً بأن «قضايا أمن المعلومات، ابتداء من استخدام البرمجيات الخبيثة، ووصولاً إلى استهداف المواقع الحيوية للبنية التحتية، تتطلب مناقشة ثنائية معمقة ومحترفة، وهذا الحوار قد بدأ». ووفقاً للدبلوماسيين الروس المشاركين في الحوار، فإن الدعوة تنصب أساساً على ضرورة أن تكون المفاوضات حول الأمن السيبراني منتظمة، وأن يجري توسيع جدول الأعمال حول هذا الملف على طاولة النقاش، و«ليس الاكتفاء بمناقشة الهجمات المنفردة».
وكشفت العبارة الأخيرة جانباً مهماً من الخلاف الروسي الأميركي حول آليات مناقشة هذه المشكلة، إذ ترى موسكو أن واشنطن وحليفاتها الغربيات تدفع باتجاه أن ينحصر النقاش حول «الهجمات التي تعرّضت لها مواقع في الغرب من جانب قراصنة روس»، في حين تدعو موسكو إلى مناقشة أسس للتعاون المستقبلي في هذه القضية، عبر وضع آليات دولية ملزمة على شكل معاهدة خاصة بالأمن السيبراني. أيضاً ترى موسكو أن المدخل الأميركي للحوار، ليس فقط مجتزأ، بل أيضاً «يركز على قضية الهجمات السيبرانية بغرض الابتزاز السياسي، ولتوجيه الأنظار فقط إلى ملاحقة من يقفون وراء تلك الهجمات»، كما قال ريابكوف أخيراً.
الفارق بين المطلبين الروسي والأميركي في هذا الملف واضح. فروسيا لا تريد الخوض في الاتهامات المباشرة التي وُجِّهت ضدها، ولا تريد فتح تحقيق يؤدي إلى الكشف عن أشخاص محددين متورّطين - وفقاً للادعاءات الأميركية والغربية - بمهاجمة مواقع غربية، بل تريد تحويل النقاش نحو تأسيس القاعدة القانونية... وفي الوقت ذاته، تسعى إلى الرد على اتهام باتهام. والخلاصة هنا، كما يقول دبلوماسيون روس: «نريد من الأميركيين أن يفهموا أننا بحاجة إلى ردودهم على طلباتنا بشأن مختلف الحالات، بما في ذلك محاولات التأثير الخبيث على بنيتنا التحتية وعلى شخصياتنا الاعتبارية من مناطق الاختصاص القضائي الأميركي». وهذا الكلام يوضح أن جولات الحوار لم تحقق حتى الآن كثيراً في هذا المجال، إذ ما زالت موسكو تشكو من أن «الجانب الأميركي ما زال لا يتعامل مع وجهة النظر الروسية بشكل مطلوب».
- مسألة الأمن الاستراتيجي
اللافت أن موسكو ذهبت خطوة أبعد في الحوارات. إذ إنها لا تريد أن ينحصر النقاش على بعض الهجمات الإلكترونية التي استهدفت لجاناً انتخابية أو وسائل إعلام أو مراكز بهدف التأثير على الناخبين، باعتبار أن هذه «هجمات فردية» تسعى إلى لفت الأنظار إلى مخاطر أوسع محدقة بالأمن الاستراتيجي بسبب انعدام آليات لضمان الأمن السيبراني على المستوى الدولي، ومن بينها كما يقول دبلوماسيون روس «محاولات لاستخدام الإنترنت للتأثير على أنظمة التحكّم بالأسلحة، بما فيها الطائرات المسيرة».
أما عندما تعلق الأمر بطلبات محددة لتسليم أشخاص اتهموا بالوقوف وراء هجمات سيبرانية محدّدة - وهو مطلب مهم بالنسبة إلى الداخل الأميركي - فإن موسكو تصرّ على موقفها بأن «روسيا لا تسلّم مواطنيها، وعلى الولايات المتحدة أن تعمل مع روسيا بناء على اتفاقية المساعدة القانونية الموقعة عام 1999. بدلاً من إطلاق اتهامات وإثارة الضجة الإعلامية». لكن منطق الحوار بين الطرفين رغم اختلاف المداخل، لم يمنع من طرح موضوع تشكيل «فرق عمل خاصة» مشتركة لمواصلة النقاشات حول ملفات الأمن الاستراتيجي، وعلى رأسها الأمن السيبراني. ومع أن هذا التفاهم لم يرقَ بعد إلى مستوى الاتفاق على وضع آليات تنفيذية ضرورية لتنفيذ هذه المهمة، فإنه يشكل تطوراً مهماً يمكن البناء عليه.
- «قواعد لعبة» جديدة
هنا تجدر الإشارة، إلى أن واشنطن تجنّبت الكشف عن تفاصيل الحوارات الجارية، ورفض البيت الأبيض الكشف عن أجندة الحوار حول الأمن السيبراني تحديداً، وكذلك قائمة المشاركين في الحوار. وكما قالت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، فإن «اللقاءات والمناقشات على مستوى الخبراء مع الجانب الروسي مستمرة. والأهم هو الحفاظ على المجال لمثل هذه المناقشات، ولتحقيق التقدم كما نأمل»... قبل أن تضيف: «لا نعتزم الكشف عن أجندة تلك اللقاءات أو قائمة المشاركين فيها».
وكشف هذا الموقف من الجانب الأميركي درجة صعوبة الحوارات، ومستوى الخلافات المتواصلة، وهو أمر سعت موسكو إلى لفت الأنظار إليه علناً، عبر فاسيلي نيبينزيا، مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، الذي اتهم «بعض الدول بمحاولة فرض قواعد لعبة في المجال المعلوماتي، وتبريرها بأنها ضربات سيبرانية استباقية ضد دول أخرى». وقال نيبينزيا أثناء اجتماع عقده مجلس الأمن الدولي أخيراً، لمناقشة موضوع الأمن السيبراني، إن ثمة أطرافاً تحاول أن تفرض على المجلس «قراءات أحادية الجانب» لاتفاقات سبق التوصل إليها في المنصات المعنية بالأمن المعلوماتي الدولي والتابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم أردف أن الكلام يدور عن توجه بعض الدول إلى «تبرير ممارسة ضغوط أحادية الجانب على دول أخرى، وفرض عقوبات عليها... وكذلك استخدام القوة المحتمل ضدها، وذلك عبر التلاعب بالاتفاقات السابقة، بما في ذلك حول الجوانب القانونية الدولية من استخدام تقنيات الإعلام والاتصالات».
وأضاف نيبينزيا أن ما يثير القلق البالغ لدى روسيا هو «تطلع بعض الدول المتقدمة من الناحية التكنولوجية إلى عسكرة المجال المعلوماتي عبر الترويج لمفهوم توجيه ضربات سيبرانية استباقية، بما في ذلك إلى البنى التحتية الحيوية». وأشار إلى أن «هذه النظريات المتسمة بروح المواجهة تناقض التمسك المعلن للدول الأعضاء في مجلس الأمن بمنع حدوث نزاعات في مجال استخدام تقنيات الإعلام والاتصالات»... وأن موسكو ترى فيها سعي الدول المعنية لفرض «قواعد اللعبة» الخاصة بها في المجال المعلوماتي، مؤكداً أن موسكو ستتصدى لمحاولات استخدام مجلس الأمن في مراجعة ما جرى الاتفاق عليه في منصات الجمعية العامة.
- استراتيجية الأمن القومي أولوية للأمن السيبراني
وخلافاً للنسخ السابقة من استراتيجية الأمن القومي الروسي، أعارت النسخة المحدثة منها التي وقّعها الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، اهتماماً خاصاً بملف الأمن السيبراني. وبهذا المعنى، فإن أمن المعلومات بات يشغل أولوية على جدول أعمال روسيا، ليس فقط على المستوى الخارجي، بل على المستوى الداخلي أيضاً.
وعموماً، يمكن بالاستناد إلى نص الوثيقة، اختصار التوجهات الرئيسة، أو المهام المحددة، التي برزت في الاستراتيجية الجديدة بأنها تشمل التحذير من أن التطور السريع لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات يفاقم من احتمال ظهور مخاطر على أمن المواطنين والمجتمع والدولة. وأن توسيع نطاق استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات للتدخل في شؤون دول وتقويض سيادتها ووحدة أراضيها بات يشكل خطراً على الأمن والسلام الدوليين. وهنا توقفت الاستراتيجية عند «تزايد عدد الهجمات على الموارد المعلوماتية الروسية، ومعظمها ينفّذ من خارج البلاد»، لتلفت الأنظار إلى أن «المبادرات الروسية الرامية إلى ضمان الأمن المعلوماتي الدولي تواجه معارضة من قبل دول أجنبية تسعى إلى الهيمنة في الفضاء المعلوماتي العالمي».
وبطبيعة الحال، يظهر نص الوثيقة معارضة روسيا الكاملة للاتهامات الغربية لموسكو، وفي المقابل، تردّ الرؤية الروسية باتهام أجهزة استخباراتية أجنبية بتكثيف أنشطتها الرامية إلى تنفيذ عمليات في المجال المعلوماتي الخاص بروسيا.
كذلك ترى الوثيقة أن روسيا تواجه «حملات تضليلية وتخريبية» في الإنترنت تستهدف بالدرجة الأولى الشباب، (منها تداول أنباء كاذبة عن خطر تنفيذ هجمات إرهابية ودعوات للانتحار ونشر مواد متطرفة والتحريض على ارتكاب أعمال غير قانونية وترويج تناول المخدرات وغيرها). وكما كان متوقعاً توقفت الوثيقة عند اتهام شركات دولية عملاقة مثل «غوغل»، ادّعت أنها «تسعى إلى ترسيخ احتكارها في الإنترنت، والسيطرة على كل الموارد المعلوماتية من خلال فرض الرقابة غير القانونية وإغلاق موارد معلوماتية بديلة». ورأت أيضاً أن «رواد الإنترنت الروس يواجهون محاولات تهدف إلى فرض رؤية مشوّهة عليهم إزاء الحقائق التاريخية والتطورات في روسيا والعالم لدواعٍ سياسية». وخلُصت إلى التحذير من أن «استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الأجنبية في روسيا يزيد من خطر تعرّض الموارد المعلوماتية في البلاد لمحاولات التأثير عليها من الخارج».
- «الحماية» من الغرب
بهذه «الرزمة» من التحذيرات والاتهامات للغرب، تدفع استراتيجية الأمن القومي الروسي عملياً إلى وضع ملف المواجهة السيبرانية وأمن المعلومات في مقدمة معركتها الحالية مع الغرب، رافعة شعار «حماية روسيا من التأثير الغربي الضار على المجتمع». ولذلك يظهر الهدف الرئيس في «تعزيز سيادة البلاد في المجال المعلوماتي». ويدفع هذا الهدف المعلن، إلى سلسلة من التدابير التي حددتها الوثيقة لحماية روسيا وتعزيز «سيادتها» الرقمية، وهنا يبدو أن منحى رفع جدران من «العزلة الرقمية» يتجسّد أكثر وأكثر في توجهات الاستراتيجية الروسية.
لتوضيح ذلك، يكفي أنه من بين الآليات التي وضعتها الاستراتيجية لتحقيق الهدف...
- إنشاء فضاء آمن لتداول المعلومات الموثوق بها
- تحصين البنى التحتية الخاصة بالمجال المعلوماتي في روسيا
- منع التأثير التخريبي بالوسائل المعلوماتية والتكنولوجية على الموارد المعلوماتية الروسية
- تهيئة الظروف الملائمة لكشف ومنع الجرائم في الإنترنت
- زيادة تحصين القطاع الروسي لشبكة الإنترنت ومنع أي سيطرة أجنبية على أنشطته.
كل هذا، مع أهداف أخرى، تمثلت في تقليص عدد حالات تسرب بيانات سرية وشخصية إلى أدنى حد ممكن، وتعزيز الأمن المعلوماتي الخاص بقوات الجيش الروسي ومنتجي الأسلحة والمعدات العسكرية، وتطوير وسائل وأساليب ضمان الأمن المعلوماتي باستخدام تكنولوجيات حديثة، منها الذكاء الاصطناعي، وإعطاء الأفضلية إلى استخدام التكنولوجيات محلية الصنع في البنى التحتية المعلوماتية في روسيا... وأخيراً، تعزيز التعاون مع الشركاء الأجانب في مجال ضمان الأمن المعلوماتي، بما يخدم خاصة إنشاء نظام دولي جديد خاص بهذا الشأن.
- استعداد مشروط للتعاون
كان لافتاً أن الإشارات التي وجّهتها موسكو حول مدى استعدادها للتعاون مع الغرب في مجال أمن المعلومات، ارتبطت دائماً بشروط واضحة تفرض على كل الأطراف الالتزام بتعهدات مسبقة. وكمثال، مهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقائه مع نظيره الأميركي جو بايدن في جنيف أواسط الشهر الماضي، بالإشارة إلى أن موسكو مستعدة لتسليم مرتكبي الجرائم السيبرانية إلى واشنطن في حال إبرام الطرفين اتفاقية رسمية تنصّ على التزاماتهما المتبادلة في هذا الصدد.
ولفت الرئيس الروسي إلى أن هذه الالتزامات في الغالبية الساحقة من الاتفاقيات المماثلة متساوية، مضيفاً: «إذا اتفقنا على تسليم المجرمين فإن روسيا بطبيعة الحال ستفعل ذلك، لكن فقط إذا وافق الجانب الآخر - وفي هذه الحالة الولايات المتحدة - على الشروط نفسها، وستسلم المجرمين المطلوبين إلى روسيا». وشدد بوتين على أن مسألة الأمن السيبراني تعد من أهم القضايا اليوم، لأن هجمات سيبرانية قد تؤدي إلى إطفاء منظومات بأكملها، ما يجلب عواقب وخيمة للغاية.
هذا الحديث الروسي، مع المبادرات الروسية المتكرّرة لوضع آلية دولية أو معاهدة ملزمة على صعيد الأمن السيبراني، يتم إقرارها في مجلس الأمن، قوبلت دائماً من جانب الخبراء، بنقاشات موسعة حول آليات تنفيذها عملياً وعلى أرض الواقع.
- الخبيرة لايما جيرمانوفا: في تنظيم تدفق المعلومات مصلحة للمجتمع الدولي كله
> في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت الخبيرة لايما جيرمانوفا، مديرة مؤسسة «كريبروم»، وهي شركة أبحاث رائدة في روسيا، إنه إذا ما اعتُمدت المسودة النهائية للاقتراح الذي قدّمته روسيا إلى مجلس الأمن بشأن تبني معاهدة دولية لأمن المعلومات ستصبح هذه أول معاهدة عالمية لمكافحة الجريمة السيبرانية.
وأشارت الخبيرة - التي تشارك مؤسستها في دراسة العمليات الاجتماعية والسياسية القائمة على رصد وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي - إلى أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها روسيا مثل هذه المبادرات، لكن إذا كان جوهر السؤال يكمن في البحث عن الحلول التكنولوجية الممكنة، سيكون ضرورياً توضيح أن جميع هذه القرارات أولاً، وقبل كل شيء، يجب أن تنفذ مبدأ السيادة الرقمية. بموجب هذا المبدأ، على الدولة ضمان أمن المعلومات وتنظيم تدفق المعلومات، وهذه ليست مصلحة روسية فقط، بل مصلحة للمجتمع الدولي. وتابعت: «هذا هو التحدي الذي يقف أمام جميع البلدان المشاركة في مجال المعلومات. ولحل هذه المشكلة، هناك حاجة إلى أدوات تكنولوجية لتتبع تدفق المعلومات والتحكم في امتثالها للتشريعات الحالية. إن التبادل اليومي للمعلومات، يحتوي على كمٍ هائل من البيانات الواجب تلقيها بطريقة ما، وفي مكان ما، بشكل منظم وآمن، كي تكون قادرة على تحديد ما ينتهك قوانين الدولة ويهدد أمن المعلومات ويشكل خطراً على المواطنين في تدفق المعلومات».
وحول فرص تقريب وجهات النظر مع الغرب، قالت جيرمانوفا: «لا توجد حدود في فضاء المعلومات. انتشار الإنترنت مرتفع في جميع أنحاء العالم تقريباً. والنشاط الإرهابي المدمر والمتطرف على الإنترنت يهدد جميع البلدان. ولمواجهة هذه التهديدات العالمية بشكل فعال، فإن أنجحها هو التعاون بين الدول وتجميع الجهود والمهارات من مختلف البلدان». وأضافت: «في رأينا، سيكون من المنطقي توحيد الجهود في مكافحة هذه التهديدات والتصدي لها بشكل مشترك. سيكون التفاهم المتبادل بين الدول الاستراتيجية الأنجع، والاستجابة الفضلى للتحدي. وهذا ما تهدف إليه المبادرة الروسية في الأمم المتحدة، وهذا ما تحدث عنه فلاديمير بوتين عندما أشار إلى استعداد روسيا لإبرام التزامات مماثلة مع الدول الأخرى في مكافحة الجرائم الإلكترونية».
في الوقت ذاته، أقرت الخبيرة الروسية أن جهود روسيا لتعزيز «السيادة الرقمية» تواجه اليوم تحدياً قوياً، لأنه «لا توجد حلول قادرة على تنفيذ وصيانة نظام مغلق تماماً غير متصل بالعالم الخارجي. فضاء المعلومات لا حدود له، ومستوى التطور التكنولوجي لا يسمح بعزلة كاملة للبلد بأكمله. لقد أصبح العالم شفافاً للغاية». ومع ذلك، تقول الخبيرة إن «الحاجة إلى شبكة إنترنت وطنية ملحّ بالطبع - وليس فقط في روسيا. هذا الموضوع مطروح على أجندة جميع البلدان، وهو يضعها في حيرة حيال هذه المشكلة». ثم تضيف أن روسيا «تعمل بالطبع في هذا الاتجاه، وفي الآونة الأخيرة نسبياً، جرى تبنّي مجموعة من القوانين التي تنظم الإجراءات في الجزء الروسي من الإنترنت وتجعله أكثر أماناً»، مشيرة إلى أن حكومات الدول الأخرى تتخذ خطوات مماثلة. قبل أن تقول: «هل هذا يعني العزلة؟ بالطبع لا، نحن نتحدث في المقام الأول عن حماية المواطنين ومصالحهم».


مقالات ذات صلة

مسؤول: قراصنة إلكترونيون صينيون يستعدون لصدام مع أميركا

العالم القراصنة قاموا بعمليات استطلاع وفحص محدودة لمواقع إلكترونية متعددة مرتبطة بالانتخابات الأميركية (أرشيفية - رويترز)

مسؤول: قراصنة إلكترونيون صينيون يستعدون لصدام مع أميركا

قال مسؤول كبير في مجال الأمن الإلكتروني في الولايات المتحدة إن قراصنة إلكترونيين صينيين يتخذون مواطئ قدم في بنية تحتية خاصة بشبكات حيوية أميركية.

آسيا هيئة الأركان المشتركة في كوريا الجنوبية نصحت السفن والطائرات في منطقة البحر الغربي بالحذر من تشويش إشارة نظام تحديد المواقع (أ.ف.ب)

سيول تتهم بيونغ يانغ بالتشويش على «جي بي إس»

كشف الجيش في كوريا الجنوبية اليوم (السبت) أن كوريا الشمالية قامت بالتشويش على نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) أمس (الجمعة) واليوم.

«الشرق الأوسط» (سيول)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يقف إلى جانب محاميه تود بلانش في محكمة مانهاتن الجنائية (أ.ب)

تقرير: قراصنة صينيون تنصتوا على هاتف محامي ترمب

أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) أحد كبار محامي الرئيس المنتخب دونالد ترمب أن هاتفه الجوال كان تحت مراقبة قراصنة صينيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ أنباء عن متسللين إلكترونيين تابعين للحكومة الصينية رصدوا تسجيلات لاتصالات هاتفية لشخصيات سياسية أميركية (رويترز)

صحيفة: متسللون صينيون رصدوا تسجيلات صوتية لمستشار في حملة ترمب

ذكرت صحيفة واشنطن بوست، اليوم الأحد، أن متسللين إلكترونيين تابعين للحكومة الصينية رصدوا تسجيلات صوتية لاتصالات هاتفية لشخصيات سياسية أميركية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ صورة تعبيرية تظهر شخصاً جالساً أمام جهاز كمبيوتر وخلفه مزج بين علمي إيران والولايات المتحدة (رويترز)

قراصنة «روبرت» الإيرانيون يبيعون رسائل مسروقة من حملة ترمب

نجحت مجموعة قرصنة إيرانية، متهمة باعتراض رسائل البريد الإلكتروني لحملة المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترمب، أخيراً في نشر المواد التي سرقتها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.