متحف هنري لوسيان... «سحر بيروت» بين يديك

يترجم قصة حب عاصفة بينه وبين «ست الدنيا» في البترون

100 بيت بيروتي تراثي جمعها هنري لوسيان في متحفه
100 بيت بيروتي تراثي جمعها هنري لوسيان في متحفه
TT

متحف هنري لوسيان... «سحر بيروت» بين يديك

100 بيت بيروتي تراثي جمعها هنري لوسيان في متحفه
100 بيت بيروتي تراثي جمعها هنري لوسيان في متحفه

يروي لك الفنان هنري لوسيان قصة الحب التي تربطه بمدينة بيروت وبيوتها التراثية، فيخيل إليك أنك تتابع رواية «روميو وجولييت» لشكسبير، أو «مجنون ليلى» لقيس بن الملوح. هذه القصة التي ترجمها بمتحفه في البترون لا تشبه غيرها؛ لأنها تتعلق بـ«ست الدنيا» التي في رأيه لا تموت، ولكنها تبدّل جلدها بين وقت وآخر.
بدأت الحكاية مع لوسيان خلال زيارته أحد منازل بيروت التراثية الذي لشدة إعجابه به حلم بأن يسكن واحداً مثله. وعندما علم أن هذا البيت بصدد الهدم لتنتصب مكانه عمارة شاهقة من أبنية بيروت الحديثة، قرر السير عكس التيار.
يقول لوسيان في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «سألت عمال الهدم هناك عمّا سيفعلونه بأعمدة الرخام والنوافذ وكل إكسسوارات المنزل، فأجابوني بأنّهم سيبيعونها. قررت حينها أن أشتري عناصر العمارة التراثية في بيروت، وأنطلق في تحقيق حلمي في مدينة البترون».
لم يقتصر شراء هنري لوسيان على الإكسسوارات الهندسية لهذا المنزل فقط، بل طال نحو 100 بيت تراثي كان قد اتخذ القرار بهدمها. وبذلك جمع ثروة من نوع آخر لا تقدّر بمبلغ مالي؛ لأنّها تعبق بالتاريخ.
ويضيف في سياق حديثه: «بدأت في بناء المتحف عام 2009 وانتهيت منه في عام 2013. ومنذ ذلك الوقت لغاية عام 2021 وأنا أرسم على حيطانه وجدرانه وأسقفه كي يبدو بيروتياً بامتياز. قلة من أبناء جيلي يعرفون بيروت التراث، وأنا من خلال مشروعي هذا أضأت على ميزة مدينتي، وقدمت للشباب فرصة التعرف إلى تراثهم الأصيل».
يقع متحف هنري لوسيان (museehenrybb) على تلة في البترون تطل على البحر. دار واسعة تتوسط المتحف، وتحيط بها غرف النوم والاستقبال، تجذبك بألوان حيطانها المزخرفة وببلاط أرضها الرخامي وقناطرها المحفورة بدقة بنائين نقلوا جمالية العمارة الإيطالية إلى بيروت. ويعلق لوسيان: «في الماضي كان معلم البناء هو من يشرف على بناء بيوت بيروت. فهو من يعطي الأوامر لتنفيذ هذا الباب أو تلك النافذة وغيرها من أقسام المنزل حسب نظرته. أنا أيضاً تحولت إلى معلّم عمار بدوري. فعملي الحقيقي كان في صناعة الأشغال اليدوية والحلي التي أبيعها في محل تجاري أملكه في منطقة الحمراء، وما زلت. ولكن وقوعي في حب بيروت حتى الجنون أثر بي وحولني إلى رسام ومهندس وفنان بكل ما للكلمة من معنى».
يغلب على غرف المتحف الطابع التراثي البيروتي، ويتمثل بالحديد المشغول وبرسوم معلقة على الأسقف، وبزجاج ملون يتوج أبوابه، وبثريات عتيقة تتدلى من أسقفه. أحياناً يتخذ المتحف ألواناً تتناسق مع شروق الشمس وغيابها وزرقة المياه المتلألئة للبحر المحيط به. ويرى لوسيان أن «البيت البيروتي غير موجود في أي بقعة على الأرض؛ وحدها (ست الدنيا) هي التي تحتضنه منذ مئات السنين». ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما تأثرت العمارة البيروتية بالفن الإيطالي، ولكن أهالي بيروت الذواقة، طوروه ليضيفوا إليه فتحات المندلون؛ وهي عادة ما تغطي واجهاته الأساسية». ولكن ماذا تشعر اليوم وأنت تسكن هذه البيوت التي جمعتها في واحد؟ يرد: «سعادتي لا توصف بإنجازي هذا المكان ورؤية فرحة الناس بعيونهم وهم يتجولون به. لقد جهدت كثيراً لإنهائه، وكلفني تعباً جسدياً ونفسياً. أحياناً كنت أشعر باليأس والإحباط؛ ولكني ولا مرة تخليت عن فكرة إقامة مشروعي مهما كان الثمن».
في رأي هنري لوسيان أن الناس عادة عند رؤيتهم بيتاً تراثياً يجري هدمه يحزنون، ولكنّهم يكملون حياتهم بشكل عادي، «أما أنا فاستوقفني هذا الأمر ورفضت أن أكمل طريقي كغيري. لذلك قررت نقل هذه البيوت المهدمة وإحياءها في واحد بتروني. فهنا أشعر بأن بيروت سعيدة بعد أن تعبت من بيروت المدينة التي شهدت على ويلات كثيرة، وآخرها انفجار 4 أغسطس (آب). هنا تأخذ العاصمة قسطاً من الراحة، وتنظر إلى بحر البترون بسعادة. المتحف بمثابة ذاكرة بيروت الجميلة دائماً وأبداً. فهي لن تموت... ستبقى منتصبة، يتغير شكلها، ولكنها تحافظ على روحها».
وعن المفروشات التي تزين المتحف من طاولات خشبية ورخامية ومقاعد وأسرّة وصناديق عتيقة وشراشف مطرزة... وغيرها، يقول: «كنت في كل مرة يجري الاتصال بي من قبل عمال الهدم (أبو طارق وأبو علي وأبو سمير)، أهرع إلى المنزل المنشود لأصوره قبل عملية هدمه. وبذلك نقلت صوراً طبق الأصل عن تلك البيوت، خصوصا أني انكببت على شراء أثاثها القديم المتروك فيها. وهنا وزعت الأثاث على طريقتي وزوجتي ريتا وهي فنانة أيضاً؛ عملت على تطريز الوسادات والأغطية، فلمساتها موجودة في كل زاوية من زوايا المتحف».
يعبق «متحف لوسيان» بمشهدية بيوت بيروت العريقة التي تخطف الأنفاس إلى حد أن «بعض الزوار يتأثرون ويبكون ويندهشون أمام روعة البيت وجماليته.
أنا شخصياً أسكن في الطابق العلوي من المنزل. أما الطابق الأرضي فهو مخصص للزوار. كل ما فيه حقيقي يرتبط ارتباطاً مباشراً بهوية بيروت الأصيلة. والـ100 منزل التراثية التي نقلتها إلى البترون في استطاعتها أن تتحدث عن نفسها من دون الحاجة إلى تفسيرات. هنا الجدران تتكلم، والقناطر تتنفس، والنوافذ بأباجورها الخشبي الأخضر تستقبل نور الشمس... أمّا أبواب المنزل؛ فتفتح أياديها بفرح لاستقبال الزوار».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)