أوروبا تغرق بالفيضانات وأميركا تحترق من الحر

بلدان متقدمة تحت وطأة تغيُّر المناخ

الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
TT

أوروبا تغرق بالفيضانات وأميركا تحترق من الحر

الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)

تُعد ألمانيا نموذجاً للحفاظ على المكوّنات الطبيعية الجميلة، بما تحتويه من تلال ووديان وحقول متناسقة تتخللها مناطق حضرية مخططة بإتقان ومأهولة بمجتمعات محلية متماسكة ومتعاونة. وفوق كل ذلك، تملك البلاد خدمة أرصاد جوية وطنية ممتازة ومؤسسات دفاع مدني يُضرب بها المثل في حالات الكوارث.
لكن كل ذلك لم يكن كافياً لمنع كارثة الفيضان التي طالت عشرات الضحايا وألحقت أضراراً جسيمة بالمرافق والبنى التحتية. وفيما تجاوزت حالة الطقس هذه كل التوقعات، حتى إن علماء المناخ الألمان وصفوها بالحدث الذي لا يحصل عادة سوى مرة واحدة خلال عدة قرون، يبدو أن المناخ المعاصر سيفرض أوضاعاً جديدة تُعيد تعريف ما هو اتجاه طبيعي وما هو طقس متطرف بالمقارنة مع بيانات المناخ الماضية.
الفيضانات تُغرق وسط أوروبا
شهدت ألمانيا وبلجيكا وهولندا هطول 150 ملليمتراً من الأمطار في يوم واحد بعد أسابيع ممطرة أدّت إلى تشبّع التربة تماماً. وتحت تأثير هذا الهطل الإضافي، تشكلت موجة فيضان جرفت الحطام الذي اجتاح القرى، وهدم المنازل في مناطق عدة. ويبقى التهديد قائماً في مناطق أخرى بسبب الأوضاع الجوية المسيطرة التي تتحرك ببطء منذ أيام.
واجتاح المنخفض الجوي «بيرند» ألمانيا خلال الأسبوع الماضي، متسبباً في تساقط الأمطار بغزارة. ونظراً لتقييده بمرتفعين جويين يتحركان على نحو متعاكس في الشرق وفي الغرب، كانت حركة المنخفض بطيئة، ما أدى إلى هطول الأمطار بغزارة لفترات طويلة في الأماكن التي يسيطر عليها.
وأظهرت النماذج الحاسوبية أن كمية الرطوبة في الغلاف الجوي القابلة للتساقط، التي تدفقت إلى وسط أوروبا آتية من البحر المتوسط، يمكن مقارنتها بتلك التي تُسجَّل على طول السواحل الأميركية المطلّة على خليج المكسيك أثناء حدوث الأعاصير.
وتتوافق الغزارة الاستثنائية لهطول الأمطار فوق وسط أوروبا مع ما يتوقعه العلماء حول عواقب ارتفاع درجات الحرارة نتيجة تغيُّر المناخ بفعل الأنشطة البشرية. وتؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة حدّة الأحوال الجوية، فمع كل ارتفاع في درجات الحرارة بمعدل درجة مئوية واحدة، تزداد قدرة الهواء على حمل الرطوبة بمعدل 7 في المائة. كما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة معدلات تبخّر المياه على سطح الأرض. ويتسبب كل ذلك في مزيد من الأحوال الجوية المتطرفة، بما فيها الأعاصير القوية.
ومع أن ضراوة الفيضانات الأخيرة كانت غير مسبوقة خلال أكثر من قرن، فإنها ليست المرة الأولى التي تضرب فيها العواصف ألمانيا، وولاية شمال الراين - ويستفاليا على وجه التحديد، حيث تعرضت سابقاً لأعاصير وعواصف تسببت في مقتل العشرات وعزلت مناطق كاملة عن العالم. فخلال العقدين الماضيين، ضرب الإعصار «فريدريك» الولاية سنة 2018 بسرعة 205 كيلومترات في الساعة متسبباً في مصرع ثمانية أشخاص، وقبله الإعصار «نيكلاس» سنة 2015 الذي أودى بحياة 11 شخصاً، وقبل ذلك الإعصار «إيلا» الذي ترافق بعاصفة رعدية سنة 2014، وسبقها الإعصار «كيريل» سنة 2007 والإعصار «جانيت» سنة 2002. وعدا عن اشتداد قوتها، تتكرر العواصف والأعاصير بوتيرة سريعة لم يشهدها العالم قبلاً، وهذا دليل واضح على مؤشرات تغيُّر المناخ التي طالما حذَّر منها العلماء منذ عقود.
وكانت دراسة حديثة، نُشرت في دورية «جورنال أوف كلايمت» مطلع هذه السنة، توقعت زيادةً كبيرةً في هطول الأمطار الغزيرة في معظم أنحاء أوروبا خلال العقود القليلة المقبلة. كما خلُصت دراسة أخرى، صدرت قبل أيام ضمن دورية «أدفانسنغ إيرث آند سبيس ساينس»، إلى أن العواصف الشديدة والبطيئة في جميع أنحاء أوروبا قد تصبح أكثر تواتراً بمقدار 14 مرة بحلول نهاية القرن. وأوضح معدّو الدراسة أن حركة العواصف ستتباطأ، خصوصاً في الخريف، بسبب ضعف الرياح الدافعة في مستويات الجو العليا.
لكن عوامل الطبيعة والتغيُّر المناخي ليست وحدها المسؤولة عما حصل، إذ فاقم المشكلة إنشاء أبنية وشق طرقات وإقامة مصانع وبنى تحتية متنوعة في مجاري السيول والمناطق الطبيعية المؤهلة لاحتواء مياه الفيضانات وامتصاصها. وإذا كانت هذه الأمور أُهملت في الماضي، فالاستعداد للتعامل مع الآثار المتعاظمة لتغيُّر المناخ أضحى أولوية لا تحتمل التأجيل. ومن المفارقات أن إعلان الاتحاد الأوروبي عن خطة مناخية قوية وواسعة جاء قبل يوم فقط من انطلاق موجة الفيضانات في قلب أوروبا، ما سيخفف المعارضة المحتملة للشروط القاسية التي تفرضها الخطة لخفض الانبعاثات الكربونية.
الحرارة تتضاعف في كندا وأميركا
في مقابل الفيضانات الأوروبية، يمثّل الطقس الحار والجاف، الذي يحدث في مناطق الضغط المرتفع التي يغذيها الهواء المداري، شكلاً آخر من التطرف الجوي، حيث قاربت درجة الحرارة خلال الأيام الماضية 50 درجة مئوية في بلدات كندية، و35 درجة مئوية في موسكو وشمال النرويج قرب الدائرة القطبية.
وكانت موجة الحر التي اجتاحت ولايتي أوريغون وواشنطن وغرب كندا خلال الأيام الأخيرة من شهر يونيو (حزيران) أدّت إلى ارتفاع درجات الحرارة في جميع أنحاء شمال غربي المحيط الهادي. وسجّلت مدينة سياتل الأميركية أعلى مستوى حرارة لها على الإطلاق عند 42 درجة مئوية، فيما حطمت مدينة بورتلاند رقماً قياسياً عند 47 درجة مئوية. وتصدّرت بلدة ليتون الكندية عناوين الصحف عندما لامست الحرارة فيها 50 درجة مئوية، وأعقبتها حرائق غابات مدمّرة.
وتشير دراسة أعدّتها مبادرة «وورلد ويذر أتريبيوشن» إلى أن موجة الحرارة الحارقة التي اجتاحت شمال غربي المحيط الهادي، وتسببت بمئات الوفيات في كندا خلال أسبوع، كانت «مستحيلة فعلياً» من دون تأثير تغيُّر المناخ. وتخلُص الدراسة إلى أن التغيُّر المناخي ضاعف احتمالية حدوث موجة الحر هذه نحو 150 مرة.
وعندما جرى تقييم حالة الطقس باستخدام نموذج إحصائي قياسي، يعتمد البيانات المجموعة سابقاً كمرجع لما قد يحصل، اقترح النموذج أن هذه الموجة الحارة غير واردة. وانتهى الأمر بالباحثين إلى تعديل نموذجهم من خلال إجباره على إعطاء أولوية كبرى لدرجات الحرارة القصوى الأخيرة في سجلّه التاريخي، فكانت احتمالية حصول هذه الموجة مرةً واحدةً كل 1000 سنة.
وتشهد المناطق الغربية من الولايات المتحدة فترات جفاف طويلة وموجات حر قاسية. وأسهم الجفاف الذي طال أمده في وسط وشمال أريزونا خلال الأشهر الماضية في إجهاد مائي تسبب في موت ما يصل إلى 30 في المائة من نبات العرعر هناك. ووفقاً لخدمة الغابات الأميركية، هلكت أكثر من 129 مليون شجرة تحت وطأة الجفاف الشديد خلال العقد الماضي، وازدادت نتيجة ذلك مخاطر حرائق الغابات.
نماذج مناخية ناقصة
هذا التباين اللافت في أحوال الطقس بين بلد وآخر يُعزى غالباً إلى التباطؤ في التيار النفاث القطبي الذي يحدث بسبب التقاء الكتل الهوائية المدارية الدافئة مع الكتل الهوائية القطبية الباردة، ويتدفق في طبقات الجو العليا من الغرب إلى الشرق على شكل حزمة ضيقة بسرعات تتجاوز أحياناً 500 كيلومتر في الساعة.
وكما يحصل مع النهر الذي يفقد سرعته في سهل منبسط فتنتج عنه تعرجات واسعة، يميل تيار الهواء القطبي الضعيف إلى تكوين تموجات شاسعة وبطيئة تحتوي الهواء الراكد الساخن أو البارد. فإذا كانت المنطقة التي يتدفق فوقها تيار الهواء في قمة الموجة الساخنة، فهي تواجه طقساً حاراً كما الحال في بلدة ليتون الكندية، وإذا كانت على الطرف البارد فهي تغرق في الفيضانات كما جرى في قرية شولد الألمانية.
ويقلل تغيُّر المناخ من اندفاع التيارات الهوائية، حيث يؤدي ارتفاع درجة حرارة خطوط العرض العليا قرب الدائرة القطبية على نحو أسرع من ارتفاعها فوق خطوط العرض الوسطى في المناطق الاستوائية والمدارية إلى إنقاص التباينات في درجات الحرارة بين الشمال والجنوب، ويضعف بالتالي تدفق الرياح. وتعزز هذه الأحوال الجوية أنماط الانغلاق الجوي، حيث تجثم العواصف على مناطق محددة لأيام أو حتى أسابيع بسبب ضعف التيارات الدافعة.
فعلياً، تعد التيارات الهوائية الجوية هي العامل الأهم في تنظيم حالة الطقس في جميع أرجاء الكوكب، وهي بالتالي المؤثر الأكبر في صعود الحضارات أو انهيارها. ولا تنحصر نتائج ما يحدث في أي مكان من العالم، بما فيها المناطق النائية غير المأهولة، في نطاق انطلاقه فقط، إذ ينعكس تغيُّرات مناخية فوق مناطق أخرى، كما حصل في ألمانيا وكندا. وفي الوقت عينه، تُسبب انبعاثات الكربون فوق المناطق المأهولة احتباساً حرارياً يؤدي إلى تضخيم الأحوال المناخية المدمرة وجعلها أكثر تكراراً على المستوى العالمي، بما فيه تدمير الأنظمة الطبيعية في المناطق النائية.
وتُجمِع معظم النماذج المناخية على أن موجات الحر والجفاف والفيضانات والعواصف العاتية ستصبح أكثر تواتراً وشدةً مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وبدلاً من وضع خطط طوارئ لمواجهة الأحوال الجوية القاسية، فإن ما يحصل بعد كل كارثة هو نسيان كل شيء والمطالبة بتحفيز النمو أياً يكن الثمن.
المقلق أكثر هو أن النماذج المناخية للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ لم تكن قادرةً بما يكفي لتوقع شدّة الفيضانات في ألمانيا وقساوة موجة الحر في شمال أميركا. ويتعذّر على الباحثين حتى الآن التوقع إذا ما كانت مناطق مثل ألمانيا أو شمال أميركا ستواجه ظروفاً مماثلة كل 20 سنة أو كل 10 سنوات أو حتى سنوياً. وغالباً ما تميل تقارير الهيئة إلى التحفظ والبحث عن التوافق بين أغلب الآراء التي تتجاذبها السياسات، ولذلك فإن السيناريوهات الأكثر تطرفاً تخضع للتهميش.
قد تكون حالة الطقس المسجلة فوق وسط أوروبا أو شمال أميركا خلال الأيام الأخيرة مؤشراً على أحوال جوية أكثر سوءاً في المستقبل، وهي تؤكد أن كوارث تغيُّر المناخ ستطال الجميع ولن تفرّق بين بلد متقدّم أو بلد فقير. وما لم يتم الربط بشكل نهائي بين هذه الكوارث المناخية وأسلوب الحياة ونمط الاقتصاد غير المستدام، فإن المجتمعات ستبقى محكومة على الدوام بتكرار المآسي السابقة.
ولكن إذا كانت دول غنية ومتقدمة تكنولوجياً، مثل ألمانيا وكندا، قادرة على تضميد جراحها والخروج من ضربات الفيضانات وموجات الحر، فما حال الدول الفقيرة؟ قمة المناخ المقبلة في غلاسكو أمام تحدٍّ كبير للإجابة عن هذا السؤال، والبدء بتطبيق برامج عملية استعداداً لما هو أعظم.


مقالات ذات صلة

«كوب 29» يشتعل في اللحظات الحاسمة مع اعتراضات من كل الأطراف

الاقتصاد سيارات تُحضر بعض الوفود إلى مقر انعقاد مؤتمر «كوب 29» في العاصمة الأذرية باكو (رويترز)

«كوب 29» يشتعل في اللحظات الحاسمة مع اعتراضات من كل الأطراف

سيطر الخلاف على اليوم الختامي لـ«كوب 29» حيث عبرت جميع الأطراف عن اعتراضها على «الحل الوسطي» الوارد في «مسودة اتفاق التمويل».

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد مفوض الاتحاد الأوروبي للعمل المناخي فوبكي هوكسترا في مؤتمر صحافي على هامش «كوب 29» (رويترز)

«كوب 29» في ساعاته الأخيرة... مقترح يظهر استمرار الفجوة الواسعة بشأن تمويل المناخ

تتواصل المفاوضات بشكل مكثّف في الكواليس للتوصل إلى تسوية نهائية بين الدول الغنية والنامية رغم تباعد المواقف في مؤتمر المناخ الخميس.

«الشرق الأوسط» (باكو)
بيئة أظهرت الدراسة التي أجراها معهد «كلايمت سنترال» الأميركي للأبحاث أنّ الأعاصير الـ11 التي حدثت هذا العام اشتدت بمعدل 14 إلى 45 كيلومتراً في الساعة (رويترز)

الاحترار القياسي للمحيطات زاد حدة الأعاصير الأطلسية في 2024

أكدت دراسة جديدة، نُشرت الأربعاء، أن ظاهرة الاحترار المناخي تفاقم القوة التدميرية للعواصف، مسببة زيادة السرعة القصوى لرياح مختلف الأعاصير الأطلسية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد رجل يقف بجوار شعار مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 29» في أذربيجان (رويترز)

«أوبك» في «كوب 29»: التحول المتوازن في مجال الطاقة مفتاح الاستدامة العالمية

قال أمين عام «أوبك» إن النفط والغاز الطبيعي «هبة من الله»، وإن محادثات الحد من الاحتباس الحراري يجب أن تركز على خفض الانبعاثات وليس اختيار مصادر الطاقة.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد الأمين العام لمنظمة «أوبك» يتحدث خلال مؤتمر «كوب 29»... (رويترز)

الأمين العام لـ«أوبك» في «كوب 29»: النفط هدية من الله

قال الأمين العام لمنظمة «أوبك»، هيثم الغيص، الأربعاء، خلال مؤتمر المناخ «كوب 29» في باكو، إن النفط الخام والغاز الطبيعي هما «هدية من الله».

«الشرق الأوسط» (باكو)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».