«لقاء»... يجمع جورج بهجوري بتلميذه الأردني فادي الداود

TT

«لقاء»... يجمع جورج بهجوري بتلميذه الأردني فادي الداود

يجتمع الأستاذ وتلميذه في معرض واحد يتحدى الفوارق بين الأجيال والثقافات والأمكنة، حيث يحتضن حالياً غاليري «بيكاسو» بالقاهرة معرضاً مشتركاً للفنان المصري القدير جورج بهجوري والتشكيلي الأردني المتألق فادي الداود، ففي تلك القاعة تتعانق أعمالهما فيما يبدو أنّه «لقاء» متميز يروي مشواراً طويلاً شهد محطات فنية عدة على مدى نحو 28 عاماً منذ أن التقيا لأول مرة في العاصمة الأردنية عمان.
لقد كان فادي طفلاً صغيراً في التاسعة من عمره يلهو داخل غاليري والده «رواق البلقاء» بالأردن عام 1993، حينها شاهد لأول مرة الفنان بهجوري وهو يستعد لإقامة معرض جديد بالغاليري، منهمكاً برسم بعض لوحاته الأخيرة، بينما يلعب حوله مسبباً إزعاجاً له؛ ما دفع بهجوري إلى دعوته للرسم والتلوين لتبدأ أولى خطواته في عالم الفن.
يقول بهجوري لـ«الشرق الأوسط»، «كلما كنت أرسم يرسم ويضحك ويلعب، وحين كبر تشرب (الصنعة) مني حتى أصبح الأمر يمثل العكس أحياناً، فبعد أن كان يتفرج عليّ وأنا أرسم أصبح هو يرسم وأنا أنشغل بمتابعته، وقد اكتشفت أنّ هناك تناغماً بيننا، فكانت فكرة المعرض التي تبلورت على يد إبراهيم بيكاسو مدير الغاليري».
المعرض الذي يجمع بين فنانين ينتميان إلى جيلين مختلفين، تحت عنوان «لقاء»، يضم نحو 54 عملاً فنياً، منها 38 لوحة لبهجوري تعكس تركيزه في وجوه البشر ورسمها بشكل ساخر غير مألوف، لكنه شديد الواقعية والعمق في آن واحد، عبر ما ينقله من دواخل البشر.
تعيدنا أعمال الفنان في المعرض إلى مرحلة شديدة الثراء من تاريخ الصحافة المصرية حين احتضنت صفحات مجلتي «صباح الخير» و«روز اليوسف»، خطوطه الكاريكاتيرية الحادة الساخرة لسنوات طويلة، كما شهدت أروقتها لقاءات ومناقشات غنية ومشاغبة مع رواد وعمالقة آخرين في الثقافة والأدب والفن، وما أن تنتقل من هذا الزخم «النوستاليجي» الفريد إلى أعمال الداود تكتشف أنك قد وضعت يديك على طاقات إبداعية وفكرية مغايرة.
ففي فضاءات هذه الطاقات يعثر المتلقي على إجابة سؤال يحيره منذ البداية، وهو لماذا هذا الاحتفاء البارز من جانب الأستاذ بتلميذه؟ سيما أنّ هذا المعرض لم يكن الخطوة الأولى التي قدم فيها بهجوري فادي للجمهور، فقد سبق أن فعل ذلك عبر حضوره وكتابة كلمات على الدعوة بنفسه في معرض أقيم له وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره، ومن ثم معرض آخر تحت عنوان «الليلة الكبيرة» في عام 2006 بالأردن؛ إذ يكتشف المتلقي أنّه أمام فنان موهوب يتقدم في المشهد التشكيلي العربي بخطوات ثابتة وواعية بالعمل الفني ومتطلباته التقنية والبنائية عبر خطوط نسيجية تمثل في مجملها ما يشبه الابتهالات الصوفية.
يعتبر الداود المعرض المشترك بمثابة إنجاز كبير في حياته الفنية، وهو بالنسبة له ليس مجرد لقاء فني بينهما، إنّما هو لقاء بين أجيال «جيل يسلم جيلاً» على حد تعبيره واصفاً مشاعره لـ«الشرق الأوسط» بقوله «إحساس رائع أن يجد تلميذ أستاذه يعترف به، ففي الغالب يقول المرء أنا تلميذ فلان، أما أن يقول الأستاذ هذا هو تلميذي فأمر نادر للغاية». ويتابع «يعكس الفنان الكبير تواضعه بقوله لي لقد أصبح التلميذ أفضل من أستاذه!، وهو يعكس في الوقت نفسه لكم كيف وصل بهجوري إلى اقتناعه التام بأنّه مدرسة فنية مستقلة وقائمة بذاتها، إني فخور بانتمائي إليها».
قد يستعد الزائر للمعرض للبحث عن نقاط التشابه والتلاقي ما بين أعمال الفنانين، أو ربما يعتقد أنّه سينشغل أثناء المشاهدة برصد ملامح تأثر التلميذ بأستاذه، إلّا أنّه يفاجأ بأنّ الأمر عكس ما توقعه! فلا توجد ثيمة للمعرض أو حتى روابط مشتركة بين اللوحات، فبينما يقدم لنا بهجوري أعمالاً مستوحاة من مصر والنيل، يعمل الفنان الشاب في إطار فكرة، «ليأتِ ملكوتك» مستنجداً بالله عز وجل، «نبعت الفكرة من الجائحة التي جعلت العالم يتضرع إلى الله طالباً العون، داعياً أنقذنا يا الله»، على حد تعبيره؛ ولذلك تجده في اللوحات محلقاً في أجواء الصفاء النفسي والذكر والابتهال.
ويستمد الداود أسلوبه من الفن الإسلامي، حيث المساحات الواسعة من الزخارف الهندسية اللامتناهية، بينما تتيح تعدد الطبقات اللونية للمشاهد فرصة الاستمتاع بدفء التكوين وطاقاته الانفعالية، لا سيما أنه جعل الفراغ في أعماله في حد ذاته كتلة والعكس صحيح!
كما يستند إلى الخطوط المستقيمة التي تظهر كما لو كانت خيوط حياكة كثيفة، وهي في الواقع عدد ضخم من الخطوط الشفافة المتراكمة فوق بعضها بعضاً في مساحة صغيرة، تتخذ كل الاتجاهات في الفراغ، ومن ثمّ لوّنها الفنان وسلط الإضاءة عليها فظهرت لنا كما لو كانت قطعاً من النسيج اللحمي للبشر، يقول «تجاوزت الفورم الطبيعي للجسد لأنفذ إلى روح الإنسان وحقيقته لا جماله الخارجي».
وحين يصل الزائر للمعرض المستمر حتى 13 يوليو (تموز) الحالي، وحين يشاهد مجموعة أعماله عن «كوكب الشرق» قد يردد «ها أنا قد وجدت موضع تشابهه مع بهجوري المعروف عنه شغفه برسمها»، إلّا أنّه سرعان ما يكتشف أنّه حتى في تناوله لها كان مختلفاً تماماً في المضمون والتكنيك، كل لوحة تعبّر عن حالة وجدانية خاصة مررت بها أثناء استماعي إليها».
لقد خرج الداود من عباءة بهجوري منذ سنوات ليست قليلة، وأصبح لديه أسلوبه وفكره الخاصان، والمتابع لأعماله الأولى يلمس تأثره الشديد بأستاذه من حيث الألوان والتكثيف في العناصر والفكرة، أما الآن فالأمر بات مغايراً، أصبح يلعب بالشكل أكثر مما يتناول الفورم، كما اختلف التكوين والصياغات الدرامية، يقول الداود «نجحت في الخروج من عباءته منذ عام 2007، أتعبني الأمر كثيراً، لكنّه كان حتمياً، ولولا ذلك الخروج ما كان هذا المعرض، فلم يكن لمُعلم بحجم بهجوري أن يقدمني للجمهور إذا ما كنت نسخة منه، فعظمة الأستاذ تكمن دوماً في أن يصنع فناناً جديداً مختلفاً عنه».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».