بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

رغم هشاشة الائتلاف الحكومي الذي بناه

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية
TT

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

الصحافي البارز يائير لبيد، كان لسنين طويلة في مواجهات يومية مع السياسيين الإسرائيليين على صفحات الصحف وعلى شاشات التلفزيون، وكان يعود إلى البيت فيدخل في جدالات مريرة في بيته، مع والده تومي لبيد، الذي انتقل هو أيضاً من الصحافة إلى السياسة وشغل عدة مناصب وزارية في حكومات اليمين. لكن الرجل يجد نفسه اليوم في قلب السياسة وفي مقدمة السياسيين في إسرائيل. وإذا نجحت خطته، فإنه سيصبح رئيس حكومتها بعد سنتين وبضعة أسابيع.
خطة لبيد ليست هيّنة، بل تبدو شبه مستحيلة. إذ يقف له بالمرصاد لإفشالها بنيامين نتنياهو، الذي يعد ثعلب السياسة الإسرائيلية. وعلى الطريق توجد سلسلة عقبات تبدو كالجبال، يضعها ليس خصومه فحسب بل قسم من حلفائه أيضاً. لكنه ماضٍ في هذا الطريق بثبات وإصرار، وببرودة أعصاب، آخذاً على عاتقه قيادة دفة الأمور من دون التمسك بالمنصب الأول، باثاً روحاً إيجابية في الحلبة السياسية في وقت تتحكم جائحة «كوفيد - 19» بحياة الناس ويسود الانشقاق في المجتمع. يتصرف بهدوء بالغ وسط قادة كثيرين من ذوي الرؤوس الحامية. وحقاً، المعلقون الذين كانوا يعدونه إلى حد قريب، مغروراً متغطرساً، يمتدحونه الآن بشكل مفاجئ ويرونه نبتة غريبة في السياسة الإسرائيلية. بل باتوا يرون أن قدرته على تثبيت الحكومة ذات التركيبة الغريبة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع الحركة الإسلامية، باتت واقعية.

يائير لبيد، هو المحرّك الأساس للحكومة الإسرائيلية الجديدة. وعلى الرغم من أنه يقود أكبر حزب في الائتلاف، بـ17 مقعداً، فإنه رضي بمنصب «الرجل الثاني» وسلّم نفتالي بنيت المنصب الأول، مع أن الأخير يقود حزباً صغيراً من 7 نواب أحدهم تمرّد عليه، فبقي مع 6 نواب.
لبيد فعل ذلك لضرورات المعركة ضد بنيامين نتنياهو، لكنه مقتنع بخطوته حتى بوجود احتمالات طعنه من بنيت عبر فرط الائتلاف الحكومي، قبل أن يتسلم لبيد رئاسة الحكومة. فما الذي يفكر فيه لبيد؟ وما الذي يجعله يخوض مغامرة كهذه؟ وهل هو يسير في طريق مُجدٍ من نوع جديد؟

- سيرته الذاتية
في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) القريب، سيبلغ يائير لبيد الثامنة والخمسين من العمر. وهو ولد لعائلة ضالعة في الأدب والسياسة معاً. والده تومي يوسف لبيد كان أيضاً كاتباً صحافياً بارزاً وحاداً، ووالدته شولاميت أديبة متفرغة. الأب من أصول صربية، والأم من أصول رومانية.
العائلتان خبرتا معاناة اليهود في أوروبا تحت الحكم النازي، ثم إن والد تومي لبيد قُتل في معسكر اعتقال وإبادة في بولندا. وتركت هذه القصة جرحاً عميقاً في العائلة. وبعدما هاجر إلى إسرائيل عام 1948، اشتغل تومي في الصحافة، ثم انتقل إلى السياسة، وأسّس حزباً بقيادته وتولى عدة مناصب وزارية وعُرف بحدّة لسانه وشدة علمانيته وحربه الشرسة على المتدينين.
يائير، هو الابن البكر للعائلة، ومع أنه وُلد في تل أبيب، فقد تربّى وترعرع في لندن، حيث كان الأب مراسلا لصحيفة «معريب». وبعدها أمضى شبابه في تل أبيب، وتخرج في مدرسة «جيمناسيا» العبرية الرفيعة في مدينة هرتسليا، شمالي تل أبيب. ومع أنه كان تلميذاً ناجحاً، فقد تميز بالاستقلالية وحتى التمرد وترك بيت والديه في سن مبكرة وبرز كملاكم هاوٍ ولكن معروف جداً.
أيضاً، رغم ابتعاده عن بيت والديه، فإنه اكتسب منهما مَلَكة الكتابة، وأمضى خدمته العسكرية في العمل الصحافي. وعندما تسرّح من الجيش، تابع مسيرته الإعلامية والأدبية وعايش المجتمع الفني والثقافي. وكانت حصيلة هذه المسيرة، العمل مراسلاً في صحيفة «معريب»، التي عمل فيها والده. ثم في عام 1988 محرراً للصحيفة المحلية «صحيفة تل أبيب». وفي عام 1991 أصبح كاتب عمود أسبوعي في مجلة نهاية الأسبوع، بدايةً في «معريب»، ثم في الصحيفة ذات الانتشار الأوسع في البلاد «يديعوت أحرونوت».
وفي عام 1995 عمل مقدّم برنامج الاستضافة الرئيسي في القناة الأولى، التي كانت تبث ليلة السبت. ومنذ عام 1997 قدم برنامج اللقاءات «يائير لبيد مباشر في العاشرة». وبين 2000 و2008 قدّم برنامج الاستضافة ذا الشعبية «يائير لبيد». وفي عام 2008 بدأ بتقديم برنامج الأخبار الذي يحظى بشعبية واسعة في إسرائيل، في أيام الجمعة، بعنوان «استوديو الجمعة» في القناة الثانية.
وفي المجال الأدبي أصدر11 كتاباً، من بينها: «الرأس المزدوج»، و«الأحجية السادسة»، و«المرأة الثانية»، ورواية بعنوان «غروب الشمس في موسكو»، كذلك كتب السيرة الذاتية لوالده «ذكريات بعد موتي: قصة يوسف (تومي) لبيد». ولعب أدواراً تمثيلية في أعمال سينمائية إسرائيلية.

- اقتحام السياسة
في عام 2011، بعدما بلغت حملة الاحتجاج الشعبي ضد حكم نتنياهو أوجها ونزل أربعمائة ألف مواطن يهتفون بإسقاط النظام، لمع نجم يائير لبيد وراح كثيرون يتوجهون إليه بأن يترك الإعلام وينتقل إلى السياسة.
كان أول من اكتشف هذه المواهب فيه هو نتنياهو نفسه، الذي رآه خطراً على كرسي حكمه. ولذا سنّ قانوناً يقضي بمنع رجال الإعلام والجيش والقضاء من الترشح للكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، إلا باستقالة الشخص وبقائه لمدة سنتين بعيداً عن موقع القيادة.
وعندما شعر لبيد بأن نتنياهو يخافه لهذه الدرجة، أدرك أنه الرجل المناسب لتغيير الحكم... فانطلق؛ إذ استقال من التلفزيون وباشر في تأسيس حزب خاص به سماه «يوجد مستقبل». واختار لقيادة الحزب مجموعة من الشخصيات المعروفة على نطاق محدود، الذين يقبلون به قائداً للحزب من دون انتخابات لثلاث دورات انتخابية. ووضع حزبه في خانة يمين الوسط الليبرالي، رافضاً أن يصنَّف يسارا. وحقاً، مع مرور الوقت اتخذ مواقف يمينية بحتة أكدت توجهه.
عام 2013 كان حزب لبيد مفاجأة الانتخابات، إذ حصل على 19 نائباً، وأصبح بذلك ثاني أكبر حزب في تلك الدورة، بعد الليكود، وأول حزب ليبرالي. وفي المقابل، هبط يومها نصيب حزب العمل، مؤسس الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، إلى 15 مقعداً، وأيضاً انهار حزب «كديما»، الذي أسسه أرئيل شارون وإيهود أولمرت وفاز بالحكم دورتين، فهبط إلى مقعدين. وبدا أن لبيد نجم صاعد في السياسة الإسرائيلية.
على الأثر، نتنياهو أقنعه بالانضمام إلى الائتلاف الحاكم معه ودفعه إلى منصب وزير المالية، الذي يعد عادةً مدفن السياسيين. ووقع لبيد في هذه المصيدة، إذ انتهز نتنياهو أول فرصة فأقاله من منصبه بعد 19 شهراً، وقاد إسرائيل إلى انتخابات مبكرة. ولكن كملاكم يواجه خصماً أقوى منه، وقف لبيد على رجليه وتلقى ضربة تلو الأخرى. وفي هذه الانتخابات تراجع حزبه إلى 11 مقعداً. وهنا اختار لبيد البقاء في المعارضة، رافضاً عروض نتنياهو الانضمام مرة ثانية إلى حكومته... وبدا مشروعه الاستراتيجي لإسقاط نتنياهو.
الانطباع الأوّلي عن لبيد في تلك المرحلة كان أنه ما زال صغيراً أمام الكبار (على الأقل، هكذا تعامل معه نتنياهو) ولم يعد يشكل تهديداً جدياً للفوز بالسلطة. لكن من جهته، سار لبيد على طريق النمل. يعمل بهدوء بالغ. يغرس عميقاً في الأرض. ويؤسس لمفاهيم جديدة في العمل السياسي. يُكثر من التشاور مع السياسيين السابقين، خصوصاً أولئك الذين عملوا مع نتنياهو ويعرفون مواطن ضعفه، مثل إيهود أولمرت ودان مريدور وتسيبي ليفني. وفي تلك الفترة تعرف إلى نفتالي بنيت، رئيس حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف وشريكته إييليت شكيد، وهما الشابان اللذان عملا موظفين لدى نتنياهو... شكيد مديرة مكتبه وبنيت رئيس طاقمه. لكن نتنياهو تخلص منهما لاحقاً لأنهما اختلفا مع زوجته سارة. وبالتالي، أقام لبيد معهما شراكة غريبة، أطلق عليها «الإخوة اليهودية».
بعدها جنّد لبيد مجموعات من الشباب يحثهم على بدء المسار نحو قيادات شابة، وكان أول السياسيين الذين استخدموا الشبكات الاجتماعية في طرح الأفكار وتجنيد المؤيدين. وراح يتعاطى مع الشباب بروح تلائم طروحاتهم، وقال لهم: «أنا أفهم تلبُّككم ما بين اليمين واليسار، وأقدم لكم سياسة تدمج ما بين اليمين واليسار. فكلنا شعب واحد. أنا يميني في كثير من القضايا ويساري وليبرالي في قضايا أخرى».
وعلى الأرض، ترجم هذه المقولة إلى مواقف سياسية أيضاً. فهو وزير مالية في حكومة رأسمالية راديكالية، لكنه طرح مواقف ترفع شعار «العدالة الاجتماعية للطبقة الوسطى». وهو يؤيد «حل الدولتين» و«الانفصال عن الفلسطينيين»، لكنه يعد هذا الموقف «الضمان لبقاء إسرائيل ذات أغلبية يهودية»، ولا يقبل بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 ويؤمن بوجوب إبقاء كتل استيطانية كبيرة ضمن حدود إسرائيل.
وفي انتخابات 2013 اختار لبيد أن يعلن عن برنامجه السياسي في جامعة مستوطنة أرئيل بالتحديد، التي تعد مدينة استيطانية في قلب الضفة الغربية وقائمة على أراضي نابلس. وهو ينادي بالتجنيد الإجباري لليهود المتدينين والعرب، وعُرف عنه معارضته وتطبيقه سياسة ضد منح امتيازات لليهود المتدينين واتهامهم بالتطفل على الدولة والبطالة.
وهو يقول إنه يؤيد المساواة للمواطنين العرب، لكنه أفشل احتمال تشكيل حكومة تستند إلى تأييد الأحزاب العربية. وفقط بعد الانتخابات الأخيرة، بعدما بادر نتنياهو إلى التفاوض مع الحركة الإسلامية برئاسة منصور عباس، غيّر لبيد رأيه وسار على طريق نتنياهو وضم إلى ائتلافه الحكومي تلك الحركة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.

- المستقبل
يائير لبيد اليوم هو «رئيس الوزراء البديل» ووزير الخارجية وشريك نفتالي بنيت في قيادة الائتلاف. وهو يحرص بشدة على التعامل مع بنيت كقائد أول، ويقول: «لدينا رئيس حكومة واحد هو نفتالي بنيت».
المقربون منه يقولون إنه اتفق مع بنيت على أن يحرص الوزراء على إطراء بعضهم بعضاً، كي يقدموا نموذجاً لحكومة جديدة تختلف عن الحكومات السابقة، خصوصاً عن حكومة نتنياهو. وهو شخصياً كان قد التزم قبل خمس سنوات بأن يحافظ على طهارة اللسان فلا يهاجم أي خصم بكلمات لاذعة أو جارحة.
وعندما وصل إلى أبوظبي امتدح خصمه اللدود نتنياهو، وقال: «أشكر باسمنا جميعاً رئيس الحكومة السابق، الذي كان مهندس اتفاقيات أبراهام وعمل على تحقيقها دون كلل. وهذه اللحظة له ليس أقل مما هي لنا». ومع أن نتنياهو ورفاقه في قيادة الليكود لم يحترموا هذا الإطراء وراحوا يهاجمون لبيد بقولهم «إنه يقطف ثمار ما فعل نتنياهو»، واستخفّ نجل نتنياهو بلغة لبيد الإنجليزية وكتب: «لغة ركيكة يخجل منها تلميذ في الصف الثامن»، ردّ لبيد بالقول: «لن أغيّر من طباعي في قول الصدق حتى لو تصرفوا بهذا الجحود. لقد قلت لكم إننا في عهد جديد، ولن ينجح أحد في إعادتنا إلى الوراء لأيام بث الكراهية والأحقاد».
يائير لبيد ملاكم معروف، يمارس هوايته هذه حتى اليوم.
مشيته مشية ملاكم. ويقول معارفه إنه يتصرف كملاكم في السياسة أيضاً، لكنه هنا يضيف قانوناً جديداً إلى الحلبة، قانون النفَس الطويل. فما بين الضربة والضربة، يتريث أكثر من الوقت المسموح ويسجل النقاط. ولا يهمه أن ينتظر سنتين حتى يوجه الضربة القاضية.
أما الأسئلة التي تنتظر إجابات عنها فهي: هل يصمد لبيد في هذه المزايا ويحافظ على حكومته ذات التركيبة المتناقضة؟ وهل تصمد حكومته حتى نوفمبر 2023، لكي يأتي دوره ويصبح هو رئيس حكومة؟ وهل تنفع مواهبه في الملاكمة في تغيير قوانين اللعب وتوجيه الضربة القاضية إلى نتنياهو، قبل أن ينقضّ عليه الأخير ويعيده إلى خارج الحلبة؟


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.