بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

رغم هشاشة الائتلاف الحكومي الذي بناه

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية
TT

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

الصحافي البارز يائير لبيد، كان لسنين طويلة في مواجهات يومية مع السياسيين الإسرائيليين على صفحات الصحف وعلى شاشات التلفزيون، وكان يعود إلى البيت فيدخل في جدالات مريرة في بيته، مع والده تومي لبيد، الذي انتقل هو أيضاً من الصحافة إلى السياسة وشغل عدة مناصب وزارية في حكومات اليمين. لكن الرجل يجد نفسه اليوم في قلب السياسة وفي مقدمة السياسيين في إسرائيل. وإذا نجحت خطته، فإنه سيصبح رئيس حكومتها بعد سنتين وبضعة أسابيع.
خطة لبيد ليست هيّنة، بل تبدو شبه مستحيلة. إذ يقف له بالمرصاد لإفشالها بنيامين نتنياهو، الذي يعد ثعلب السياسة الإسرائيلية. وعلى الطريق توجد سلسلة عقبات تبدو كالجبال، يضعها ليس خصومه فحسب بل قسم من حلفائه أيضاً. لكنه ماضٍ في هذا الطريق بثبات وإصرار، وببرودة أعصاب، آخذاً على عاتقه قيادة دفة الأمور من دون التمسك بالمنصب الأول، باثاً روحاً إيجابية في الحلبة السياسية في وقت تتحكم جائحة «كوفيد - 19» بحياة الناس ويسود الانشقاق في المجتمع. يتصرف بهدوء بالغ وسط قادة كثيرين من ذوي الرؤوس الحامية. وحقاً، المعلقون الذين كانوا يعدونه إلى حد قريب، مغروراً متغطرساً، يمتدحونه الآن بشكل مفاجئ ويرونه نبتة غريبة في السياسة الإسرائيلية. بل باتوا يرون أن قدرته على تثبيت الحكومة ذات التركيبة الغريبة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع الحركة الإسلامية، باتت واقعية.

يائير لبيد، هو المحرّك الأساس للحكومة الإسرائيلية الجديدة. وعلى الرغم من أنه يقود أكبر حزب في الائتلاف، بـ17 مقعداً، فإنه رضي بمنصب «الرجل الثاني» وسلّم نفتالي بنيت المنصب الأول، مع أن الأخير يقود حزباً صغيراً من 7 نواب أحدهم تمرّد عليه، فبقي مع 6 نواب.
لبيد فعل ذلك لضرورات المعركة ضد بنيامين نتنياهو، لكنه مقتنع بخطوته حتى بوجود احتمالات طعنه من بنيت عبر فرط الائتلاف الحكومي، قبل أن يتسلم لبيد رئاسة الحكومة. فما الذي يفكر فيه لبيد؟ وما الذي يجعله يخوض مغامرة كهذه؟ وهل هو يسير في طريق مُجدٍ من نوع جديد؟

- سيرته الذاتية
في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) القريب، سيبلغ يائير لبيد الثامنة والخمسين من العمر. وهو ولد لعائلة ضالعة في الأدب والسياسة معاً. والده تومي يوسف لبيد كان أيضاً كاتباً صحافياً بارزاً وحاداً، ووالدته شولاميت أديبة متفرغة. الأب من أصول صربية، والأم من أصول رومانية.
العائلتان خبرتا معاناة اليهود في أوروبا تحت الحكم النازي، ثم إن والد تومي لبيد قُتل في معسكر اعتقال وإبادة في بولندا. وتركت هذه القصة جرحاً عميقاً في العائلة. وبعدما هاجر إلى إسرائيل عام 1948، اشتغل تومي في الصحافة، ثم انتقل إلى السياسة، وأسّس حزباً بقيادته وتولى عدة مناصب وزارية وعُرف بحدّة لسانه وشدة علمانيته وحربه الشرسة على المتدينين.
يائير، هو الابن البكر للعائلة، ومع أنه وُلد في تل أبيب، فقد تربّى وترعرع في لندن، حيث كان الأب مراسلا لصحيفة «معريب». وبعدها أمضى شبابه في تل أبيب، وتخرج في مدرسة «جيمناسيا» العبرية الرفيعة في مدينة هرتسليا، شمالي تل أبيب. ومع أنه كان تلميذاً ناجحاً، فقد تميز بالاستقلالية وحتى التمرد وترك بيت والديه في سن مبكرة وبرز كملاكم هاوٍ ولكن معروف جداً.
أيضاً، رغم ابتعاده عن بيت والديه، فإنه اكتسب منهما مَلَكة الكتابة، وأمضى خدمته العسكرية في العمل الصحافي. وعندما تسرّح من الجيش، تابع مسيرته الإعلامية والأدبية وعايش المجتمع الفني والثقافي. وكانت حصيلة هذه المسيرة، العمل مراسلاً في صحيفة «معريب»، التي عمل فيها والده. ثم في عام 1988 محرراً للصحيفة المحلية «صحيفة تل أبيب». وفي عام 1991 أصبح كاتب عمود أسبوعي في مجلة نهاية الأسبوع، بدايةً في «معريب»، ثم في الصحيفة ذات الانتشار الأوسع في البلاد «يديعوت أحرونوت».
وفي عام 1995 عمل مقدّم برنامج الاستضافة الرئيسي في القناة الأولى، التي كانت تبث ليلة السبت. ومنذ عام 1997 قدم برنامج اللقاءات «يائير لبيد مباشر في العاشرة». وبين 2000 و2008 قدّم برنامج الاستضافة ذا الشعبية «يائير لبيد». وفي عام 2008 بدأ بتقديم برنامج الأخبار الذي يحظى بشعبية واسعة في إسرائيل، في أيام الجمعة، بعنوان «استوديو الجمعة» في القناة الثانية.
وفي المجال الأدبي أصدر11 كتاباً، من بينها: «الرأس المزدوج»، و«الأحجية السادسة»، و«المرأة الثانية»، ورواية بعنوان «غروب الشمس في موسكو»، كذلك كتب السيرة الذاتية لوالده «ذكريات بعد موتي: قصة يوسف (تومي) لبيد». ولعب أدواراً تمثيلية في أعمال سينمائية إسرائيلية.

- اقتحام السياسة
في عام 2011، بعدما بلغت حملة الاحتجاج الشعبي ضد حكم نتنياهو أوجها ونزل أربعمائة ألف مواطن يهتفون بإسقاط النظام، لمع نجم يائير لبيد وراح كثيرون يتوجهون إليه بأن يترك الإعلام وينتقل إلى السياسة.
كان أول من اكتشف هذه المواهب فيه هو نتنياهو نفسه، الذي رآه خطراً على كرسي حكمه. ولذا سنّ قانوناً يقضي بمنع رجال الإعلام والجيش والقضاء من الترشح للكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، إلا باستقالة الشخص وبقائه لمدة سنتين بعيداً عن موقع القيادة.
وعندما شعر لبيد بأن نتنياهو يخافه لهذه الدرجة، أدرك أنه الرجل المناسب لتغيير الحكم... فانطلق؛ إذ استقال من التلفزيون وباشر في تأسيس حزب خاص به سماه «يوجد مستقبل». واختار لقيادة الحزب مجموعة من الشخصيات المعروفة على نطاق محدود، الذين يقبلون به قائداً للحزب من دون انتخابات لثلاث دورات انتخابية. ووضع حزبه في خانة يمين الوسط الليبرالي، رافضاً أن يصنَّف يسارا. وحقاً، مع مرور الوقت اتخذ مواقف يمينية بحتة أكدت توجهه.
عام 2013 كان حزب لبيد مفاجأة الانتخابات، إذ حصل على 19 نائباً، وأصبح بذلك ثاني أكبر حزب في تلك الدورة، بعد الليكود، وأول حزب ليبرالي. وفي المقابل، هبط يومها نصيب حزب العمل، مؤسس الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، إلى 15 مقعداً، وأيضاً انهار حزب «كديما»، الذي أسسه أرئيل شارون وإيهود أولمرت وفاز بالحكم دورتين، فهبط إلى مقعدين. وبدا أن لبيد نجم صاعد في السياسة الإسرائيلية.
على الأثر، نتنياهو أقنعه بالانضمام إلى الائتلاف الحاكم معه ودفعه إلى منصب وزير المالية، الذي يعد عادةً مدفن السياسيين. ووقع لبيد في هذه المصيدة، إذ انتهز نتنياهو أول فرصة فأقاله من منصبه بعد 19 شهراً، وقاد إسرائيل إلى انتخابات مبكرة. ولكن كملاكم يواجه خصماً أقوى منه، وقف لبيد على رجليه وتلقى ضربة تلو الأخرى. وفي هذه الانتخابات تراجع حزبه إلى 11 مقعداً. وهنا اختار لبيد البقاء في المعارضة، رافضاً عروض نتنياهو الانضمام مرة ثانية إلى حكومته... وبدا مشروعه الاستراتيجي لإسقاط نتنياهو.
الانطباع الأوّلي عن لبيد في تلك المرحلة كان أنه ما زال صغيراً أمام الكبار (على الأقل، هكذا تعامل معه نتنياهو) ولم يعد يشكل تهديداً جدياً للفوز بالسلطة. لكن من جهته، سار لبيد على طريق النمل. يعمل بهدوء بالغ. يغرس عميقاً في الأرض. ويؤسس لمفاهيم جديدة في العمل السياسي. يُكثر من التشاور مع السياسيين السابقين، خصوصاً أولئك الذين عملوا مع نتنياهو ويعرفون مواطن ضعفه، مثل إيهود أولمرت ودان مريدور وتسيبي ليفني. وفي تلك الفترة تعرف إلى نفتالي بنيت، رئيس حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف وشريكته إييليت شكيد، وهما الشابان اللذان عملا موظفين لدى نتنياهو... شكيد مديرة مكتبه وبنيت رئيس طاقمه. لكن نتنياهو تخلص منهما لاحقاً لأنهما اختلفا مع زوجته سارة. وبالتالي، أقام لبيد معهما شراكة غريبة، أطلق عليها «الإخوة اليهودية».
بعدها جنّد لبيد مجموعات من الشباب يحثهم على بدء المسار نحو قيادات شابة، وكان أول السياسيين الذين استخدموا الشبكات الاجتماعية في طرح الأفكار وتجنيد المؤيدين. وراح يتعاطى مع الشباب بروح تلائم طروحاتهم، وقال لهم: «أنا أفهم تلبُّككم ما بين اليمين واليسار، وأقدم لكم سياسة تدمج ما بين اليمين واليسار. فكلنا شعب واحد. أنا يميني في كثير من القضايا ويساري وليبرالي في قضايا أخرى».
وعلى الأرض، ترجم هذه المقولة إلى مواقف سياسية أيضاً. فهو وزير مالية في حكومة رأسمالية راديكالية، لكنه طرح مواقف ترفع شعار «العدالة الاجتماعية للطبقة الوسطى». وهو يؤيد «حل الدولتين» و«الانفصال عن الفلسطينيين»، لكنه يعد هذا الموقف «الضمان لبقاء إسرائيل ذات أغلبية يهودية»، ولا يقبل بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 ويؤمن بوجوب إبقاء كتل استيطانية كبيرة ضمن حدود إسرائيل.
وفي انتخابات 2013 اختار لبيد أن يعلن عن برنامجه السياسي في جامعة مستوطنة أرئيل بالتحديد، التي تعد مدينة استيطانية في قلب الضفة الغربية وقائمة على أراضي نابلس. وهو ينادي بالتجنيد الإجباري لليهود المتدينين والعرب، وعُرف عنه معارضته وتطبيقه سياسة ضد منح امتيازات لليهود المتدينين واتهامهم بالتطفل على الدولة والبطالة.
وهو يقول إنه يؤيد المساواة للمواطنين العرب، لكنه أفشل احتمال تشكيل حكومة تستند إلى تأييد الأحزاب العربية. وفقط بعد الانتخابات الأخيرة، بعدما بادر نتنياهو إلى التفاوض مع الحركة الإسلامية برئاسة منصور عباس، غيّر لبيد رأيه وسار على طريق نتنياهو وضم إلى ائتلافه الحكومي تلك الحركة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.

- المستقبل
يائير لبيد اليوم هو «رئيس الوزراء البديل» ووزير الخارجية وشريك نفتالي بنيت في قيادة الائتلاف. وهو يحرص بشدة على التعامل مع بنيت كقائد أول، ويقول: «لدينا رئيس حكومة واحد هو نفتالي بنيت».
المقربون منه يقولون إنه اتفق مع بنيت على أن يحرص الوزراء على إطراء بعضهم بعضاً، كي يقدموا نموذجاً لحكومة جديدة تختلف عن الحكومات السابقة، خصوصاً عن حكومة نتنياهو. وهو شخصياً كان قد التزم قبل خمس سنوات بأن يحافظ على طهارة اللسان فلا يهاجم أي خصم بكلمات لاذعة أو جارحة.
وعندما وصل إلى أبوظبي امتدح خصمه اللدود نتنياهو، وقال: «أشكر باسمنا جميعاً رئيس الحكومة السابق، الذي كان مهندس اتفاقيات أبراهام وعمل على تحقيقها دون كلل. وهذه اللحظة له ليس أقل مما هي لنا». ومع أن نتنياهو ورفاقه في قيادة الليكود لم يحترموا هذا الإطراء وراحوا يهاجمون لبيد بقولهم «إنه يقطف ثمار ما فعل نتنياهو»، واستخفّ نجل نتنياهو بلغة لبيد الإنجليزية وكتب: «لغة ركيكة يخجل منها تلميذ في الصف الثامن»، ردّ لبيد بالقول: «لن أغيّر من طباعي في قول الصدق حتى لو تصرفوا بهذا الجحود. لقد قلت لكم إننا في عهد جديد، ولن ينجح أحد في إعادتنا إلى الوراء لأيام بث الكراهية والأحقاد».
يائير لبيد ملاكم معروف، يمارس هوايته هذه حتى اليوم.
مشيته مشية ملاكم. ويقول معارفه إنه يتصرف كملاكم في السياسة أيضاً، لكنه هنا يضيف قانوناً جديداً إلى الحلبة، قانون النفَس الطويل. فما بين الضربة والضربة، يتريث أكثر من الوقت المسموح ويسجل النقاط. ولا يهمه أن ينتظر سنتين حتى يوجه الضربة القاضية.
أما الأسئلة التي تنتظر إجابات عنها فهي: هل يصمد لبيد في هذه المزايا ويحافظ على حكومته ذات التركيبة المتناقضة؟ وهل تصمد حكومته حتى نوفمبر 2023، لكي يأتي دوره ويصبح هو رئيس حكومة؟ وهل تنفع مواهبه في الملاكمة في تغيير قوانين اللعب وتوجيه الضربة القاضية إلى نتنياهو، قبل أن ينقضّ عليه الأخير ويعيده إلى خارج الحلبة؟


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».