«معارك العمران»... توثيق لقضايا المباني التراثية المصرية

كتاب جديد يسرد النجاحات والإخفاقات

«معارك العمران»... توثيق لقضايا  المباني التراثية المصرية
TT

«معارك العمران»... توثيق لقضايا المباني التراثية المصرية

«معارك العمران»... توثيق لقضايا  المباني التراثية المصرية

استحوذت قضايا هدم وتشويه المباني التراثية والأثرية المصرية على اهتمام المصريين خلال العقدين الماضيين، وخصوصاً بعد خسارة مبانٍ تاريخية ونادرة يصعب تعويضها حالياً، ورغم تداول بعض تفاصيل هدم تلك المباني في الصحف والبرامج التلفزيونية فإن ثمة حلقة مفقودة لم يطلع القارئ عليها، وهي رواية المسؤول الحكومي المنوط به الدفاع عن تلك المباني، والذي اتهم أحياناً بالتقصير، لذلك تأتي أهمية شهادة سمير غريب، رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري (2004 - 2014)، التي يرويها في كتابه الجديد «معارك العمران» عن دار رؤية للنشر، ويتضمن مجموعة من أبرز المعارك التي خاضها للحفاظ على هذا العمران بحكم مسؤوليته رئيساً للجهاز المعني بالحفاظ على التراث، وقد خسر منها كثيراً وكسب قليلاً، على حد تعبيره، ضمن تقديمه للكتاب الذي يكشف لأول مرة عن بعض خبايا وكواليس قضايا العمران والتراث في مصر.
يقول غريب لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت فكرة الكتاب تراودني منذ كنت أتولى مسؤولية جهاز التنسيق الحضاري، إذ كانت عيني طوال الوقت على المجتمع والقراء، كنت صحافياً محترفاً أريد أن أشركهم فيما أخوضه من معارك طاحنة من أجل الحفاظ على التراث العمراني والمعماري، وهو جزء أصيل من الهوية المصرية، وهذا لا يعني إفشاء أسرار عملي الحكومي في عهد حسني مبارك، فمجال عمل الجهاز يتم في الشارع، وكل ما تم هدمه يعرفه الناس، لكن ما لا يعرفونه هو ما وراء ذلك من أهداف وموافقات ورفض ومعارك وخسائر موجعة لثروة تراثية لا يوجد لها مثيل في العالم».
يضم الكتاب 370 صفحة، وهو مكون من مقدمة طويلة تحت عنوان: «هامش طويل كأنه كشف حساب» ويليها 13 فصلاً، ويتصدر الكتاب قضية البناء في حرم قلعة صلاح الدين، التي يعتبرها من أهم معاركه الخاسرة، وهو بناء خرساني لم يكتمل، وكان نواة لمشروع تجاري ضخم هو «مركز القاهرة المالي العالمي»، يقول غريب: «يُعد أول مبنى في مصر، وربما في العالم يحصل على ترخيص بناء من رئيس الوزراء، بدلاً من مدير الإدارة الهندسية بالحي، وذلك بسبب رفض الجميع التصريح بالبناء في منطقة أثرية عظيمة مثل القلعة، ولا سيما أنه كان بالطبع سيحجب الرؤية عنها، فقد خضت أنا ومسؤولون كثيرون معركة طاحنة، شاركت فيها (اليونيسكو) عبر لجنة رفضت هي أيضاً البناء، لكن تم جلب لجنة أخرى ووافقت! وبعدها أصدر د. عاطف عبيد رئيس الوزراء حينئذ بنفسه التصريح بشرط أن تكون المباني الخرسانية متدرجة، ومن مفارقات القدر أن العمل توقف بعد فترة بسبب وفاة رجل الأعمال صاحب المشروع، ووفاة الدكتور عاطف عبيد رحمهما الله. إلا أن الهيكل لا يزال يهدد المنطقة».
ومن المعارك الأخرى التي خاضها بشراسة، قضية هدم قصر يسي أندراوس بالأقصر (جنوب مصر) والذي تجاوز عمره 100 عام، ويكشف الكاتب تفاصيل المعركة في سياق حواره مع «الشرق الأوسط» قائلاً: «تشكلت جبهة شعبية ضمّت عدداً من الأطياف السياسية والمثقفين لمناهضة قرار الإزالة إلا أن الرغبة في الثأر من ورثة يسي باشا، الذين كانوا قد حصلوا أخيراً على حكم قضائي باسترداده من الحزب الوطني الذي كان يتخذه مقراً له قد فازت في النهاية تحت مبررات غريبة غير مقنعة مثل التطوير والأهداف السياحية، وقد شكلت لجاناً وطالبت بعدم هدم القصر لكونه قيمة فنية ومعمارية وهو مسجل أثراً برقم واحد ضمن المباني التاريخية، وكذلك كانت هناك توصيات من قامات علمية كبيرة بإدراجه في المخطط العام للمنطقة المراد تطويرها، إلا أنه في نهاية 2008 صدر رسمياً قرار بالإزالة والإبقاء على قصر شقيقه (توفيق) المجاور له وتم تنفيذ القرار».
وحين يبحث القارئ داخل الكتاب عن المعارك التي كسبها غريب يجدها قليلة للغاية، ويعلق: «لأن ذلك هو الواقع». حتى تكاد تكون مساهمته في منع إنشاء الميناء النهري بقرية «المريس» بالأقصر عند تكاتفه مع أهل القرية وعمدتها وعلماء الري والمياه والهيدروليك في مصر الذين أكدوا خطورة ذلك هي ما تعلق في ذهن القارئ حول انتصاراته العمرانية في النهاية!
ويسلط الكتاب الضوء على قضايا أخرى مهمة، وكأنه يشفي غليل كثير من العقول الموجوعة على التراث العمراني المصري، كما أنه ينشر الوعي بكيفية قراءة المشهد العمراني المستقبلي، ورصد مخاطره في أي وطن! بمعنى أن الكتاب يساهم في فك شفرة وطلاسم كيف يمكن لبعض المنتفعين أحياناً أن يخططوا لهدم التراث من أجل تحقيق مصالح وأهواء شخصية عبر ادعاءات وحجج ذات «شرعية شكلية» أو تحت مصطلح استهلاكي، وهو «المصلحة العامة» لكنها في واقع الأمر تضرب مصالح الوطن في الصميم.
ويوضح: «ما شجعني أن أحكي تجربتي هو توافر الجانب الوثائقي لديَّ، فكل القضايا موثقة بالمستندات والصور، ما يجعل من السرد مرجعية مهمة ومتاحة لكل الدارسين والعاملين في المجالات العمرانية والمعمارية، كما أنه من حق الناس العادية أن تفهم ما يحدث، وأن يزداد وعيها من خلال دراسة الماضي كي يتحولوا هم أنفسهم لقوة حقيقية قادرة على الحفاظ على تراثهم في الحاضر والمستقبل».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».