صراع على نهر التيمز عمره 186 عاما!

سباق الزوارق بين جامعتي أكسفورد وكمبريدج

سباق الزوارق السنوي بين أكسفورد وكمبريدج مناسبة تنتظرها لندن كل ربيع
سباق الزوارق السنوي بين أكسفورد وكمبريدج مناسبة تنتظرها لندن كل ربيع
TT

صراع على نهر التيمز عمره 186 عاما!

سباق الزوارق السنوي بين أكسفورد وكمبريدج مناسبة تنتظرها لندن كل ربيع
سباق الزوارق السنوي بين أكسفورد وكمبريدج مناسبة تنتظرها لندن كل ربيع

ما إن يحل فصل الربيع في لندن حتى تتوجه أنظار أهل المدينة إلى نهر التيمس لمشاهدة أول نشاط رياضي سنوي تشهده لندن بعد فترة البيات الشتوي كل عام. إنه سباق الزوارق بين جامعتي أكسفورد وكمبردج الذي بدأ في عام 1829، أي منذ 186 عاما، وهي مناسبة تعقد سنويا منذ عام 1856 ما عدا خلال الحربين العالميتين.
وينطلق سباق هذا العام يوم 11 أبريل (نيسان) القادم ويطلق عليه اسم الشركة الراعية له وهي «بي إن واي ميلون»، وهو سباق يغطي مسافة 4.8 ميل على سطح النهر غرب لندن بين نقطتي باتني ومورتليك.
وتتشابه الزوارق في الشكل ويرتدي فريق أكسفورد غلالات ذات لون أزرق قاتم بينما يرتدي فريق كمبردج تقليديا اللون الأزرق الفاتح. ويتقاسم الفريقان مرات الفوز والخسارة، إذ فاز فريق كمبردج بالسباق 81 مرة حتى الآن مقابل 78 فوزا لفريق أكسفورد.
وفي يوم السباق يصطف نحو ربع مليون مشاهد على ضفتي النهر لتشجيع الفرق ومشاهدة الحدث، بينما لا تقل المشاهدة التلفزيونية عن 15 مليون مشاهد.
وتقول وثائق بدايات السباق إنه بدأ بين صديقين من أيام الدراسة الثانوية، توجه أحدهما إلى جامعة كمبردج، وهو تشارلز ميريفيل، بينما ذهب صديقه تشارلز وودورث إلى جامعة أكسفورد، وكلاهما من هواة التجديف النهري. ووجهت جامعة كمبردج تحديا إلى جامعة أكسفورد لسباق زوارق عقد للمرة الأولى في مدينة هنلي على نهر التيمس وفازت فيه جامعة أكسفورد بسهولة.
وتأسس السباق بعد ذلك بتكوين أندية التجديف في الجامعتين وتجديد التحدي سنويا. وفي كل عام يتوجه الفريق الخاسر بعد السباق إلى الفريق المنتصر بتحدٍّ للمواجهة مرة أخرى في العام التالي، ويتكرر التحدي سنويا.
ويتكون كل فريق من 8 لاعبين أشداء وتاسع صغير الحجم لقيادة الزورق وتوجيهه حيث يواجه اللاعبون مؤخرة الزورق أثناء السباق. ولا توجد أي محاذير على وزن اللاعبين على أساس أن الفريق الذي يتوجه إلى الأوزان الثقيلة سوف يعاني من زيادة وزن الزورق واحتمال غرقه أيضا. وجرت العادة أن يحتفل الفريق الفائز بإلقاء قائد الزورق صغير الحجم في النهر.
وتسمح شروط السباق بالاستعانة بالفتيات في قيادة الزورق، وكانت أول طالبة تقوم بهذه المهمة هي سو براون في عام 1981 مع فريق أكسفورد، كما يمكن الاستعانة باللاعبات في فريق التجديف نفسه، ولكن هذا لم يحدث بعد.
السباق هو بين هواة، ويجب أن يكونوا من طلاب الجامعتين وقت انعقاد السباق. ويتدرب كل فريق يوميا لمدة 6 أشهر قبل السباق. وعلى مر السنين تخرّج من هذا السباق كثير من الأبطال الأوليمبيين في سباقات الزوارق. ولا تقدم الجامعتان أي مزايا لفرق التجديف فيها، إذ يجب على كل طالب في الجامعة أن يلتحق وفق الشروط الأكاديمية المطلوبة من الجميع.

* غرائب السباق

* من غرائب سباق الزوارق ما حدث في عام 1877 حينما أعلن القاضي جون فيلبس (الذي كان يقف على الشاطئ) أن الزورقين وصلا إلى خط النهاية في الوقت نفسه، ولذلك فالنتيجة هي التعادل. لم تكن هناك علامات واضحة لخط النهاية، كما كان الطقس سيئا في ذلك اليوم. إضافة إلى ذلك تؤكد تقارير السباق أن القاضي كان في الـ70 من العمر وكفيفا في إحدى عينيه! ولذلك تم وضع أعمدة في النهر في العام التالي لتحديد خط النهاية، بعد شكوى من فريق أكسفورد الذي اعتقد أنه فاز بالسباق بمسافة «6 أقدام على الأقل».
وترصع الاحتجاجات من فريق أكسفورد تاريخ السباق، ومعظمها يدور حول اختيار أعضاء الفريق أو أساليب التدريب. وفي المرات التي احتدمت فيها الاحتجاجات كان الفوز من نصيب أكسفورد رغم الترشيحات التي كانت تشير إلى تفوق كمبردج.
في عام 2012 تسبب طالب أسترالي يدرس في بريطانيا اسمه ترينتون أولدفيلد في وقف السباق بعد قطع مسافة ثلاثة أرباع المضمار النهري، وذلك بعد إلقاء نفسه في النهر والسباحة بين الزورقين. وكان الطالب يحتج على قطع المعونات الدراسية والتفرقة الاجتماعية بين الأثرياء والفقراء في جامعات بريطانيا. ولم تتوقف الدراما عند هذا الحد، فبعد استئناف السباق من نقطة توقفه اصطدم الزورقان وانكسر في التصادم أحد مجاديف فريق أكسفورد، ولكن الحكم أمر باستمرار السباق على أساس أن الخطأ كان من فريق أكسفورد. وبالطبع فاز فريق كمبردج بسهولة وبفارق يماثل طول 4 زوارق ونصف الزورق. وبعد انتهاء السباق أغمي على أحد لاعبي فريق أكسفورد من الإعياء وتم إسعافه. ولم تعقد احتفالات صاخبة في ذلك العام نظرا لظروف انعقاده الصعبة.
وخلال تاريخ السباق كان الفوز يتحقق أحيانا بغرق زورق أحد الفريقين، ولكن في عام 1911 تم إلغاء السباق بعد أن غرق الزورقان معا في طقس رديء ورياح شديدة. ويختار الفريق الفائز جهة النهر التي يرغب في السباق منها، وذلك في قرعة تجرى بعملة معدنية. ويتم الاختيار وفقا لطقس يوم السباق وتيارات المياه والرياح السائدة. وتوفر الجهتان عدة مميزات للفريقين عبر مراحل السباق المختلفة.
هذا السباق يعد حدثا رياضيا مهما على الرزنامة الرياضية البريطانية وتغطي هيئة الـ«بي بي سي» هذا السباق على الهواء سنويا، وهو يذاع على الراديو أيضا منذ عام 1938، وعلى مر السنين جرت كتابة كثير من الكتب عن السباق وإخراج فيلم سينمائي واحد على الأقل عن سباق عام 1895.

* سباق أكسفورد وكمبريدج للزوارق في أرقام:

* - مرات الفوز: كمبردج 81 - أكسفورد 78.
- أكبر فترة انتصارات متتالية: كمبريدج 13 مرة بين عامي 1924 – 1936.
- الرقم القياسي في السرعة: كمبردج في 16 دقيقة 19 ثانية في عام 1998.
- أقصر مسافة فوز: أكسفورد بقدم واحد في عام 2003.
- أطول مسافة فوز: كمبردج بمسافة 35 زورقا في عام 1839.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)