خليل أبو عبيد: الغناء «النابي» في لبنان يدفن الفن الراقي

جديده «حكايتي»... أغنية بديعة بعد غياب

الفنان اللبناني خليل أبو عبيد
الفنان اللبناني خليل أبو عبيد
TT

خليل أبو عبيد: الغناء «النابي» في لبنان يدفن الفن الراقي

الفنان اللبناني خليل أبو عبيد
الفنان اللبناني خليل أبو عبيد

فيديو كليب عاطفي، بكاميرا المخرج بيار خضرا، يعيد المؤلف الموسيقي والفنان اللبناني خليل أبو عبيد إلى الضوء. الأغنية بعنوان «حكايتي»، تشبه الجروح النائمة وهي تستفيق لتخدش وتعض. يأخذه الغياب، ثم يعيده مُحملاً بجمالية فنية. يعترف لـ«الشرق الأوسط»: «الأغنية في بالي منذ ثلاث سنوات، أرجأ الظرف ولادتها»، ويروي ما حدث. تسيطر الأضواء الحمراء على المشهد لتأكيد النزيف. أغنية عن رحيل الأحبة، وما لا يعود إلى الأبد. هي شيءٌ من المرايا الداخلية، في لحظة انعكاس أليم على صفحات الماء الباكي. وهي صمتٌ مُتعب يتوق إلى البوح. «الكل عرفوا حكايتي»، يغني برتبة الحسرات المتصاعدة من الروح. يتأسف للمشهد الفني اللبناني وموجة «الأغنية النابية»: «يا للمستوى الهابط!». نحاوره في جديده، وعن ضريبة الفن الصادق. غضبه مُبرر.
بعد السلام، سؤال: ما سبب الغياب؟ لقد طال، وفي طوله احتمال أن ينسى الناس الغائب ويستغنوا عن حضوره. ألا يخاف خليل أبو عبيد من صفعات النسيان؟ كلمتان: «طبعاً أخاف». يُحمل الظرف المسؤولية: «كنتُ مجبوراً، أوضاع لبنان مُرهقة، إضافة إلى ظروفي الشخصية. آخذ وقتي في ولادة الأغنية، ولا أريدها أن تمر مروراً عابراً. غايتي وصولها إلى الناس، فإن وصلت عوضت الغياب».
أطلق قبل سنتين أغنية «قلبي إلك»، وتوارى. واليوم يعود بـ«حكايتي»، من كلمات نعمان الترس، ألحان أبو عبيد وتوزيعه. «كانت فكرة جاهزة منذ ثلاث سنوات»، يقول. إذن، لِمَ تأخرت؟ يُخبر «الشرق الأوسط» قصتها: «أردتُ تلحينها وتوزيعها، فيغنيها فنان آخر. الرجاء عدم السؤال: من هو؟ سأكتفي بالإجابة عن: ماذا جرى؟ بعدما أصبحت جاهزة، شعرتُ بأنها لي. واحدة من بناتي. لمستني. فاعتذرت من الفنان. ثمة أغنيات تتطلب طبيعة صوت، أكثر مما تتطلب قدرات صوتية. (حكايتي) صعبة، هي مزيج من الفن الإيقاعي والطربي. قد توقِع المغني إن لم تناسب خامة صوته. بينما أُعرب الأغنيات، بين التي لي والتي لغيري، حسمتُ أمري: أريدها».
يسخر ممن يصنفون أنفسهم دائماً «الرقم واحداً»، ويتساءل: «إن كانوا جميعاً الأول، فمن هو الثاني؟ الجمهور يقرر، لا الفنان». يرعبه ما يجري اليوم في لبنان: «هبوط حاد». يستعيد كلمة الفنان فارس كرم، ليُعبر عن سخطه: «قرفتونا». أي أن المشهدية الفنية اللبنانية مثيرة للغثيان. «خصوصاً في السنتين الأخيرتين». يُهاجم الكلام واللحن وطريقة المغنى: «معازية» (نسبة إلى الماعز). ويُكمل بلوعة: «كأن الفن يسير جنباً إلى جنب مع الاقتصاد اللبناني. كلاهما في القعر. تحت الصفر»، مع ترك هامش للاستثناء، «فهناك مَن لا يزال يُنظف الأذن ويخاطب الذوق».
خليل أبو عبيد من الغيارى على الأغنية اللبنانية، يُحضر دكتوراه في أحوالها ومصيرها. «يقتلون هويتها! على أي أغنيات يرقصون في (تيك توك)؟ هذا الهبوط يغطي على الفن الراقي ويدفنه!». ما تفسيرك للعلة؟ «تنتجها سيطرة الفراغ، وعدم محافظة البعض على مستواه. هناك من يتبع مصالحه على حساب النوع. هل المشكلة في تفكيري أم في تفكير الآخرين؟ لا أدري. ما أجزمه هو أن الفن اللبناني ليس بخير». آخ، على لبنان وفنه.
نناقش مسألة الفيديو كليب ودوره في إيصال الأغنية، فيجيب أبو عبيد على سؤال: هل لا يزال الصوت قادراً على الانتشار من دون صورة؟ بالقول: «الأمر يتعلق بمستوى الغناء. فالأغنية النابية تصل من دون كليب. جمهورها عريض. تبدأ القصة على هذا الشكل: هل استمعتَ إلى أغنية فلان؟ كم أنها تافهة وسخيفة! ثم تنتشر بفضل الدعاية وتُحطم الأرقام. الأكيد أن الأغنية المحترمة تحتاج إلى فيديو كليب يوسع انتشارها».
تفاجئه الملايين عبر «يوتيوب» لأغنيات تتغزل بالبط والوز. «ملايين على مقطع من 20 ثانية! يا خي كيف؟». مستوى الاستماع في الأسفل، ومعيار التقبل. تأتي أغنيته الجديدة مثل مطهر يعقم الحيز الموبوء. يمنحها المخرج بيار خضرا أنفاساً حقيقية. لا تعني خليل أبو عبيد الأسماء الكبيرة في الإخراج، لمجرد أنها أسماء كبيرة. تعنيه الفكرة، البساطة، محاكاة العاطفة. يأخذ الكليب الخيال إلى حيث يريد الغناء. ترحل الحبيبة ويبقى حضورها. في الصور والشوق والعذابات.
يهم أبو عبيد التأكيد: «أردتها أغنية قريبة من الشارع، بلغتها وموضوعها، لا أغنية شوارعية». يرى «الثمن غالياً»، عندما يقرر الفنان رفض الانزلاق وركوب الموجة. «خدمتُ فني باللحم الحي، وأفعل ما أستطيع عليه من أجل هوية الأغنية اللبنانية». ولمن يقول إن الوضع اللبناني المُنهك يجعل الجمهور لا يفكر سوى بلقمة المعيشة، يرد: «إذن، كيف تمتلئ المطاعم والملاهي الليلية اللبنانية بالراقصين على وَقْع الأغنية الهابطة؟ كيف لا يريدون غناءً راقياً، لكنهم يريدون غناءً نابياً؟ أي مفارقة وأي جنون؟».
«كترة ما صاحبت الوجع/ صاير أنا لـعم وجعو»، يغني في «حكايتي»، أمتألمٌ أنت؟ «الجمال يولد من الألم»، صحيح. يُحبطه الوضع اللبناني، ويتساءل: «أين الوطن لنغني له؟». جهز أغنيتين عن المقتلة اللبنانية ولم يُصدرهما. «ما كان إلى نفس». معذور، حتى الحماسة جثة في لبنان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)