«بيروت من الردم للغضب» يروي بالصور صلابة مدينة

«دار المصور» تستضيف المعرض لينتقل بعدها إلى باريس

صورة من معرض فلوريان زوين في «دار المصور» بمنطقة الحمراء
صورة من معرض فلوريان زوين في «دار المصور» بمنطقة الحمراء
TT

«بيروت من الردم للغضب» يروي بالصور صلابة مدينة

صورة من معرض فلوريان زوين في «دار المصور» بمنطقة الحمراء
صورة من معرض فلوريان زوين في «دار المصور» بمنطقة الحمراء

يقيم المصور الفوتوغرافي اللبناني الأصل فلوريان زوين في باريس منذ سنوات طويلة. فعندما غادر لبنان كان لا يزال طفلاً، اعتاد زيارة وطنه الأم في مواسم الصيف. بعيد انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب)، من العام الفائت، قرر زوين العودة إلى لبنان والاستقرار فيه. «إنه بلدي وهو يعوزني في ظروفه الصعبة التي يمر بها. شعرت أنه بحاجة إلى الطاقات الإيجابية، فحزمت حقيبتي وعدت إلى أحضانه من دون تردد»، يقول زوين لـ«الشرق الأوسط».
ما أن وصل فلوريان بيروت في 17 أغسطس 2020 أي بعد نحو 13 يوماً على انفجار بيروت، حمل كاميرته القديمة وراح يتنقل بين أنحاء الجميزة ومار مخايل والكرنتينا، يلتقط صوراً فوتوغرافية بالأبيض والأسود لدمار بيروت. بعدها أخذ على عاتقه تصوير إعادة إعمار تلك المناطق، وكيف يتساعد أهالي المدينة ويمدون يد العون لبعضهم. «تلك الصور كانت بالألوان، أردتها كذلك للإشارة إلى عودة الأمل بالحياة من جديد»، يوضح فلوريان في سياق حديثه. استغرقت رحلة التصوير مع فلوريان نحو عام كامل، آخر محطاته معها كانت في بيروت المنتفضة بمظاهرات شبابها وعودة مطاعمها ومقاهيها، وانتشار الرسوم الغرافيكية على جدرانها. من هنا ولدت فكرة إقامة معرض للصور الفوتوغرافية تحت عنوان «بيروت من الردم للغضب قصة من لبنان».
يتضمن المعرض الذي يقام في «دار المصور» في منطقة الحمراء، نحو 40 صورة فوتوغرافية، تحكي بمجملها عن بيروت المدينة الصلبة المقاومة للموت.
ويوضح فلوريان زوين في سياق حديثه: «لقد قسمت المعرض إلى ثلاث محطات؛ الأولى تحكي المشهدية الرمادية التي غطت بيروت إثر الانفجار. وكذلك الردم الذي ملأ أحياءها وشوارعها وأزقتها. هناك عشرات العمارات والأبنية التي سقطت من جراء الانفجار. كل هذه الصور التي لها علاقة بالحجر فقط من دون وجود وجوه وأشخاص فيها، جمعتها في هذا الجزء تحت عنوان «الرماد».
وفي القسم الثاني من المعرض، يطالعنا فلوريان بمجموعة صور وضعها تحت عنوان «المرونة». «في هذا الجزء من الصور اعتمدت تنفيذها بالألوان عكس الأولى منها. صورت منطقة الكرنتينا وإعادة الأعمار. وركزت على اللبنانيين الذين يتساعدون، والعمال المتطوعين من كل حدب وصوب. هنا يرتاح أحد الشبان تحت سقف منزل مهدم، وهناك يتسلق أحدهم عمارة، وآخر يصلح النوافذ والأبواب. كل ذلك لفتني، وأردته نموذجاً عن بيروت المدينة الصلبة والقوية بأهلها».
وفي القسم الثالث من المعرض وتحت عنوان «الغضب» ينقلنا فلوريان إلى انتفاضة بيروت على الموت وتغلبها على أوجاعها. «هنا في هذا القسم خصصت المساحة الأكبر للإنسان اللبناني. كيف يعبر عن غضبه من خلال المظاهرات، ويحزم أمره ويقرر المضي في محاسبة الفساد، ضمن تجمعات حاشدة سار بها في شارع المصارف وأمام مصرف لبنان. وكذلك صورت المظاهرات وإقفال الطرقات في منطقة المتحف ومحيط قصر العدل. لم أرغب في نقل صورة حقيقية عن كل ذلك انطلاقاً من حب العنف، بل للإشارة إلى أسبابه التي دفعت باللبناني للتعبير من خلالها عن مآسيه».
تلفتك صور فلوريان زوين بدقة تفاصيلها ووضوح خطوطها، بحيث يخيل إليك أنك أمام الحدث مباشرة. فهنا صورة بالأبيض والأسود لساعة منزل توقفت عقاربها عند السادسة وسبع دقائق، وقت حصول الانفجار. وهناك فتاة لبنانية متحمسة تحمل العلم اللبناني وهي تبتسم، وأخرى تهرب من اندلاع حريق في وسط بيروت أثناء المظاهرات. فيما صورة ثالثة تحضن باب منزل مخلوع كتب عليه عبارة «فضاؤنا هو من دُمر وليس نحن». ويعلق فلوريان زوين: «يواكب معرضي هذا كتاب يحمل نفس العنوان أردته بالفرنسية والعربية، لأوصل رسائل اللبنانيين عبر العالم. فهم عانوا الأمرين ودمرت بيوتهم، وعاشوا بين الرماد، ولكنهم استطاعوا المقاومة والوقوف من جديد. وعندما يطلع عليها الأجنبي، سيعرف أن كل مظاهر العنف التي عبر فيها اللبناني عن غضبه لم تأتِ من العدم، بل من تراكمات كثيرة تكدست مع الزمن. ويمكن أن يفهم مشاهد المعرض أو قارئ الكتاب ما أرغب في إيصاله عن اللبناني، من خلال نظرة عامل أو كتف عجوز أو ابتسامة طفل. فأنا من المصورين الذين يحبون التعامل مع الجانب الإنساني أكثر من أي شيء آخر».
قريبا ينقل فلوريان زوين معرضه إلى باريس في 30 يونيو (حزيران) الجاري ويقول: «في 24 الشهر الحالي سأعود إلى باريس كي أحضر لمعرضي هناك الذي سأقيمه ليوم واحد فقط في إحدى الغاليريهات. وسأقدم بالتالي لكتابي الذي يواكب المعرض الفوتوغرافي ومن ثم أعود إلى لبنان. وربما بعد ذلك أنتقل إلى مدينتي هناك (ريمز) في 20 يوليو (تموز) لأقيم نسخة ثالثة من معرضي الفوتوغرافي فيها».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».