«لبنان بين الأمس والغد» كما يراه نوّاف سلام

الطائفية جذورها تاريخية والتخلص منها شرط لقيام الدولة

نواف سلام
نواف سلام
TT

«لبنان بين الأمس والغد» كما يراه نوّاف سلام

نواف سلام
نواف سلام

كتاب نوّاف سلام «لبنان بين الأمس والغد»، الصادر حديثاً بنسختين: إحداهما بالعربية عن «دار شرق الكتاب» في بيروت، وأخرى بالفرنسية عن «أكت سود» في باريس، هو مجموعة دراسات كتبت ونشرت سابقاً (متفرقة) بالإنجليزية أو الفرنسية على مدى ربع القرن الماضي. وهي في مجملها ترسم رؤية متكاملة للوضع اللبناني منذ التكوين الأول لهذه البقعة الصغيرة من الأرض إلى اليوم. ونواف سلام -حالياً- قاض في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وكان سفير لبنان لدى الأمم المتحدة، وطرح اسمه لتولي رئاسة الحكومة أكثر من مرة في السنة الأخيرة.
ويعود المؤلف في كتابه الجديد إلى القرن الرابع الميلادي، حيث يمر بمراحل التشكيل الديموغرافي والتحولات الدينية، ويتحدث عن أهمية المرحلة العثمانية، ومن ثم تشكل لبنان الحديث، وفي مركز الاهتمام مدى تجذر الطائفية، وتحول معانيها ووظائفها، وما تمثله في الزمن الراهن. فالطائفية في رأيه «لا تزال تمنع قيام دولة فعلية، بما يفترضه ذلك من قدرة على بسط سيادتها في الداخل، كما في الخارج». ولا يساوره شك في أن لبنان «يمر بإحدى أخطر مراحل تاريخه المعاصر»، وهذا ما يتطلب «التصدي للجذور العميقة للأزمة» بمختلف تفرعاتها.
الكتاب، إذن، ليس قراءة للأزمة الحالية، كما يمكن أن يتخيل بعضهم، إنما هو أقرب إلى الأكاديمية منه إلى التحليل السياسي السريع. ولإرضاء فضول القارئ الذي غالباً ما يميل إلى الطازج قدم الكاتب للدراسات الثماني التي يتكون منها الكتاب بصفحات يشرح من خلالها فكرته، وتسلسل المسار الذي يطرحه، كما يشير إلى تحديثات لجأ إليها في عدة مواضع. ولربما أن المقولة التي اختارها لأنطونيو غرامشي في أول الكتاب هي مؤشر على المكان الذي يرى سلام لبنان محشوراً فيها: «تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لا يستطيع أن يُولد بعد. وفترة الالتباس هذه بين العتمة والنور، تظهر شتى أنواع الأمراض».
ما يفعله سلام من خلال الكتاب، إضافة إلى الإحاطة التاريخية، في الوضع اللبناني هو طرح رؤيته الإصلاحية التي تشبه إلى حد كبير غالبية ما يطالب به اللبنانيون، لكن تبقى المشكلة في التطبيق، وفي العثور على الأشخاص الذين بمقدورهم المضي في تطبيق ما هو مطلوب للنجاة.
إن «الجمهورية الثالثة» في لبنان، كما يقول، يفترض أن «تقوم على مبدأ المواطنة الجامعة وسيادة القانون، وعلى دولة مدنية ترتكز على قيم العدالة والمساواة والحرية واستقلالية القضاء، بدلاً من الطائفية والمحاصصة». وفي القسم الأول المخصص للإصلاحات المطلوبة، يشرح كيف أن الطائفية تجذرت بفعل الحرب الأهلية عام 1975، واستفحل الأمر بعد اتفاق الطائف عام 1989، لا بسبب الاتفاق نفسه بل بسبب سوء التطبيق أو تجاهل أحكام كان يمكنها أن تصحح الاختلالات، إضافة إلى ضرورة سد الثغرات التي يعاني منها.
فهو مع الانتقال إلى مجلسين: مجلس للنواب ومجلس للشيوخ، كما نص اتفاق الطائف؛ يؤمن الثاني التمثيل العادل للطوائف، في حين يؤمن مجلس النواب المشاركة «المواطنية» غير الطائفية. وسلام أيضاً مع تطبيق «اللامركزية الإدارية الموسعة» شرط ألا تتعدى الجانب الإداري فتنحو صوب الفيدرالية. ومن الإصلاحات التي يدعو إليها، وباتت موضع إجماع الشعب اللبناني، إصلاح قانون الانتخاب، كما أنه مع سياسة «النأي بالنفس» التي كثر الكلام عنها في الآونة الأخيرة.
وبالعودة إلى الطائفية التي تشغل سلام، ويعود إليها في كل دراسة، يرى أن ما يحركها لم يعد المعتقد الديني الذي تأسست عليه، وإنما أضحت نوعاً من العصبية بحسب النموذج القبلي الذي يتحدث عنه ابن خلدون في مقدمته.
فبعد توقف الحرب الأهلية، وبدل أن يخفت وهج الطائفية بفعل ما تسببت به من كوارث، برز ميل إلى تجذيرها اجتماعياً، إذ إن «عامل العبادة» أو التعلق بمضمون العقيدة الدينية لم يعد هو ما يحرك أصحاب الطائفة الواحدة، إنما تحولت إلى نوع من «النسب» أو «التوهم به» لشد أزر الجماعة الواحدة. بدليل أنه قبل الحرب الأهلية عام 1975، أجريت دراسة في لبنان بينت أن نسبة الأشخاص الذين يرتادون دور العبادة ممن تقل أعمارهم عن 30 سنة تتراوح بين 2 و5 في المائة، مما يؤكد أن الطوائف تخضع العنصر الديني الذي كان أساس نشأتها لأهداف زمنية ومصالح سياسية لبسط هيمنتها.
الدراسات الثماني قسمت على 3 فصول. في الفصل الأول «أصول المسألة اللبنانية» عودة إلى مسار تشكل الطوائف، وتطور دورها الاجتماعي والسياسي، من «جماعات أمر واقع» وجدت على هذه الأرض وتعايشت، مروراً بمرحلة استغلالها من قبل القوى الكبرى لإضعاف الحكم العثماني، دون إهمال الدور الذي لعبته المؤسسات الدينية لتنظيم الأطر الاجتماعية. وفي هذا القسم دراسة تحت عنوان «المواطن المكبل»، يتحدث فيه سلام عن منطقين يتعيشان في لبنان بتوتر، وهما المنطق الطائفي والمنطق الفردي. منطقان لا يلغي أحدهما الآخر، على ما يبدو بينهما من تناقض ظاهري. وإذا كان المنطق الطائفي مفهوماً، فهو يعود لشرح المنطق الفردي إلى ميشال شيحا وكتاب آخرين من أصحاب التيار «اللبنانوي» الذين غلبوا قيمة الحرية الفردية، كما أهمية التعليم الذي انتشر باكراً على الأراضي اللبنانية، وما حمله المهاجرون من قيم الانفتاح. ويخلص إلى أن التعايش بين المنطقين سهل ممكن، لكن المشكلة هي في الدولة التي رجحت حقوق الطوائف على حساب حقوق الأفراد «لأن إشكالية المواطنة في لبنان لا تكمن في غياب الفرد -كما يقال- بل في غياب الاعتراف السياسي الكامل بهذا الفرد».
حين أعلن الجنرال الفرنسي غورو لبنان الكبير عام 1920، حيث اعتمدت صيغة ضم المدن الساحلية بيروت وصيدا وطرابلس إلى المتصرفيتين، وكذلك الأقضية الأربعة التابعة لولاية الشام، وهي بعلبك والمعلقة وراشيا وحاصبيا، كان ذلك برغبة من القيادات السياسية والدينية للطائفة المارونية، وانخفض بالتالي عدد المسيحيين من 80 في المائة إلى 51 في المائة، بحيث لم يعد الموارنة يشكلون سوى 30 في المائة. هذا الكيان الجديد قضى على حلم المسلمين، وشركاء لهم من الروم الأرثوذوكس، بالانضمام إلى المملكة العربية التي دغدغ بها الملك فيصل عواطفهم. المشكلة بدأت باكراً، إذ وجد المسلمون صعوبة في التماهي مع حلم القومية اللبنانية أو التيار اللبنانوي. فالهدف من قيام لبنان لم يكن التوازن، كما تقول إليزابيث بيكار، وإنما الغرض هو أن يكون «وطناً للمسيحيين»، على الرغم من أن نصف السكان ليسوا كذلك.
وعام 1943، ومن خلال «الميثاق الوطني»، قبل المسيحيون بوجه عربي للبنان، وتخلى المسلمون عن فكرة الوحدة مع سوريا. ومع الوقت، انخرط المسلمون في فكرة الدولة اللبنانية، لكن طبيعة هذه الدولة وهويتها ظلتا مسألتين خلافيتين. وإن نجح اتفاق الطائف بعد معارك الحرب الأهلية المدمرة في إيقاف دورة العنف، وإعادة تعريف الهوية والكيان، فإن الأزمة بقيت نفسها. فالدولة كما يقول سلام «لا يمكن أن تكون جديرة بهذه التسمية إلا عندما تنجح في فرض استقلاليتها عن الطوائف المختلفة، وتكوين حيز خاص بها».
القسم الثاني من الكتاب مخصص «للحرب والسلم»، وفيه دراسة عن «جذور الحرب ومساراتها (1975-1990)»، حيث قراءة في الثغرات الداخلية والتدخلات الخارجية التي أججت الحرب الأهلية، وعملت على تقوية جذوتها عندما كانت تخمد. هذه الصفحات تدخل في تفاصيل حول النظام السياسي، والهشاشة الاقتصادية والزراعية، لكن ربما أن العبارات التي استعارها سلام من ثيودور هانف تختصر جيداً ما يريد أن يقوله: «في معظم مراحلها، ظلت الحرب الأهلية ظاهرة ثانوية للحرب بالوكالة على فلسطين، لكنها هيأت الأرضية لتغييرات ضخمة في النظام السياسي اللبناني». وثمة في هذا القسم الثاني من الكتاب ما يقارب 20 صفحة خصصت لـ«اتفاق الطائف أو السلام الهش» الذي نتج عنه. فإذا كانت الحرب الأهلية استمرت سنوات نتيجة الجدلية القائمة بين سعي الزعماء اللبنانيين إلى دعم خارجي لتعزيز مواقعهم في وجه خصومهم المحليين، واستغلال اللاعبين الخارجيين للانقسامات الداخلية لتعزيز نفوذهم الإقليمي، فإن اتفاق الطائف حصل بعد أن أيقن الخصوم اللبنانيون أن أحداً منهم غير قادر على تحقيق انتصار وقد أنهكتهم الحرب. أسباب كثيرة يدرجها الكاتب أدت إلى إيقاف الحرب، كما أنه يقدم قراءة طويلة لاتفاق الطائف، وما كان له من انعكاسات، فهو لم يتمكن من الحد من التدخلات الخارجية والارتهان للآخرين، وأبقى البلاد على توازنات هشة. بالخلاصة «فإن إعادة اتفاق الطائف إلى مساره الصحيح فقط أضحى أمراً شبه مستحيل. وما بات مطلوباً اليوم هو معالجة اختلالات الطائف وتطويره».
وفي القسم الثالث (الأخير)، المعنون بـ«نحو الجمهورية الثالثة»، فإن الخطوة الأولى نحو بلوغ هذه الهدف بالنسبة لنواف سلام هي البحث عن «مدخل إلى تجاوز الطائفية السياسية». ولم يستخدم سلام في عنوان بحثه كلمة إلغاء التي شاعت بين محتجي 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، فالواقعية تقتضي النظر إلى صعوبة هذا الأمر في الوقت الراهن، خاصة أن الكاتب يتحدث عن شيء من النفاق أو المداراة، وأحياناً استخدام تكتيكات من جهة أطراف سياسية تدعي رغبتها في تخطي النظام الطائفي، فيما المضمر غير ذلك. وفي رأي سلام أن إلغاء الطائفية السياسية يحتاج إلى ظهور قوى اجتماعية جديدة، وتشكيلات حديثة ذات طابع وطني غير طائفي. ولا بد من التدرج في العودة إلى الدستور. أما النقطة الثانية التي يطرحها الكتاب للنجاح في الدخول إلى الجمهورية الثالثة، فوضع نظام انتخابي عادل، يتمثل من خلاله اللبنانيون، عاقداً مقارنات بين النظام الأكثري الذي كان متبعاً والنظام النسبي الذي وضع عام 2017، مظهراً ثغراته، ومن ثم النظام المركب الذي يجمع بين الأكثري والنسبي، ويمكن أن يكون صالحاً لتطبيقه في لبنان. لكن في كل الأحوال، أياً يكن النظام الانتخابي، فإن بقاء النساء من دون «كوتا» تفرض وجودهم، والشباب الذين لا يحق لهم الاقتراع عند بلوغ الثامنة عشرة، وكذلك حرمان المقترع من حق الانتخاب في مكان إقامته، وضعف ضوابط الدعايات الانتخابية، وعدم القدرة على ضبط سقوف الإنفاق؛ كلها من مكدرات العبور صوب الديمقراطية الحقة.
الكتاب في مجمله يحاول وضع تصور إصلاحي لدولة تتخلص من مرض الطائفية تدريجياً، وتبسط سيادتها على أراضيها، وتتعامل مع أفرادها بصفتهم مواطنين متساوين في الحقوق.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة