وفاة الممثل الفلسطيني غسّان مطر، أول من أمس، هي نهاية رحلة قطعها الراحل من هاو إلى محترف، ومن موطنه فلسطين إلى لبنان حيث ترعرع، ومن هناك إلى وطنه الثاني مصر حيث عاش ومثل معظم أفلامه.
في الواقع استوطن الممثل الذي عُرف بأدوار الشر مصر جغرافيا، والتمثيل مهنيا. لم يتبدّل ولم تبدّله الأيام كذلك. حين التقيت به قبل أشهر قليلة وتبادلنا حديثا سريعا، إذ لم يكن بيننا موعد مسبق، وجدته ما زال يحتفظ بقسمات وجهه التي فرضته ممثل شر أول. كبر سنّا، لكنه احتفظ بالنظرات وبالتجاعيد التي عرفها حتى حين كان صغيرا، والتي أكسبته ملامح الرجل الخشن أو، كما يسمّونه في هوليوود، «توفي» (Toughy).
والحقيقة هي أنه كان ذا ملامح مؤسسة لأدوار الشر. والأرجح أنها كانت ستخوّله النجاح بها لو اختار هوليوود عوض القاهرة، بمعنى أنها كانت من تلك الملامح التي لا يمكن إلا أن تؤدي به إلى أدوار الشر أينما حط. هذا على الرغم من أنه، كإنسان وكمعظم ممثلي أدوار الشر، كان على قدر كبير من الكياسة واللطف والأخلاق الحميدة. تقول المصادر إنه فلسطيني الأصل، ولد في يافا 1938/12/8، وهاجر حين كان في العاشرة من عمره إلى لبنان مع النازحين الفلسطينيين هربا من الاحتلال الفلسطيني. مثل سواها من الأسر والعائلات، لجأت عائلته إلى المخيمات التي أقيمت على عجل لاستيعاب النازحين في لبنان، ومنها انتقلت إلى مخيّم البداوي (تقول مصادر الأونروا إنه أنشئ سنة 1955). لا عجب، وهو شهد رحيله وعائلته من وطن إلى مخيّم، التزامه بالقضية الفلسطينية بعدما عايشها بوجدان اللاجئ وآماله في العودة كسواه من الفلسطينيين.
* من لبنان إلى مصر
* لا يوجد ما يؤرخ متى بدأت علاقة غسّان مطر بهواية التمثيل. لكن الثابت أن احترافه التمثيل بدأ وهو في العشرين من عمره. ففي عام 1968 استجاب المخرج الراحل حسام الدين مصطفى لطلب المنتج اللبناني أنور الشيخ ياسين وأنجز فيلما بتمويل لبناني، كما حال العديد من الإنتاجات المشتركة في تلك الفترة، وطاقم عمل معظمه مصري، بعنوان «نساء بلا غد» مع نيللي وحسن يوسف وسميرة أحمد. غسّان مطر كان له دور فيه كضابط، وكان هذا هو دوره السينمائي الثاني.
بقي في بيروت بعدها لينجز بطولة «كلنا فدائيون» من تحقيق غاري غرابتيان وإنتاج إدمون نحاس. لجانب أن الستينات كانت فترة إنتاجات لبنانية - مصرية مشتركة (ولبنانية - سورية من ناحية ثانية)، فإنها كانت أيضا منطلق أفلام روائية وتسجيلية أرادت التعبير عن القضية الفلسطينية ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، معظمها كان تنفيسا لوضع بدا مكبّلا بالإحباطات والانتصارات التي تداولتها معظم الأفلام الروائية آنذاك. وجاءت هذه الأعمال ردّا على الهزائم (وأكبرها بالطبع هزيمة حرب 1967)، كما داعبت عواطف الجمهور الواسع الذي كان لا يزال يؤمن، رغم الهزيمة، بأن تحرير فلسطين ممكن وقادم.
لعب غسّان مطر فيلمه الثالث من هذا المنطلق. عنوانه «الفلسطيني الثائر»، وأدّى فيه دور الشاب العابث وغير الملتزم الذي يفيق على أن له دورا في النضال فيحمل السلاح لينضم إلى الفدائيين في فلسطين المحتلة. هذا الفيلم من إخراج رضا ميسر الذي كان سريع الاستجابة في تاريخ أعماله إلى أي مشروع لا يتطلّب حك الرأس وابتكار قيمة فنية للعمل.
فيلم غسان مطر الرابع كان «الضياع» (1971)، من إخراج محمد سلمان وإنتاجه عن سيناريو لفارس يواكيم. دور مطر كان رئيسيا وقد جمعه مع ثلاث ممثلات مصريات هن نادية الجندي وناهد شريف وسميرة أحمد، ومعهن الممثلة اللبنانية سعاد كريم، التي قدر لها أن توفيت قبل نحو أسبوع واحد. هذا الفيلم كان آخر مرحلته اللبنانية.
بعده نجده باشر من القاهرة ذاتها مرحلة أخرى، بدأت بفيلم محمد راضي «الأبرياء» أمام ميرفت أمين وعمادي حمدي ونور الشريف وعزت العلايلي، ثم في «المتعة والعذاب» إخراج نيازي مصطفى وبطولة شمس البارودي ونور الشريف. وتتابعت الأفلام من حينها. وظهر في 14 فيلما مصريا ما بين 1971 و1975. في معظمها لعب دور شرير في أعمال ميلودرامية وعاطفية وتشويقية، منها «شياطين البحر» و«المتعة والعذاب» و«الغضب»، لكنه سجّل حضورا ذكيا في الفيلم التاريخي «الشيماء»، بطولة سميرة أحمد، حيث لعب دور شقيقها عبد الله، وكلاهما ممن أشهر إسلامه باكرا، عن قصة لعلي أحمد باكثير.
الفيلم من إخراج حسام الدين مصطفى الذي كنّ له غسان مطر الكثير من الإعجاب، كونه أول من عمل تحت إدارته أولا، ومن طلبه للعمل معه في تلك المرحلة المبكرة مؤسسا إياه في صلب السينما المصرية. أعمالهما معا تشمل، لجانب «الشيماء»، «شياطين البحر» و«نساء ضائعات». كذلك اعتمد عليه في أدوار الشر نيازي مصطفى (لا قرابة بين المخرجين)، فشوهد في «المتعة والعذاب» و«الشيطان امرأة» من بين أفلام أخرى لاحقة.
* موقع مكتسب
* صوت غسان مطر العميق والهادر وطول قامته ورشاقتها، وملامح وجهه الجادة ونظراته القوية، ثم قدرته على أداء اللهجة المصرية جيدا، كلها أسهمت في نجاحه عبر خمسة عقود. وليس من الإنصاف القول إنه مثّل أدوار الشر وحدها، بل لعب شخصيات أخرى متعددة في أفلام ومسلسلات دينية ودرامية خصوصا في مرحلة ما بعد التسعينات.
كان حضوره مسجّلا بدنيا وكنبرة صوت عالية. في جلسات جمعتنا كان دمث الأخلاق وضاحكا، رغم أن المرء لم يكن عليه أن يكون قارئ وجوه محترف لكي يدرك أنه في داخله ذلك التوق لما هو أعلى. طموح إلى ما هو أفضل. كذلك فإن القضية التي كانت تعانق داخله لا شك أثّرت في وجدانه وإن لم يجد ما يكفي من الأفلام الوطنية التي يستطيع عبرها التعبير عن حبه لتراب وطنه.
وهو لم ينجح في القاهرة إلا بعدما برهن للجميع أنه مختلف في تقاسيم وجهه وفي الطريقة التي يؤدي بها أدواره عن الجميع، وبعدما تبيّن للمجتمع السينمائي أنه محترف وجاد.
لم يخطف الأدوار الشريرة ذاتها التي لعبها فريد شوقي ومحمود المليجي أو توفيق الدقن، لكن مثلهم جميعا عرف كيف يتميّز بخط خاص وبديل. كسب موقعه سريعا في الصف التالي لهؤلاء. لا ننسى أن شوقي والمليجي وتوفيق الدقن كان ثلاثيا كثير الظهور في أفلام مشتركة بينهم، بينما كان غسان مطر مطروحا في أفلام غالبا ما غاب عنها أي من هؤلاء، خصوصا أنه ورد في فترة متأخرة بالنسبة إليهم، فهم بدأوا التمثيل من الخمسينات أو ما قبلها.
في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حضر عرض فيلم بعنوان «حائط البطولات»، كان محمد راضي صوّره في عام 1998 لكنه مُنع من عرضه حتى السنة الماضية. للأسف لم يكن الفيلم الذي كان يجب نبشه من قبره. ولا دور غسان مطر فيه (لاعبا شخصية كاريكاتيرية لموشي ديان) من تلك الأدوار التي تُذكر له باهتمام أو إعجاب. لكن الممثل عادة ما يجد نفسه في مواقف عليه فيها قبول الأدوار التي تعرض عليه حتى لا يبقى في بيته. كذلك هو من أولئك الذي اعتبر أن أي فيلم وطني الدوافع يستحق تأييده وإسهامه.