في قلب أول إصدار غنائي له الذي حمل عنوان: «عندما يتصاعد الدخان» وتميز بقدر مخيف من القوة والتأثير العاطفي، جاء أداء قطعة غنائية بعنوان: «عربة نقل الموتى (ذي هيرس)» مذهلاً، وهي أفكار وتأملات يسردها المغني على امتداد دقيقتين حول فكرة الانتقام بعد مقتل صديق له.
وجاءت كلمات هذا الجزء المميز على النحو التالي: «كنت أتحدث عن السلام/ لم أكن أرغب في المخاطرة بكل شيء/ أوه، وأدرك جيداً ما هو على المحك». ويستمر الغناء بصوت يبدو واضحاً أنه يحاول الحفاظ على رباطة جأشه في مواجهة صدمة كبيرة. ومع ذلك، تتخذ الحالة المزاجية للمغني وللأغنية منعطفاً كئيباً وغير متوقع على النحو التالي: «لكنك جعلت من نفسك شخصاً مميزاً/ أريد أن ألقي بحياتي كلها بعيداً/ من أجلك». وتنتمي الأغنية إلى نمط الأغاني الشعبية يرافقها صوت غيتار مميز وإيقاع جسدي يكاد يكون في حالة غير واعية.
يشدو مصطفى (24 عاماً) بهذه الكلمات بصوت مفعم بالتنهدات كما لو كان يغني لحبيب، وليس لعدو يقف في الجهة المقابلة. ومع ذلك؛ نجد أنها في صورتها النهائية تبدو بطريقة ما أقرب إلى أغنية حب، بجانب أنها مرثية في الوقت ذاته، ولائحة اتهام للنفس وللدولة. كما أنها لا تخلو من وعود مريرة.
عندما بدأ مصطفى كتابة كلمات أغاني قبل سنوات قليلة، لم يسيطر على ذهنه سوى ثقل تجاربه. وفي مقابلة معه هذا الشهر من داخل مسكن مزخرف يتبع «إيربنب» على الجانب الشرقي من لوس أنجليس، قال: «لم أتمكن من الكتابة عن أي شيء آخر. كان ذلك كل ما أتعامل معه واجتاحني تماماً».
وعلى بعد أكثر عن 2.000 ميل من المكان الذي نشأ فيه في «ريجنت بارك»؛ أقدم مشروع سكني في كندا وواحد من أكثر أحياء تورونتو قسوة، بدا مصطفى مسترخياً بينما كان يرتدي بزة رياضية سوداء وكوفية، وتحدث بنبرة سيطر عليها شعور بالسلام الهادئ الذي لا يخلو من حزن بعد سنوات عاصفة.
أما ألبوم «عندما يتصاعد الدخان (وين سموك رايزيز)»، فهو مجموعة من الأغاني الشعبية تدور حول الحياة والموت في مسقط رأس مصطفى. ويشير العنوان ضمناً إلى مطرب الراب سموك دوغ، صديق مصطفى المقرب الذي قتل عام 2018. ويبدو الألبوم في مجمله جوهرة جميلة مفعمة بمشاعر متضاربة من الأمل واليأس، ويبدو أحياناً أقرب إلى صلاة مهيبة من أجل حياة لم يكتب لها تحقيق كامل إمكاناتها، ومحاولة دؤوباً لسرد قصص عن الراحلين بأسلوب لا يخلو من جمال وعناية.
كان مصطفى ـ ولد باسم مصطفى أحمد ـ في حالة تصارع مع ثقل الظلم الذي كابده وذلك منذ أن شجعته شقيقته الكبرى على صياغة أفكاره في صورة قصائد وذلك في منصف العقد الأول من القرن الحالي. كانت أسرة مصطفى قد هاجرت من السودان إلى كندا في نحو عام 1995. وفي سن الـ12؛ حظي مصطفى باهتمام وسائل الإعلام بفضل الأشعار التي كتبها حول التحديات التي تواجه المجتمع الذي ينتمي إليه. وعام 2016، صدر قرار بتعيينه في مجلس الشباب المعاون لرئيس الوزراء.
ورغم ذلك، فإن أياً من ذلك لم يفلح في إحداث تغيير في دورة الدمار الدائرة داخل «ريجنت بارك»، وإن كان مصطفى قد أصبح خبيراً في أخلاقيات المجتمع ومرشداً له، وأصبح يقدم المشورة للعائلات بخصوص كيفية التعامل مع فقدانهم أحباءهم، ومدافعاً قوياً عن المجتمع المسلم داخل كندا. بجانب هذه الأدوار، يضطلع مصطفى بدور الوصي أو الراعي، وذلك تجاه شقيقه الأصغر ياسر ومغني راب صغير في تورونتو يدعى ليل بيريت، واللذين يقيمان معه.
وأثناء المقابلة التي أجريناها معه، اتصلت والدة بيريت به عبر تطبيق «فيس تايم»، وأكد لها مصطفى أن ابنها مواظب على الصلاة يومياً ويرتاد المسجد ولا يدخن التبغ.
وشرح مصطفى أنه «لا يهم كم أنت معاد للمؤسسة أو الإمبريالية؛ المؤكد أنني لن أعاين التغيير المنشود خلال فترة حياتي. وعليه؛ فإن كل ما يمكنني فعله يجري داخلي. واليوم، أحاول إبقاء الناس على قيد الحياة، وأحاول التأكد من أنهم يتمتعون بالحماية الكافية».
وفي الوقت الذي وجد فيه كثير من أقرانه أنفسهم في موسيقى «هيب هوب»، انجذب مصطفى إلى الموسيقى الشعبية والمغنين وكتاب الأغاني الشعبيين، أمثال نيك دريك وريتشي هافنز وجوني ميتشل وليونارد كوهين. وقال مصطفى ضاحكاً: «أتذكر عندما كنت أصغر سناً؛ كان هناك أناس غاضبون ويقولون: (هذا الفتى دوماً عاطفي). لكن الحقيقة أنني كنت أستكشف لغة عاطفية فحسب».
في نهاية المطاف؛ عام 2019 سافر مصطفى إلى لندن للعمل مع المنتج سيمون هيسمان. وفي وقت لاحق، انضم إليهما صديق مصطفى، فرنك ديوكس، الذي سبق له الإنتاج لحساب «بوست مالوني» و«ريهانا» و«ذي ويك إند». كان ديوكس يستكشف مختارات شعبية سودانية ومصرية، والتي انتهى الحال ببعض العينات منها في «عندما يصعد الدخان»؛ الأمر الذي عمل بمثابة جسر يربط بين الماضي وقصص مصطفى المعاصرة. وحرص مصطفى كذلك على أن يتضمن الألبوم مقاطع صوتية لأصدقائه الذين قتلوا وأمه، وذلك في محاولة منه لنقشهم على جدار التاريخ.
يذكر في هذا الصدد أن النسخ الأولى التي وضعها مصطفى لهذه الأغاني تتجه نحو اللون الشعبي الخالص من الغناء. وخلال مقابلة معه داخل مطعم إيطالي في لوس فيليز في المساء التالي، قال ديوكس: «أعتقد أننا عانينا مع الهيكل الإيقاعي للموسيقى لأنه يعتمد على الغيتار».
وساعد الاعتماد على عينات موسيقية من شمال أفريقيا على بناء خلفية غير مزعجة أسهمت في تعميق السرد الذي اضطلع به مصطفى. وعلق ديوكس على هذا بقوله: «أحياناً يستغرق الأمر بعض الوقت للوصول إلى هذه البساطة».
يذكر أن كلاً من جيمس بليك وجيمي إكس إكس ساهما أيضاً في الإنتاج.
كان المزاج السائد في العشاء لطيفاً، لكنه لم يخل من بعض الغيوم التي لاحت من بعيد. كان مصطفى قد قضى وقتاً سابقاً من اليوم في مواجهة متقطعة مع مسؤول تنفيذي لدى شركة «وارنر ريكوردز» عبر موقع «إنستغرام».
ووصف مصطفى المواجهة بأنها «عينة مصغرة لما يحدث عندما تكون داعماً للأرواح الفلسطينية على نحو كامل»، وذلك في إشارة لأعمال العنف التي اشتعلت في الفترة الأخيرة داخل قطاع غزة.
وعلق على الأمر قائلاً: «أحاول استغلال الموسيقى فحسب في فعل الشيء الذي لطالما فعلته»، مشدداً على التداخل الكامل بين حياتيه الشخصية والإبداعية. وكان مصطفى قد عاد لتوه إلى الطاولة التي نجلس إليها بعدما ابتعد لبعض الوقت بحثاً عن مكان هادئ يمكنه الصلاة فيه. وقال مصطفى: «يقول كثير من الناس: (إنه انتقال سلس، فهو يقول بالضبط ما كان يقوله دوماً، ويقف بجانب الأشخاص الذين لطالما وقف إلى جوارهم، وكل ما يفعله هو تمديد هذه الكلمات داخل اللحن».
إلا إن كونك شاعراً يعبر عن فترة زمنية مروعة، وضميراً مبدعاً لمجتمع يعاني الألم، لا يأتي دونما ضريبة.
في وقت لاحق من الليلة، قال مصطفى أثناء استعداده لركوب السيارة للتوجه لمقابلة عدد من أصدقائه الفلسطينيين: «لا أريد كتابة هذه الأغاني، فأنا لا أحب هذه الأغاني. أنا مستاء منها وكل ما يتعلق بها والصورة التي أصبحت عليها. وأكره أنني مضطر لصناعتها».
ومن حديث مصطفى، يتضح أن الموسيقى له مصدر خطر وتوتر، وليست ملاذاً آمناً. وعن ذلك؛ قال: «فقط لأنها مسؤوليتي، لا يعني ذلك أنها تخدمني».
في الوقت الحالي، لا يبدو أن مصطفى واثق بأنه سيشدو بهذه الأغاني في حفل. الآن، يشعر مصطفى بالارتياح لأنه قدم هذه الأغاني للعالم، ويشعر أنه أخيراً أصبح باستطاعته المضي قدماً.
وأضاف: «أتمنى أن يأتي أطفال صغار يوماً ما ويقولون: (أوه؛ هكذا يكون الحزن). فأنا لم أعمد إلى إخفائه؛ وإنما لدفنه».
* خدمة «نيويورك تايمز»
مصطفى... بطل شعبي لجيل متعب
مصطفى... بطل شعبي لجيل متعب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة