سينما مختلفة في «مينا» الهولندي

«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
TT

سينما مختلفة في «مينا» الهولندي

«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة

هناك عدد متزايد من الأفلام الروائية وغير الروائية التي تدور حول أفراد عزلوا أنفسهم بعيداً عن البيئات الحضرية والمدنية ليحيوا منفردين في بقاع غير مأهولة. اثنان من هذه الأفلام، على الأقل، تضمنهما مهرجان «مينا» (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) الذي انتهت أعماله أمس الأحد.
المهرجان وليد حديث بين المهرجانات العربية والأوروبية، وهذه هي دورته الرابعة التي أقيمت افتراضياً تبعاً للوضع الحالي لوباء «كورونا». لكن بثها الافتراضي على جمهور مهتم بأحوال المجتمعات في الدول المشاركة لم يمنع إيصال هويته التي يقول عنها مدير المهرجان محمد الأمين، إنها تختلف عن الدورات السابقة. يفسر: «ارتأينا في دورة العام الحالي الانفتاح على سينمات تواجه تحديات متقاربة مع سينمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أفلام حول مجتمعات تواجه إشكاليات وتحديات عديدة بدءاً من انعدام العدالة الاجتماعية والفقر والتابو السياسي والصراع من أجل كسب الحق في التعبير مروراً بجميع الصعاب التي تواجه الفرد في مجتمعات متذبذبة بين التقليد والحداثة».
رافق كل ذلك رفع عدد الجوائز من 4 إلى 10 في مسابقتين منفصلتين. واختير رئيس شرفي للدورة متمثل بالشاعر العراقي صلاح نيازي‬، أما لجنة التحكيم فتكونت من 6 شخصيات سينمائية وثقافية، تألفت من المخرج الجزائري - الهولندي كريم طريدية، والمنتجة الإيرانية إلاهه نوباخت، والكاتب المغربي حمادي غويرم، والكاتبة الروائية الجزائرية حنان بوخلالا، والسيناريست والمخرج المغربي محمد اليونسي، والسينمائية الهولندية فريدة كونينغ.
يُضيف الأمين: «أتتني فكرة المهرجان من عملي في مجال الصحافة الفنية في هولندا ومواكبة تظاهرات سينمائية عديدة في القارة الأوروبية. من جهة أخرى، أتابع التغطيات الصحافية والإعلامية لأحداث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي تغطيات غير مطابقة للواقع أو منحصرة في إطار الأحداث الساخنة. من هنا تبلورت فكرة مهرجان يسعى إلى خلق صورة واقعية صحيحة وربما تعطي صورة مختلفة عن التغطية الإعلامية الحالية للثقافة والمجتمع والوضع السياسي».
في الأهداف أيضاً تعريف الهولنديين بما توفره الأفلام المختلفة التي يعرضها المهرجان. يقول: «هي خدمة متبادلة، من ناحية يتعرف الهولنديون على خلفيات الحياة التي توفرها هذه الأفلام، ومن ناحية أخرى يتيح المهرجان فرصة حضور إبداعات المخرجين خارج بلادهم».

أفلام الفنون
تلتصق الأفلام الطويلة والقصيرة التي عرضها المهرجان ما بين 20 و22 من الشهر الحالي بالغايات المعلن عنها على نحو جلي مع ضمان اختلاف الرؤى التعبيرية التي يختارها المخرجون لأعمالهم.
ويتمثل ذلك على أفضل وجه بفيلم الافتتاح «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة. فيلم خارج التصنيف ومشغول بدراية كبيرة للكيفية التي يريد فيها المخرج (جزائري مُقيم في فرنسا) الخروج من كل شكل معتاد ليغرف من زاد التجربة الفنية الخاصة. دقائق قليلة جداً من الفيلم كافية لأن تؤكد للمشاهد أنه ليس حيال عمل عادي لا في تركيبه ولا في موضوعه ولا في عناصر فنه. يغرف بن عمرة من موهبة لا محدودة منتقلاً ما بين الحاضر والماضي، والفردي والعام، والوجدانيات التي ينضح بها حديث الممثل محمد أدار عن نفسه وأعماله لجانب رصد الأفكار التي يستعيرها الفيلم من مواد سابقة صورها لشخصيات ثقافية وسينمائية مهمـة التقى بها في باريس أيام المناداة بسينما عربية بديلة في السبعينات.
يؤم المخرج أنواع وعناصر عمل كثيرة ويتعامل الفيلم مع مضامين عدة. إنه فيلم ذكريات وذاكرة وفيلم عن التمثيل والفن والسينما والمسرح مع أفكار وجودية تشكل المظلة وتستخدم تشكيلاً فنياً مثيراً للإعجاب يشي بالأوقات العصيبة التي لا بد أن المخرج قضاها وهو يرتب ويختار ويُوَلف لقطاته العديدة.
في صنف التجريب كذلك، عرض المهرجان الفيلم الياباني «Gong‪ - ‬ Batu» لمخرج شاب اسمه شوويشي إواموتو. هذا مخرج آت من درب الموسيقى، والموسيقى تعني الصوت وهو مشغول هنا بتسجيل الصوت في حضوره الطبيعي الأول عبر النقر على الحجر. في الواقع يبدأ الفيلم وينتهي بيد رجل ترفع حجراً ثم تتركه يعود إلى وضعه فوق صخرة كبيرة. الصوت الناتج هو ما يبحث عنه الشخص الماثل أمامنا وهو يعاود النقر على أحجار وصخور مختلفة ليسجل منها أصواتاً متعددة.
الفيلم، بالأبيض والأسود، ينتقل من طبيعة آسرة إلى أخرى موحشة. لكن هذا لا يعني المخرج كثيراً في بحثه عن الصوت والإيقاع. بعد قليل من بدء الفيلم تتسلل غرابته إلى ما تحت جلد المُشاهد الموافق على متابعة هذه التجربة حتى النهاية.

ربيع 2011
في مجال الفن كذلك عرض مهرجان «مينا» الفيلم الإسباني «أراض مبنية» لأرتورو دواناس. هذه المرة يدلف الفيلم إلى عالم الرسم من خلال التحية التي يلقيها على الرسام فيلكس جيراردرادو لوماس. رجل في الربع الأخير من سنوات حياته (وُلد سنة 1930) عاصر الحرب الأهلية صغيراً، وترعرع في حب الفن وانشغل به إلى اليوم. هو رسم كثيراً من سنة 1965، ولو أنه يعترف بأن الكثير مما رسمه توزع في أماكن شتى لا يعرفها.
يعرض رسوماته، واحدة منها تشبه تلك التي وضعها الجيورجي نيقولاي بيروسماني (1863 - 1918). في حديث لوماس عن لوحاته يؤكد أنه استلهم أعماله مما رسمه غيره عبر قرون، لكنه أضاف اللمسة العصرية التي تميز ما قام به. معظم ما يشغل الفيلم هو مقابلة مع الرسام، لكنه يقطع الاسترسال بلقطات للبيئة الطبيعية الجميلة التي يعيش فيها تسكنها موسيقى كلاسيكية تضيف تلاحم الفنون الثلاثة (الرسم والتصوير والموسيقى) مع التشكيلات الجمالية التي يتمتع بها هذا الفيلم.
بدوره يدلف فيلم «وداعاً» لبترا سليزكار (سلوفانيا) في حياة المغني توماش بنغوف الذي نشأ في مدينة ليوبليانا السلوفانية. الفترة التي وضع فيها بنغوف أغانيه (عزفها منفرداً على غيتاره) هي تلك التي بدأ فيها توق المقاطعة للاستقلال السياسي. أغانيه (ما نسمعه منها في هذا الفيلم، على الأقل) لا تدعو للثورة مباشرة، لكنها تفصح بكلماتها المنطوقة والتحتية بذلك التوق صوب الحرية والتغيير.
لكن الفيلم لا يمضي جيداً في ربط شخصية الراحل في أتون الوضع الاجتماعي العام. ويبقى مشغولاً بمشروع بيوغرافي لا يتجاوز المعطيات البدهية ويمضي في درب تقليدي ما يجعل الموضوع يخفق في أن يبدو مهماً.
على إيقاع مختلف ملؤه أصوات الحانقين على وضع قريب العهد، أنجز الإسباني مارك ألمودوفار، فيلماً تسجيلياً عن أحداث 28 يناير (كانون الثاني) سنة 2011، بعنوان «جمعة الغضب». إنه يوم صلاة المؤمنين قبل انطلاقهم للاشتراك في تظاهرات القاهرة ضد الرئيس حسني مبارك. يواكب المخرج وفريقه من المصورين والمساعدين المصريين ذلك اليوم من الظهر لساعات الليل ويلتقط المسيرات والمناوشات وإلقاء قنابل الغازات عليهم ومخاوف سقوط المصابين بأيدي رجال الأمن وكل ما شهدته «جمعة الغضب» من تفاعلات.
لكن الفيلم آت بعد عشر سنوات مضت وعشرات الأعمال المصورة للسينما وللتلفزيون حول تلك الأحداث المصيرية. لا جديد فيه ولا إضافة للمفاهيم التي ثار ضدها أو تلك التي تبناها المتظاهرون. الشيء الوحيد المختلف عن معظم ما شوهد من أفلام تلك الفترة تلك الطاقة الحثيثة التي تسود الفيلم. حيوية تعايش الوضع المسجل في مده وجزره. رغم هذا لا تتجاوز إطلالة المخرج على الوضع ما وفرته الأعمال الأخرى.

سعداء متوحدون
بعيداً عن كل هذه المشاغل، يأخذنا فيلم الروسي أليكساي غولوفغوف «عندما يذوب الثلج» إلى حياة مختلفة ومنفردة. رجل من صقاع ثلجية بعيدة يعيش وحيداً في مزرعته من الغزلان والرنة وكلبين وهو، يقول، سعيد بذلك. يشعر بأنه يمارس الحياة التي وُلد عليها الأجداد، والتي لا يمانع في أن يموت عليها ولربما اقتفى خطاه حفيد له.
يقطع الفيلم لامرأة تعمل في روما تقدم نفسها على أنها رحالة جابت مدناً كثيرة ولم تستقر بعد. نراها في عملها في محل بيع لحومات ومعلبات وفي تنقلاتها في أنحاء المدينة وخارجها.
لا يتساوى حجم الاهتمام بالرجل المنقطع عن العالم بحجم الاهتمام بتلك المرأة لا من حيث الوقت المتاح لكل منهما، ولا من حيث قدرة الأول على اختطاف كل الاهتمام أو غالبه. والمخرج يعرف ذلك ولا يداريه. ثم يكشف في النهاية عن مفاجأة رائعة عندما تجلس المرأة لكي تكتب لأبيها رسالة. الأب ليس سوى ذلك المنغولي البعيد.
في بؤرة المخرج تسجيل الحياة البيضاء، نسبة للثلوج الكثيفة، لذلك الرجل ومتابعة يومياته. يقطع الخشب للتدفئة. يستخرج من الثلج غزلاناً نافقة يُطعم منها كلبيه. يجول في تلك البقاع المقفرة ويصطاد ما يؤمن له مؤونة الأيام المقبلة. كل ذلك على نحو أكثر حرارة من الموقع ذاته ما يمنح الفيلم جوهره.
وعن قطيعة أخرى عن العالم، يمضي الفيلم التركي «حان وقت الرحيل» لسرد حكاية ذلك الرجل العجوز حسن طالاي، الذي يعيش في بيت منفرد فوق رابية تطل على قرية تركية صغيرة. يقدم نفسه قائلاً «عمري 80 سنة تقريباً قضيت نصفها في ألمانيا». ويرى الآن أنه سعيد لا بعودته إلى تركيا فحسب بل في عزلته.
حسن حالة تدعو للدهشة في هذا الفيلم التسجيلي. فرغم عمره المديد يصعد الدرجات بلا سند (بيته كوخ من طابقين ومدخله في الطابق الأعلى)، يمشي في السهوب والجبال بلا كلل. يقطع الخشب بالفأس؛ بل نراه في مشهد أخاذ وهو يصعد جبلاً ليعود منه بجذع شجرة كبير يربطه بحبل ويجره فوق وعورة المكان من ثم يجتاز به النهر قبل أن يستوي في سهل مديد. هنا يحمل الجذع على كتفه ويمضي باتجاه بيته. المشهد الأخير لحسن وهو يمشي بعيداً عن الكاميرا موفراً لمن يعيش في مدينة مكتظة جمال الخلود إلى حيث لا يعيش أحد سواه.
كلا الفيلمين يحتويان على ثراء في المناظر يتأتى بطبيعة الحال بسبب المواقع النائية حيث جرى التصوير.
وكلاهما خرج من المهرجان بجائزة ففي حين فاز «حان وقت الرحيل» بجائزة أفضل إخراج، فاز «عندما يذوب الثلج» بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل.
بالنسبة للأفلام الروائية فاز بجائزتها الأولى فيلم محمد رضا فرطوسي «أنا يوسف يا أمي» الذي كنا تناولناه في عدد السابع من هذا الشهر في «الشرق الأوسط». دراما لها حسناتها وبعض المتاعب حول الرجل المختبئ تحت أرض المنزل الذي تعيش فيه والدته منذ 21 سنة. كلما خرج من مخبئه عكس تعاملاً رقيقاً مع ذكريات من الحياة السابقة التي كانت بمتناوله. يعبث بالذكريات عبر الصور وتعبث الذكريات به. الأم هي الوحيدة التي تعرف بوجوده. فالاعتقاد السائد هو أنه لا يزال هارباً وربما ميتاً. في المرة الأخيرة التي يخرج فيها يوسف من جحره يخرج غاضباً مكرراً أنه عاش كالجرذ لكل تلك السنوات ولم يعد يحتمل. يغادر المنزل ويركض في ليل مدينة ملتهبة لاهثاً، لكن إلى أين؟


مقالات ذات صلة

أمير المصري لـ«الشرق الأوسط»: خضت تدريبات شاقة من أجل «العملاق»

يوميات الشرق الفنان أمير المصري في «مهرجان القاهرة السينمائي» (صفحته على «إنستغرام»)

أمير المصري لـ«الشرق الأوسط»: خضت تدريبات شاقة من أجل «العملاق»

أكد الفنان المصري - البريطاني أمير المصري أنه يترقب عرض فيلمين جديدين له خلال عام 2025، هما الفيلم المصري «صيف 67» والبريطاني «العملاق».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».