مساعٍ حكومية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والصحافي

إصلاحات الإعلام الليبي تواجه «إرث الماضي» و«حسابات الخصوم»

رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
TT

مساعٍ حكومية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والصحافي

رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)

من على منصة التتويج والاحتفال في ليبيا بذكرى «اليوم العالمي لحرية الصحافة»، أتى رئيس حكومة «الوحدة الوطنية» عبد الحميد الدبيبة، على ذكر الصحافي إسماعيل أبو زريبة الزوي المحكوم عليه بالسجن 15 سنة من قبل محكمة عسكرية بشرق البلاد، لينكئ بذلك جرحاً غائراً تعانيه المنظومة الصحافية والإعلامية في ليبيا، منذ عقود خلت. ولم ينفك الإعلام الليبي من أسر نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، إذ ظل يكابد خلال السنوات العشر الماضية القيود والقوانين التي تحد من عمل الصحافي والإعلامي، بل وتجرّمه في أحايين كثيرة وتذهب به إلى غياهب السجون، إن لم يكن من «الموالاة».
وفي حفل كبير أحيته الحكومة الليبية بإشراف مكتب وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي، دُعيت إليه شخصيات صحافية وإعلامية وأكاديمية من أقطار عربية عدة؛ أعلن الدبيبة، للمرة الأولى عن حزمة من الإصلاحات المتعلقة بمنظومة الإعلام في ليبيا، بالإضافة إلى تخصيص جائزة سنوية تمنح لأفضل عمل صحافي ليبي.

الدبيبة، الذي لم يكمل شهره الثاني في الحكم، أصدر 7 توجيهات يمكن قراءتها على نحو يمهد الطريق لفك قيود العمل الإعلامي والصحافي، في مواجهة ترسانة من القوانين المعوّقة التي لم تنفك أيضاً عن تخوفات الأجهزة الأمنية وتربصهم بالعاملين في هذه المهنة، لكن هذه «المنظومة المحلية» تظل تعاني أمام ضربات الإعلام الموجه من الخارج، وهو الأمر الذي وصفه بعض الاختصاصيين لـ«الشرق الأوسط» بأنه يفرض على الحكومة تحديات كبيرة، يدفعها لضرورة مساندة الإعلام المحلي، لكيفية مجابهة إعلام «خصوم السلطة»!
وفي أغسطس (آب) الماضي، وقّع أكثر من 100 صحافي وناشط مدني ليبيا على بيان يدين الحكم الصادر على المصوّر الصحافي إسماعيل الزوي بالسجن 15 سنة من قبل محكمة عسكرية بمدينة بنغازي، وقالوا إن الجهة التي أصدرت الحكم «تتعارض مع المعايير الدولية، ما يجعل إجراءات الحبس والمحاكمة باطلة، لمخالفة الإجراءات القانونية المتعارف عليها»؛ وإنه لا يجوز وفق القانون الليبي محاكمة شخص مدني أمام محكمة عسكرية؛ وهو المعنى الذي أكد عليه الدبيبة خلال إلقاء كلمته في احتفالية «اليوم العالمي لحرية الصحافة».
الإجراءات التي اتخذها الدبيبة، وصفت بأنها بمثابة إعادة لصياغة علاقة الدولة بالمشتغلين في الميديا، وجاءت لتؤكد «الحق في التعبير وانتقاد أداء الحكومة باعتباره حقاً أصيلاً لكل الليبيين، وفقاً للإعلان الدستوري والمواثيق الدولية وتنظمه القوانين المعمول بها ذات العلاقة»، بالإضافة إلى «منع استهداف الصحافيين أو اعتقالهم أو استخدام العنف ضدهم، والالتزام بحمايتهم من المخاطر أثناء تأدية عملهم».
ولقد دعا الدبيبة إلى «العمل على إعادة هيكلة مؤسسات الإعلام والصحافة في ليبيا بما يضمن توسيع دائرة المشاركة في الإدارة ورسم السياسات العامة، من خلال استحداث مجلس للأمناء بالمؤسسات الإعلامية لضمان تمثيل أوسع للنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني»؛ كما وجه بـ«منع اعتقال الصحافيين أو احتجازهم في أي مقر أمني»، معتبرة هذه الأفعال «احتجازاً قسرياً يتعرض مرتكبوها للمساءلة والملاحقة القانونية طالما تجاوز القانون».
ولمنع استهداف العاملين في المجال الإعلامي عقاباً على آرائهم، شدد رئيس الحكومة على منع «أي تضييق على الصحافيين بناء على آرائهم أو بسبب انتمائهم لمهنتهم أو لممارستهم العمل الإعلامي»، فضلاً عن «منع اعتقال أي صحافي أو استخدام العنف معه أثناء تأدية مهامه الصحافية أو التضييق عليه، والتعامل وفق الإطار القانوني المنظم لذلك».
وفضلت إدارة الجائزة منحها هذا العام في دورتها الأولى لمجال الصحافة الرياضية، ونالها الليبي فيصل فخري، الذي كرّمه الدبيبة بـ«جائزة الدولة التقديرية»، كما كرّم عائلة «شهيد الصحافة» محمد سليم دعدوش بـ«وسام الواجب».
وبالنظر إلى توجيهات الدبيبة، رأى الكاتب الصحافي رئيس «هيئة دعم وتشجيع الصحافة» في ليبيا عبد الرزاق الداهش، أن تعهد الحكومة بضمان حرية الرأي «مهم جداً»، ولكن «تظل قدرتها على الوفاء بذلك أهم، في هذا الظرف الليبي». وتابع أن حكومة «(الوحدة الوطنية) لم ترث وضعاً مثالياً، ولهذا لا يمكن إلزامها بما هو مثالي... هناك مشكلات تفاقمت بشكل تراكمي عبر سنوات، ولا يمكن حلها بمجرد اتخاذ قرار من الحكومة».
وذهب الداهش إلى أن التشريعات القائمة «ما زالت متخلفة... ولا توجد نصوص قانونية تضمن حماية حرية التعبير، فضلاً عن عدم وجود ما يتيح الحق للمواطن أو حتى الصحافي الوصول إلى المعلومة، أو ما يؤمن حرية انسياب وتدفق المعلومات»، بل إن المعضلة كما يراها الداهش، أنه «لا توجد حتى مشاريع قوانين تضمن حرية الرأي، فضلاً عن وجود جهاز تشريعي يميل إلى التضييق».
غير أن الضربات التي تم تسديدها إلى منظمة الإعلام في ليبيا، لم تتوقف عند حقبة معينة. إذ أظهرت دراسة للمركز الليبي لحرية الصحافة، مدى تأثير غياب التنظيم وإهمال الحكومات المتعاقبة لملف قطاع الصحافة والإعلام، بالإضافة إلى غياب الاستراتيجية الوطنية والتشريعات الإعلامية المنظمة، وقلة الجدية في التعامل مع الملاحظات التي يريدها ديوان المحاسبة والهيئة العامة للرقابة الإدارية؛ وتحدثت عما سمته «حالة التخبط والإهمال وتنامي الفساد في وسائل الإعلام العامة المهترئة».
ورصدت الدراسة الميدانية الجوانب المتعددة للأوضاع المالية والإدارية والتقنية والتنظيمية والموارد البشرية والأصول والممتلكات للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة بهدف تحديد أوجه الضعف الذي تعانيه والتحديات التي تواجهها للخروج بتصور علمي يقوم على أساس تطوير المشهد الإعلامي الليبي.
أيضاً كشفت الدراسة عن الإمكانات «الضخمة المهدورة التي تقدر بملايين الدينارات، وحالة التكدس الوظيفي للموارد البشرية والتعيينات العشوائية بقطاع الصحافة والإعلام العام»، فضلاً عن «غياب أي رؤية استراتيجية للتنظيم ورفع الكفاءة البشرية وفاعلية وتأثير هذه المؤسسات العامة التي تعاني من الترهل والخلخلة في بنيتها الإدارية».
وذكّر المركز في دراسته «بمدى الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات عاجلة بالوسائل الإعلامية العمومية الممولة من الخزانة العامة»، مشيراً إلى أن «عديد الموظفين وكبار المسؤولين في وسائل إعلامية ليبيا لم يتجاوبوا مع باحثيه ورفضوا تقديم أي معلومات تتعلق بالمؤسسات التي يديرونها، ومن بينهم هيئة دعم وتشجيع الصحافة بطرابلس، وراديو ليبيا، والقناة الرسمية، ومركز تطوير الإعلام الجديد».
وقضى 22 صحافياً ليبياً على الأقل منذ «ثورة 17 فبراير (شباط)» عام 2011، لكن أعداداً أكثر من ذلك تعرضت للخطف والاحتجاز مدداً طويلة، فضلاً عن تعرض كثير من العاملين في المجال الصحافي والإعلامي إلى إصابات خطيرة وصلت إلى البتر خلال تأدية عملهم في محاور الاقتتال بالعاصمة. وهنا يلفت الداهش النظر إلى تأثير الانقسام السياسي الذي ساد البلاد منذ عام 2014، قائلاً: «لا يمكن تجاهل ما حدث من انقسامات، ونزاعات مسلحة، ترتب عليها حالة من التشظي المجتمعي، وغياب الثقة، وهذه كلها تحتاج إلى عمل كبير ليس من الحكومة وحدها، بل من كل الأطراف والمؤسسات الليبية».
كذلك تحدث الداهش عن «أضرار غياب الجسم النقابي الفاعل الذي يحتكم إلى قانون خاص»، وقال: «أستطيع أن أكون متفائلاً، ولكن لا يحق لي أن أكون مفرطاً في التفاؤل». وانتهى إلى أن بوسع الحكومة فعل الكثير لصالح حرية التعبير، من خلال «تحسين الحالة الأمنية، وإيجاد تدابير تضمن حرية انسياب المعلومات، ونشر الشفافية بين مؤسساتها، من خلال منح الاستقلالية لوسائل الإعلام الممولة من ميزانية الدولة، وتوفير الدعم للنهوض بالإعلام العمومي، وتشجيع المبادرات الخاصة، في سياق حق الناس في الوصول إلى الحقيقة».
وعلى خطى المسار السياسي الذي أنهى الانقسام بين شرق وغرب ليبيا، اتخذ رئيس المؤسسة الليبية للإعلام، محمد بعيو، قراراً بتوحيد ودمج وكالة الأنباء الليبية في كل من المنطقتين الشرقية والغربية في كيان واحد على مستوى الدولة الليبية، كما كانت عليه قبل الانقسام السياسي. وفي مواجهة ما يُوصف بـ«إعلام الخصوم»، طالب بعيو بدعم «الإعلام الوطني». وللحد من «موجات الكراهية» التي سادت أحايين كثيرة وسائل الإعلام الليبي، شكّل بعيو لجنة لصياغة «مدوّنة أخلاقيات الإعلام الليبي»، تضم 11 شخصية إعلامية معروفة، وتتولى مهمة دراسة وإعداد وصياغة مشروع المدونة، على أن تتضمن الأسس والأصول والضوابط والالتزامات الواجبة في سلوكيات وأخلاقيات «الإعلام الوطني»، بما يسهم في تجسيد القيم السامية العليا، المحددة والموصوفة دينياً وإنسانياً ومجتمعياً ومهنياً. وتحدد منتصف مايو (أيار) الجاري موعداً لعرض مشروع المدوّنة على الإعلاميين والمختصين والمهتمين، في ندوة موسعة تمهيداً لرفعها في صيغتها النهائية إلى جهات الاختصاص لاعتمادها وإصدارها.


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام