مساعٍ حكومية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والصحافي

إصلاحات الإعلام الليبي تواجه «إرث الماضي» و«حسابات الخصوم»

رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
TT

مساعٍ حكومية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والصحافي

رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)

من على منصة التتويج والاحتفال في ليبيا بذكرى «اليوم العالمي لحرية الصحافة»، أتى رئيس حكومة «الوحدة الوطنية» عبد الحميد الدبيبة، على ذكر الصحافي إسماعيل أبو زريبة الزوي المحكوم عليه بالسجن 15 سنة من قبل محكمة عسكرية بشرق البلاد، لينكئ بذلك جرحاً غائراً تعانيه المنظومة الصحافية والإعلامية في ليبيا، منذ عقود خلت. ولم ينفك الإعلام الليبي من أسر نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، إذ ظل يكابد خلال السنوات العشر الماضية القيود والقوانين التي تحد من عمل الصحافي والإعلامي، بل وتجرّمه في أحايين كثيرة وتذهب به إلى غياهب السجون، إن لم يكن من «الموالاة».
وفي حفل كبير أحيته الحكومة الليبية بإشراف مكتب وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي، دُعيت إليه شخصيات صحافية وإعلامية وأكاديمية من أقطار عربية عدة؛ أعلن الدبيبة، للمرة الأولى عن حزمة من الإصلاحات المتعلقة بمنظومة الإعلام في ليبيا، بالإضافة إلى تخصيص جائزة سنوية تمنح لأفضل عمل صحافي ليبي.

الدبيبة، الذي لم يكمل شهره الثاني في الحكم، أصدر 7 توجيهات يمكن قراءتها على نحو يمهد الطريق لفك قيود العمل الإعلامي والصحافي، في مواجهة ترسانة من القوانين المعوّقة التي لم تنفك أيضاً عن تخوفات الأجهزة الأمنية وتربصهم بالعاملين في هذه المهنة، لكن هذه «المنظومة المحلية» تظل تعاني أمام ضربات الإعلام الموجه من الخارج، وهو الأمر الذي وصفه بعض الاختصاصيين لـ«الشرق الأوسط» بأنه يفرض على الحكومة تحديات كبيرة، يدفعها لضرورة مساندة الإعلام المحلي، لكيفية مجابهة إعلام «خصوم السلطة»!
وفي أغسطس (آب) الماضي، وقّع أكثر من 100 صحافي وناشط مدني ليبيا على بيان يدين الحكم الصادر على المصوّر الصحافي إسماعيل الزوي بالسجن 15 سنة من قبل محكمة عسكرية بمدينة بنغازي، وقالوا إن الجهة التي أصدرت الحكم «تتعارض مع المعايير الدولية، ما يجعل إجراءات الحبس والمحاكمة باطلة، لمخالفة الإجراءات القانونية المتعارف عليها»؛ وإنه لا يجوز وفق القانون الليبي محاكمة شخص مدني أمام محكمة عسكرية؛ وهو المعنى الذي أكد عليه الدبيبة خلال إلقاء كلمته في احتفالية «اليوم العالمي لحرية الصحافة».
الإجراءات التي اتخذها الدبيبة، وصفت بأنها بمثابة إعادة لصياغة علاقة الدولة بالمشتغلين في الميديا، وجاءت لتؤكد «الحق في التعبير وانتقاد أداء الحكومة باعتباره حقاً أصيلاً لكل الليبيين، وفقاً للإعلان الدستوري والمواثيق الدولية وتنظمه القوانين المعمول بها ذات العلاقة»، بالإضافة إلى «منع استهداف الصحافيين أو اعتقالهم أو استخدام العنف ضدهم، والالتزام بحمايتهم من المخاطر أثناء تأدية عملهم».
ولقد دعا الدبيبة إلى «العمل على إعادة هيكلة مؤسسات الإعلام والصحافة في ليبيا بما يضمن توسيع دائرة المشاركة في الإدارة ورسم السياسات العامة، من خلال استحداث مجلس للأمناء بالمؤسسات الإعلامية لضمان تمثيل أوسع للنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني»؛ كما وجه بـ«منع اعتقال الصحافيين أو احتجازهم في أي مقر أمني»، معتبرة هذه الأفعال «احتجازاً قسرياً يتعرض مرتكبوها للمساءلة والملاحقة القانونية طالما تجاوز القانون».
ولمنع استهداف العاملين في المجال الإعلامي عقاباً على آرائهم، شدد رئيس الحكومة على منع «أي تضييق على الصحافيين بناء على آرائهم أو بسبب انتمائهم لمهنتهم أو لممارستهم العمل الإعلامي»، فضلاً عن «منع اعتقال أي صحافي أو استخدام العنف معه أثناء تأدية مهامه الصحافية أو التضييق عليه، والتعامل وفق الإطار القانوني المنظم لذلك».
وفضلت إدارة الجائزة منحها هذا العام في دورتها الأولى لمجال الصحافة الرياضية، ونالها الليبي فيصل فخري، الذي كرّمه الدبيبة بـ«جائزة الدولة التقديرية»، كما كرّم عائلة «شهيد الصحافة» محمد سليم دعدوش بـ«وسام الواجب».
وبالنظر إلى توجيهات الدبيبة، رأى الكاتب الصحافي رئيس «هيئة دعم وتشجيع الصحافة» في ليبيا عبد الرزاق الداهش، أن تعهد الحكومة بضمان حرية الرأي «مهم جداً»، ولكن «تظل قدرتها على الوفاء بذلك أهم، في هذا الظرف الليبي». وتابع أن حكومة «(الوحدة الوطنية) لم ترث وضعاً مثالياً، ولهذا لا يمكن إلزامها بما هو مثالي... هناك مشكلات تفاقمت بشكل تراكمي عبر سنوات، ولا يمكن حلها بمجرد اتخاذ قرار من الحكومة».
وذهب الداهش إلى أن التشريعات القائمة «ما زالت متخلفة... ولا توجد نصوص قانونية تضمن حماية حرية التعبير، فضلاً عن عدم وجود ما يتيح الحق للمواطن أو حتى الصحافي الوصول إلى المعلومة، أو ما يؤمن حرية انسياب وتدفق المعلومات»، بل إن المعضلة كما يراها الداهش، أنه «لا توجد حتى مشاريع قوانين تضمن حرية الرأي، فضلاً عن وجود جهاز تشريعي يميل إلى التضييق».
غير أن الضربات التي تم تسديدها إلى منظمة الإعلام في ليبيا، لم تتوقف عند حقبة معينة. إذ أظهرت دراسة للمركز الليبي لحرية الصحافة، مدى تأثير غياب التنظيم وإهمال الحكومات المتعاقبة لملف قطاع الصحافة والإعلام، بالإضافة إلى غياب الاستراتيجية الوطنية والتشريعات الإعلامية المنظمة، وقلة الجدية في التعامل مع الملاحظات التي يريدها ديوان المحاسبة والهيئة العامة للرقابة الإدارية؛ وتحدثت عما سمته «حالة التخبط والإهمال وتنامي الفساد في وسائل الإعلام العامة المهترئة».
ورصدت الدراسة الميدانية الجوانب المتعددة للأوضاع المالية والإدارية والتقنية والتنظيمية والموارد البشرية والأصول والممتلكات للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة بهدف تحديد أوجه الضعف الذي تعانيه والتحديات التي تواجهها للخروج بتصور علمي يقوم على أساس تطوير المشهد الإعلامي الليبي.
أيضاً كشفت الدراسة عن الإمكانات «الضخمة المهدورة التي تقدر بملايين الدينارات، وحالة التكدس الوظيفي للموارد البشرية والتعيينات العشوائية بقطاع الصحافة والإعلام العام»، فضلاً عن «غياب أي رؤية استراتيجية للتنظيم ورفع الكفاءة البشرية وفاعلية وتأثير هذه المؤسسات العامة التي تعاني من الترهل والخلخلة في بنيتها الإدارية».
وذكّر المركز في دراسته «بمدى الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات عاجلة بالوسائل الإعلامية العمومية الممولة من الخزانة العامة»، مشيراً إلى أن «عديد الموظفين وكبار المسؤولين في وسائل إعلامية ليبيا لم يتجاوبوا مع باحثيه ورفضوا تقديم أي معلومات تتعلق بالمؤسسات التي يديرونها، ومن بينهم هيئة دعم وتشجيع الصحافة بطرابلس، وراديو ليبيا، والقناة الرسمية، ومركز تطوير الإعلام الجديد».
وقضى 22 صحافياً ليبياً على الأقل منذ «ثورة 17 فبراير (شباط)» عام 2011، لكن أعداداً أكثر من ذلك تعرضت للخطف والاحتجاز مدداً طويلة، فضلاً عن تعرض كثير من العاملين في المجال الصحافي والإعلامي إلى إصابات خطيرة وصلت إلى البتر خلال تأدية عملهم في محاور الاقتتال بالعاصمة. وهنا يلفت الداهش النظر إلى تأثير الانقسام السياسي الذي ساد البلاد منذ عام 2014، قائلاً: «لا يمكن تجاهل ما حدث من انقسامات، ونزاعات مسلحة، ترتب عليها حالة من التشظي المجتمعي، وغياب الثقة، وهذه كلها تحتاج إلى عمل كبير ليس من الحكومة وحدها، بل من كل الأطراف والمؤسسات الليبية».
كذلك تحدث الداهش عن «أضرار غياب الجسم النقابي الفاعل الذي يحتكم إلى قانون خاص»، وقال: «أستطيع أن أكون متفائلاً، ولكن لا يحق لي أن أكون مفرطاً في التفاؤل». وانتهى إلى أن بوسع الحكومة فعل الكثير لصالح حرية التعبير، من خلال «تحسين الحالة الأمنية، وإيجاد تدابير تضمن حرية انسياب المعلومات، ونشر الشفافية بين مؤسساتها، من خلال منح الاستقلالية لوسائل الإعلام الممولة من ميزانية الدولة، وتوفير الدعم للنهوض بالإعلام العمومي، وتشجيع المبادرات الخاصة، في سياق حق الناس في الوصول إلى الحقيقة».
وعلى خطى المسار السياسي الذي أنهى الانقسام بين شرق وغرب ليبيا، اتخذ رئيس المؤسسة الليبية للإعلام، محمد بعيو، قراراً بتوحيد ودمج وكالة الأنباء الليبية في كل من المنطقتين الشرقية والغربية في كيان واحد على مستوى الدولة الليبية، كما كانت عليه قبل الانقسام السياسي. وفي مواجهة ما يُوصف بـ«إعلام الخصوم»، طالب بعيو بدعم «الإعلام الوطني». وللحد من «موجات الكراهية» التي سادت أحايين كثيرة وسائل الإعلام الليبي، شكّل بعيو لجنة لصياغة «مدوّنة أخلاقيات الإعلام الليبي»، تضم 11 شخصية إعلامية معروفة، وتتولى مهمة دراسة وإعداد وصياغة مشروع المدونة، على أن تتضمن الأسس والأصول والضوابط والالتزامات الواجبة في سلوكيات وأخلاقيات «الإعلام الوطني»، بما يسهم في تجسيد القيم السامية العليا، المحددة والموصوفة دينياً وإنسانياً ومجتمعياً ومهنياً. وتحدد منتصف مايو (أيار) الجاري موعداً لعرض مشروع المدوّنة على الإعلاميين والمختصين والمهتمين، في ندوة موسعة تمهيداً لرفعها في صيغتها النهائية إلى جهات الاختصاص لاعتمادها وإصدارها.


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».