خلافات حادّة حول ملكية مسجد قرطبة

الكنيسة تعتبره أثرًا دينيًّا.. و300 ألف يعتبرونه ملكًا لحكومة الأندلس

ساحة الأعمدة في المسجد (أ.ف.ب)
ساحة الأعمدة في المسجد (أ.ف.ب)
TT

خلافات حادّة حول ملكية مسجد قرطبة

ساحة الأعمدة في المسجد (أ.ف.ب)
ساحة الأعمدة في المسجد (أ.ف.ب)

يعد مسجد قرطبة من أبرز المعالم الأثرية إثارة للإعجاب، تلك التي تسترجع مرور العرب عبر إسبانيا وأوروبا. وفي الحقيقة، كانت منظمة اليونيسكو تعتبره من مواقع التراث العالمية منذ عام 1984، مما يلقي الضوء على اتحاد الثقافات التي تعبر عن أقواسها ذات الألوان الشهيرة.
الآن، حل الجدال على المدينة وعلى حكومة إقليم الأندلس، فالكنسية الكاثوليكية، التي شيدت الكاتدرائية في منتصف الأثر التاريخي عقب دخول المسيحيين مجددا المدينة في عام 1523، تدّعي لنفسها الآن ملكية الأثر التاريخي وتحاول اجتزاء طابعه متعدد الثقافات.
لدى الناس في قرطبة آراء متباينة حيال ما يتوجب عليهم فعله، ورغم ذلك فإن المشكلة ليست مشكلة آراء فحسب، بل إنها مسألة قانونية كذلك، ويتعين على الحكومة هناك التدخل في الأمر. يبيح قانون الرهن العقاري الإسباني من يقوم بتسجيل الملكيات لأول مرة، ومن خلال سداد قيمة بسيطة تقدر بـ30 يورو فقط، أن يستحوذ على ملكية العقار خلال السنوات الـ10 التالية وليس من حق أحد المطالبة بتعويض عليه.
وقد استحوذت الكنسية الكاثوليكية على المسجد الشهير في عام 2006 باعتبارها مالكة للأثر التاريخي، وإذا لم يتغير القانون فسوف يكون امتلاكها للأثر التاريخي ساري المفعول اعتبارا من العام القادم 2016.
يقول خبراء القانون إن إلغاء الملكية يمكن إجراؤه خلال مهلة السنوات الـ10 المذكورة، قبل أن تكتمل بحلول عام 2016، إثر تغيير في القانون، وإذا كانت السلطة السياسية تريد ذلك فسوف يسهل عليها إيقاف الإجراءات برمتها.
يعمل التجمع الشعبي الذي يقود الاحتجاجات بجمع التوقيعات ضد تغيير الملكية، ولقد تمكنوا بالفعل من جمع 300 ألف توقيع، ومع ذلك فإنهم مُصرّون على تلقي الدعم الحكومي نظرا لأن الكنسية الكاثوليكية قامت فعليا بإلغاء بعض المراجع الخاصة بتاريخ المسلمين من المنشورات السياحية في المدينة. وكان أن تغير في الموقع الإلكتروني الذي صار يعرف باسم «catedralcordoba.es». وهذا الأثر المعماري من الثقافة الإسلامية يعرف عالميا باسم مسجد قرطبة الكبير بدلا من كاتدرائية العذراء.
يشير المتحدث باسم التجمع الشعبي إلى أن «المحاولات المستمرة للاستيلاء القانوني والاقتصادي والرمزي من قبل أسقف العاصمة على المسجد يعتبر من قبيل الانتهاكات الخطيرة للمبادئ المؤسسة لمثل ذلك الاعتراف، ولهذا السبب يطالب التجمع الشعبي بتدخل الحكومة الإسبانية ومنظمة اليونيسكو حتى يمكن الحفاظ على إعلان التراث البشري غير المادي من الخطر».
على الجانب الآخر، تصر حكومة إقليم الأندلس على استعدادهم لبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على سيطرتها على ثاني أكبر مركز للجذب السياحي في المنطقة، فقد أشار مسؤول بوزارة السياحة المحلية إلى أن «المسجد - الكاتدرائية» هو من المعالم الأثرية التي استثمرت فيها الهيئات العامة، ومن بينها تلك الوزارة، أكثر من 10 ملايين يورو خلال الـ20 عاما الماضية، وخصوصا خلال السنوات الـ5 الأخيرة، إذ أنفقت حكومة الأندلس ما يقرب من 1.2 مليون يورو على تكييف الأثر التاريخي لأجل الجولات السياحية الليلية.
علاوة على ذلك، من الغريب أن 10 في المائة فقط من أثر «المسجد - الكاتدرائية» التاريخي مخصص للطقوس الدينية في حين أن الـ90 في المائة الباقية مخصصة للاستخدام السياحي، ومن ثم تعتقد حكومة إقليم الأندلس أنه يتحتم عليها المشاركة في الإدارة، والتخطيط، والترويج والنشر للنسبة الكبيرة من الأثر التاريخي المخصصة للاستخدام السياحي.
لذلك السبب، تريد الحكومة الانضمام إلى مجموعة المديرين من المسجد، وقد أمهلت الكنسية الكاثوليكية مدة 3 شهور لاتخاذ قرارها في هذا الصدد. وإذا لم توافق الكنيسة، تقول الحكومة، «يتعين علينا وقتها اتخاذ الإجراءات القانونية، وسوف يكون على الكنسية مواجهة مسؤولياتها القانونية حيال ذلك».
وتجدر الإشارة إلى أن تشييد مسجد قرطبة بدأ قبل 785 عاما، عقب الفتح الإسلامي لشبه جزيرة أيبيريا، وهو من المباني المذهلة بحق لأنه مشيد على نفس موقع كاتدرائية الشهيد سان فيسنتي القوطية، وإضافة إلى ذلك كانت تلك الكاتدرائية ذاتها تحتل موقع معبد روماني قديم كان مخصصا للإله الإغريقي يانوس.
تبلغ مساحة المسجد 23.400 متر مربع، ويعتبر ثاني أكبر مسطح لمسجد على مستوى العالم، بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، ولا تفصله عن المسجد الأزرق سوى سنوات قليلة في القرن السادس عشر.
إحدى العلامات المميزة للصورة الرئيسية للمسجد هي غابة الأعمدة الرخامية البالغ عددها 1300 عمود، المصنوعة من اليشب والغرانيت التي ترتكز عليها أقواس في شكل حدوة الحصان ويبلغ عددها 356 قوسا من لونين هما: الأبيض والأحمر.
يضم ذلك الأثر التاريخي فصلا لأبرشية قرطبة من الكاتدرائية، وكان يُحظر ممارسة أية طقوس تعبدية جماعية أو أية صلوات كاثوليكية غير منظمة.
يقول المتحدث باسم الهيئة السياحية هناك: «إن مسجد قرطبة مهم بالنسبة إلى كل سكان الأندلس وإلى مدينة قرطبة، ونحن نعلم أنه من أهم مصادر الدخل للكاتدرائية هنا، ومجلس الإدارة تهيمن عليه الكنيسة الكاثوليكية، مع 5 ملايين يورو في السنة المتحصل عليها من استغلال السياحة».
على وجه التحديد، يقوم أكثر من 1.2 مليون سائح بزيارة ثاني أكبر معلم سياحي أندلسي سنويا، بعد قصر الحمراء، ويدفع كل سائح 8 يوروات لزيارة القاعات الضخمة لأحد سيناريوهات الأحلام الأندلسية القديمة، كما يدفعون 37 يورو إذا ما أراد الزائر مرشدا سياحيا برفقته.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)