حقائق مثيرة وغريبة حول جائزة الأوسكار

الليلة عيد السينما الكبير

الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)
الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)
TT

حقائق مثيرة وغريبة حول جائزة الأوسكار

الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)
الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)

حتى الآن، تداول الإعلام، هنا كما حول العالم، كل ما يمكن تداوله حول أوسكار عام 2015 الذي سيوزع الليلة (الأحد) في لوس أنجليس. فهل يمكن أن يكون هناك ما لم يتحدث أحد فيه حول هذه الجائزة العملاقة بين الجوائز؟
ماذا لو طرح المتابع مثلا ما إذا كان الأوسكار ذا قيمة فعلية نابع من تأثير حقيقي على حال السينما وشؤونها؟ هل يمد الفائز فعلا بمكانة لم يكن قد اكتسبها، إذا لم يفز من قبل، أو تضيف على مكانته فيما لو سبق له وأن فاز بها؟
هل الفيلم الذي يخرج بالأوسكار هو الأفضل فعلا؟ وما هي دلالات ذلك؟ ثم هل يساعده ذلك في جمع ملايين أخرى من السوق؟
ثم نحن العرب ما علاقتنا بالأوسكار؟ ولماذا كل هذا الاهتمام، وأحيانا التهييج المستمر بما ستؤول إليه النتائج من بعد اهتمام مماثل بالترشيحات وتحليلها ومحاولة كل منا رسم صورته الخاصة حولها؟ وبالتالي، هل الاهتمام بالأوسكار ترف لا نستحقه أم انشغال عن الكتابات الأكثر فنية والأوسع فائدة ثقافية؟
هذه الأسئلة وسواها يمكن توزيعها في حقائق محددة وسبر غورها لإجابة واحدة ونهائية. لكن ذلك لن يكون نيلا من أهمية الأوسكار ولا تعزيزا له. المناسبة التي تبلغ 87 سنة من العمر هذه الليلة وتتناقلها مئات المحطات التلفزيونية (كاملة أو جزئية) حول العالم وتنشغل بها عشرات ألوف المواقع الإخبارية والترفيهية، وصلت منذ عقود طويلة إلى سن النضج وأسست لنفسها الصرح الذي تحتله اليوم أحبها البعض أو لم يفعل.
لكن، بما أن الأوسكار على مثل هذه السعة والحضور، فإن البحث فيه ومحاولة فك لغز نجاحه سيستمر وهو ما يتمناه كأي فائز يريد من المجتمع الذي يحتفي به أن يفعل. بكلمات أخرى، لو لم تكن كل تلك الكتابات والاهتمامات موجودة لسبب أو لآخر، لكان الأوسكار حدثا مختلفا في الحجم وفي الإقبال وربما في الأهمية أيضا.
الحقائق المشار إليها تنشد أن تمنح المسألة صورة وافية وعريضة لا لتجيب على الأسئلة الكثيرة التي يرددها البعض كل سنة، بل أيضا لتعريفنا بالسبب الذي من أجله صارت ليلة الأوسكار أشبه بليلة عيد وطني في أكثر من مكان.

* الأوسكار احتفال هوليوودي اكتسب العالمية
* يقع فندق روزفلت في النصف الشرقي من «هوليوود بوليفارد»، على مقربة من تقاطع الشارع مع شارع عريض آخر اسمه هايلاند. البناية الكبيرة التي تحمل رقم 7 آلاف التي بنيت سنة 1927 تبدو اليوم قديمة، لكن لا شيء قديم عندما يأتي الأمر إلى سعر غرفها الفاخرة التي تتراوح بين 400 و550 دولارا حسب نوع الغرفة. طبعا، ليس أغلى فندق في العالم، لكن كثيرا من زبائنه يجدونه مناسبا كموقع وكقيمة وكذكرى. ففيه تم لمجموعة من السينمائيين (17 رجلا وسيدة واحدة)، من منتجين ومخرجين وأصحاب استديوهات، عقد أول حفلة توزيع لجائزة الأوسكار. حفلة حضرها أكثر من 250 فردا بقليل وامتدت.. ربع ساعة كاملة.
التحضير للحفل بدأ عندما كان الممثل دوغلاس فيربانكس رئيس أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التي تم إنشاؤها قبل عامين، وتم الإعلان عن الفائزين قبل 3 أشهر من موعد الحفل في 16 مايو (أيار) 1929. قبل أن تتعلم الأكاديمية كيف تبقي النتائج سرا حتى حين إعلانها.
تلك كانت البداية والغاية منها كانت واضحة: قيام صناعات هوليوود السينمائية بإهداء جوائزها المسماة بالأوسكار لمن ينتمي إليها، أي من العاملين في تلك الصناعات داخل هوليوود. أما من كان يعزف ألحانه السينمائية خارج المدينة داخل أميركا أو خارج الولايات المتحدة الأميركية فلم تكن له حصة من هذه الاحتفالات.
لكن، ما بدأ محليا اكتسب أهمية عالمية على نحو تدرجي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وما انطلق كاحتفال هوليوودي بنفسها وبمن فيها، تحول إلى مناسبة تثير اهتمام العالم بعد تلك الحرب قبل أن تصبح عيدا سينمائيا يشترك فيه العالم إسهاما (ترشيحاته من الأفلام) أو استقبالا. هذا من دون أن يتخلى الأوسكار عن انتمائه للأكاديمية التي تضم حاليا 6 آلاف عضو أو نحو ذلك من ممثلين ومخرجين ومنتجين ومصورين وكتاب وكل فريق أساسي آخر يعمل ضمن الصناعة. أعضاء الأكاديمية معظمهم أميركيون، لكن الباقين هم من انتسب إليها كونه يعمل داخل هوليوود. بالتالي ما زالت تعبر عن آراء كل هؤلاء أساسا وليس عن آراء أتراب أخرى من المهتمين بشؤون السينما.

* الممثلون وفرحة الفوز
* هل انزعجت ميريل ستريب، المرشحة حاليا عن دورها المساند في فيلم «داخل الغابة»، مرة واحدة كونها رشحت 19 مرة من عام 1978 عن فيلم «صائد الغزلان»؟ لا. هل كانت تتمنى لو فازت بأكثر من الأوسكارات الثلاث التي فازت بها حتى الآن؟ نعم.
واقع الحال أن الممثلين، في معظمهم (أي باستثناء من لديه سبب غير مألوف) يتمنون لو أن رذاذ الترشيحات يصيبهم. وحين يجدون أنفسهم من بين المرشحين يحلمون بالفوز. هذا طبيعي كونهم بشرا في الأساس، وكل منا يحب أن يفوز بتقدير كبير كهذا، ولأنهم في لعبة السينما التي تحتاج إلى مواهبهم لتخرطها في آلتها الصناعية والمالية.
بندكيت كمبرباتش، الممثل المرشح اليوم عن دوره في «لعبة المحاكاة» قال لهذا الناقد قبل أسابيع غير بعيدة عندما كان يروج لفيلمه في لندن: «ليس أنني لا أمانع إذا ما ربحت الأوسكار، بل أريده. هو مطلب لي». حين سؤاله عن سبب أنه مطلب، قال: «لأنني ممثل والممثل يستحق التقدير ولأن الأوسكار هو منتهى الفوز بالنسبة لأي منا نحن الممثلين ولأي من المشاركين الآخرين. لا أقول إنني استحقه أكثر من سواي في هذه المسابقة فهذا أمر يقرره المصوتون. ما أقوله وبصراحة: أنا أريد الفوز وأعتقد أنني جدير به».
مايكل كيتون المرشح عن دوره في «بيردمان» كان أكثر دبلوماسية في الواقع؛ إذ قال: «يكفيني أنني أحد الخمسة المرشحين. هذا وحده مكافأة كبيرة لجهودي كممثل».

* الأوسكار لا يضمن للممثل أجرا أعلى
* من الاعتقادات الشائعة القول إن الفائز بالأوسكار ما أن يتلقى الجائزة بيد حتى يوعز باليد الأخرى لمدير أعماله برفع أجره. هذا غير صحيح. الممثل الفائز قد يستفيد من سعي شركات الإنتاج للتعاقد معه، لكن هذا ليس مضمونا. غوينيث بولترو، من بعد فوزها بأوسكار أفضل ممثلة عن «شكسبير عاشقا (1999) لم تصبح أكثر نشاطا وطلبا مما كانت عليه من قبل. ريز وذرسبون التي فازت بالأوسكار ذاته سنة 2006 عن دورها في «Walk the Line» لم تردمها العروض، وجورج كلوني الذي فاز عن «سيريانا» بأوسكار أفضل ممثل مساند، كان أصبح نجما لامعا قبل ذلك التاريخ ولم يفده ذلك الأوسكار ماديا على الإطلاق. وجارد ليتو، الذي فاز بالجائزة نفسها في العام الماضي عن دوره المساند في «دالاس بايرز كلوب» ليس لديه عرض واحد إلى اليوم.
لكن، ومع كل هذا، فإن الممثلين وبقية العاملين في السينما يتمنون الفوز بالأوسكار لقيمته الفنية والمعنوية. ليس هناك خيار بين الفوز وعدمه لو كان لدى أي منهم القدرة على التأثير في مجرى التصويت لصالحه.
في هذا النطاق، فإن مرشحي اليوم يستحقون التقدير على نحو جامع، وإن كان بعضهم أبلى أفضل من سواه. مايكل كيتون «بيردمان» انتظر مثل هذا التكريم طويلا. بندكت كمبرباتش يرى، عن حق، أن دوره في «لعبة المحاكاة» هو أعلى بذل فني قام به لليوم. ستيف كارل «فوكسكاتشر» وضع كل ما لديه من موهبة. برادلي كوبر «قناص أميركي» أحب المشروع لدرجة أنه اشتراه على نفقته أولا وإيدي ردماين «نظرية كل شيء» سبر غور دوره كمقعد وفي باله أولا إجادة الدور بحد ذاته. والحال ذاته مع الممثلات الإناث: ماريون كوتيار، وفيليسيتي جونز، وروزاموند بايك، وجوليان مور، وريز وذرسبون. ليس أن الأوسكار لا يرد على البال، لكنه ليس السبب الذي من أجله يقوم الممثل بالتمثيل.

* نجاح شباك التذاكر ليس شرطًا ماديًا
* لكن الاعتقاد الأكثر شيوعا مما سبق القول بأن الأفلام التي تربح الأوسكار هي تلك التي تحقق إيرادات مالية كبيرة، بمعنى أن الأكاديمية تنظر إلى نتائج السوق وتختار الفيلم الناجح تبعا لما أنجزه من نجاح، ولاحقا ما يستفيد الفيلم، على نحو كبير، من جائزته فيزيد من إيراداته على نحو مضاعف.
خذ هذا العام مثلا: 4 من الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم، وهي: «بيردمان»، و«نظرية كل شيء»، و«صبا»، و«ويبلاش»، لم يحقق الواحد منها أكثر من 40 مليون دولار. «ويبلاش» في الواقع أنجز حتى الأسبوع الماضي 11 مليون دولار فقط. 3 أفلام أخرى أنجزت أرقاما أعلى هي «سلما» (47 مليون دولار)، و«ذا غراند بودابست هوتيل» (59 مليون دولار)، و«لعبة المحاكاة» (78 مليون دولار). وهذه أرقام عادية جدا. واحد فقط حقق أرقاما رابحة وكبيرة هو «قناص أميركي» (312 مليون دولار داخل أميركا حتى اليوم).
الوضع الفعلي له مستويان: أولهما، أن «بيردمان» هو المرشح الأول، وهو لم ينجز فوق المتوقع منه. وثانيهما، أن كل هذه الأفلام أنجزت إيراداتها قبل إعلان الترشيحات. بالنسبة لبعضها («بيردمان» و«لعبة المحاكاة») شهد نشاطا شكل 20 إلى 25 في المائة على ما كان كل منها حققه قبل الترشيحات، لكنه لم يقفز إلى أرقام مضاعفة بمجرد إعلان ترشيحه، كذلك سوف لن ينجز الأوسكار له إلا تجددا نسبيا في سوق المبيعات السينمائية.
والأمر ينطبق على فيلم كلينت ايستوود: إلى أن أعلنت الترشيحات الرسمية كان «قناص أميركي» أنجز 30 في المائة من إيراداته. نجاحه الكبير الحالي يعود إلى موضوعه وليس ضامنا لفوزه.
ولا يتطلب الأمر سوى مراجعة سنوات الأوسكار السابقة. يكفي مثلا أن أوسكار أفضل فيلم سنة 2010 ذهب إلى «خزنة الألم» الذي لم تتجاوز إيراداته قبل وبعد النتيجة أكثر من 50 مليون دولار، بينما أخفق منافسه «أفاتار» في نيل الأوسكار، رغم أنه أنجز قبل موعد النتائج نحو مليار و500 مليون دولار أضاف فوقها، بعد فشله، مليارا آخر و300 مليون دولار.

* ولكن الجائزة قد تذهب لمن لا يستحق
* نجد أنه في كل مناسبة تمنح فيها جوائز سينمائية، سواء أكانت مناسبة سنوية تقيمها مؤسسة أكاديمية بريطانية أو أوروبية أو أميركية، أو كانت مهرجانا سينمائيا أن الاختلاف حاصل بين 3 فرقاء: إن أعجبت لجان الاختيار والتحكيم بفيلم أو بموهبة ومنحته جائزتها، فإن النتيجة قد لا تعجب الجمهور، وإذا ما أعجبت الجمهور، فقد لا تعجب النقاد.
تحديدا هذا العام، إذا ما فاز «قناص أميركي» بموقفه اليميني الذي تناقلته وسائط الإعلام، فهو سيشكل بهجة لدى الجمهور وشكوى لدى النقاد. أما إذا فاز، «صبا» فإنه سيثير قبول النقاد وعدم مبالاة الجمهور الذي غاب معظمه عن حضور هذا الفيلم أساسا، لأنه ليس فيلما للفئة العامة بادئ ذي بدء.
على صعيد فني بحت، يمكن استخراج عشرات الأمثلة لأفلام ومواهب فازت بينما كان من بين المنافسين من يستحق أن يفوز أكثر منها. مثلا في عام 1948 فاز فيلم إيليا كازان «اتفاق جنتلماني» بأوسكار أفضل فيلم وهو فيلم مشهود له بالتصدي للمعاداة للسامية، لكن في ترشيحات ذلك العام كان هناك فيلم أفضل منه فنيا وأكثر عمقا في تصديه ذاك هو «كروسفاير» (Crossfire)، لكنه لم يفز.
المخرج توم جونز فاز عن فيلمه «توم جونز» سنة 1964 لكن ألم يكن فيلم «ثمانية ونصف» لفديريكو فيلليني أفضل منه؟ وهل كان فوز الممثل سيدني بواتييه في العام ذاته عن «براعم في الحقل» مستحقا أكثر من أداء ألبرت فيني في «توم جونز» أم تدخلت عوامل الرغبة في تكريم ممثل أفرو - أميركي؟
ثم لماذا تم ترشيح آلان أركين لأوسكار أفضل ممثل سنة 1967 بينما استحق سيدني بواتييه نفسه الترشيح (على الأقل) عن دوره في «في حرارة الليل»؟ وهل فوز المخرج ألفونسو كوارون في العام الماضي بأوسكار أفضل إخراج (عن «جاذبية») يعكس الحقيقة عندما ننظر إلى الجهد الذي بذله مارتن سكورسيزي في «ذئب وول ستريت» أو البساطة الصعبة التي حققها ألكسندر باين عن «نبراسكا»؟ وهل استحق توم هانكس استبعاده من ترشيحات أفضل تمثيل رجالي عن دوره في «كابتن فيليبس»؟ ولماذا غاب كليا روبرت ردفورد ممثلا وسي جي شاندور مخرجا وفيلمهما «كله ضاع» عن هذه المسابقات الرئيسية الثلاث؟ إنها في نهاية المطاف آراء، والأكاديمية تضم كل أطياف العاملين في الصناعة ما عدا أساتذة السينما ونقادها. لا عجب أنه لو نظرنا إلى تاريخ الجائزة لواجهتنا مثل هذه الأسئلة منتشرة في معظم سنواتها.

* الأوسكار احتفاء بفن الإخراج
* رغم ما سبق، فإن الأوسكار احتفاء بقدرة مخرجي الأفلام على تقديم ما هو خاص ومختلف وذو بصمة نوعية وأسلوبية.
لو نظرنا بإمعان إلى المرشحين في هذه الخانة هذا العام ولما بعد الأسماء المشاركة، نجد بانوراما جميلة من الأساليب والنوعيات وأحاديث بعضها ذاتي أكثر من سواه، وبعضها الآخر بارع في نواحي مختلفة عن بعضها الآخر. إنهم: رتشارد لينكلاتر عن «صبا»، وأليخاندرو غونزاليز إيناريتو عن «بيردمان»، وبنت ميلر عن «فوكسكاتشر»، ووس أندرسون عن «ذا غراند بودابست هوتيل»، ومورتن تيلدام عن «لعبة المحاكاة».
النروجي تيلدام (وهو ليس من كبار مخرجي بلاده كما كتب بعض الزملاء) مرشح عن «لعبة المحاكاة»، ومنهجه هو أكثر مناهج المخرجين المذكورين سعيا لإرضاء القطاع العام من المشاهدين، وهو القطاع الذي يتألف منه ألوف من أعضاء الأكاديمية أيضا، ولو أن ذلك لن يضمن فوزه أو فوز فيلمه بالأوسكار، إنه فيلم جيد بحدود، يتعثر بخيوط السيناريو التي كان من المفترض أن تبقى بسيطة وفي غايات الفيلم المتعددة (بيوغرافي، مثلية جنسية، حكاية وطنية.. إلخ).
مخرج آخر هدف إلى السوق نفسه، لكن مع نتائج فنية أعلى هو بنت ميلر، فيلمه «فوكسكاتشر» مفتوح على أكثر من أفق لكنه أكثر انضباطا وسرده أكثر تركيزا من فيلم تيلدام.
الثلاثة الآخرون اشتغلوا على براعاتهم الفنية التي قلما خانوها: رتشارد لينكلاتر في «صبا» عمد إلى تصوير تسلسل زمني كامل لحكايته وشخصياته. على مدى 12 سنة أو نحوها، صور ممثليه في 3 فترات منتظرا ثم ملتقطا نمو كل منهم على مدى سنوات. وس أندرسن اشتغل على أسلوبه التصميمي المزين بالألوان وبالحكاية التي لا تتبع منهجا سرديا سهلا (ولو أن هذا الفيلم أسهل للمتابعة من أعمال سابقة له). أما إيناريتو، فقد ارتفع بأسلوب عمله ومعالجته البصرية والكلية عن كل ما عداه عامدا لإنجاز فيلم ما زال خاصا وذاتيا.
كل هذا يمنحنا نحن المشاهدين الفرصة للتعرف على أساليب عمل عبر المقارنة. فيلم وراء آخر يبرز كل ذلك التعدد في الفهم والتعبير وطريقة معالجة الموضوع ولأي سبب وبأي أسلوب.

* الأوسكار ليس للنقاد
* رغم كل ذلك، الأوسكار ليس للنقاد.
نعم يستطيعون الغرف من بئره اليوم كما في الأمس؛ مراجعته فيلما فيلما وجائزة جائزة، لكنه ليس المرجع الذي يشفي غليل معظمهم. عن صواب، لا يستطيعون سوى ملاحظة أن عددا كبيرا من الأفلام المستحقة لم تفز (وكثيرا ما لم ترشح أساسا) كذلك عددا أكبر من المخرجين والممثلين والكتاب والمصورين.
لكن النقاد اليوم منشغلون بالأوسكار كالعادة. ومن لا يفعل فإنه على الأقل ينتظر ساعة إعلان الجوائز لكي يرى من فاز ومن اكتفى بالتصفيق للفائز. أصبح الأمر لا مفر منه خصوصا مع عدم وجود مناسبات قوية أو بديلة.
فعلى كثرة المناسبات المماثلة (جوائز الغولدن غلوبس، بافتا، الاتحاد الأوروبي.. إلخ) لا يزال الأوسكار أشبه بالأب الكبير الذي لن يتجاوز عمره (وقيمته) أحد. وتبعا لضروريات إعلامية سيكتب، إن لم يكن قبل النتائج فبعدها، عن الأوسكار وانطباعاته وآرائه.
ليس هناك خطأ في ذلك، الخطأ في عدمه، لأن الناقد - بصرف النظر عن موهبته وقدراته - لا يستطيع أن ينفخ في الهواء، عليه أن يكتب لجمهور والجمهور يريد أن يعرف. في الباطن، يزدري كثير من النقاد (العرب وغير العرب) الأوسكار. يرونه فعلا سلبيا لا يستحق هذا الاهتمام الكبير. في الظاهر، لا ينتظر الأوسكار شهادة تقدير من النقاد بل يفرض حضوره بسبب حضوره الكبير بين ملايين المشاهدين والمتابعين.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».