المحطات المفصلية في تطور مفاهيم «نظرية كل شيء»

كاكو يقوم بجولة فكرية في تاريخ الفيزياء منذ عهد نيوتن حتى يومنا هذا

ميتشيو كاكو
ميتشيو كاكو
TT
20

المحطات المفصلية في تطور مفاهيم «نظرية كل شيء»

ميتشيو كاكو
ميتشيو كاكو

يعودُ البروفسور ميتشيو كاكو (Michio Kaku)، أستاذ الفيزياء النظرية الأشهر على مستوى العالم والذي يعمل أستاذاً في جامعة ولاية نيويورك، لإتحافنا بكتاب جديد كعادته كلّ سنتين أو ثلاث سنوات. الكتاب الجديد جاء بعنوان «المعادلة النهائية: السعي وراء نظرية لكل شيء (The God Equation: The Quest for a Theory of Everything)»، وقد نشرته دار نشر «Doubleday» يوم 6 أبريل (نيسان) 2021 في حجم متوسط ضمّ 240 صفحة.
ميتشيو كاكو كاتب ومقدم برامج وثائقية علمية ذائع الشهرة، وقد حققت كتبه مبيعات كبرى طبقاً لقائمة «نيويورك تايمز» للكتب الأكثر مبيعاً، وقد سبق له نشر أكثر من 10 كتب مرجعية؛ منها كتاباه الأخيران: «مستقبل العقل (The Future of the Mind)»، 2015 (الذي نُشِرت ترجمته العربية عن «سلسلة عالم المعرفة»)، و«مستقبل الإنسانية (The Future of Humanity)»، 2018.
نشأت معرفتي الأولى بـ«نظرية كل شيء (Theory of Everything)» في سياق عبارة وردت على لسان الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ في إحدى محاضراته. عبارة «نظرية كل شيء» تستبطن سحراً بقدر ما تبعث على الدهشة، ثم عرفت بعد شيء من بحث وتنقيب أن هذه النظرية بمثابة «حجر الفلاسفة» لدى الفيزيائيين المعاصرين؛ فهي تمثل تتويجاً لرؤيتهم الملحمية وجهدهم الأسطوري في محاولة بلوغ نظرية توحّد كل القوى الأساسية المعروفة في الطبيعة (وهي أربع قوى بحسب المتعارف عليه في أوساط الفيزيائيين)، وعند متابعتي الجهود العلمية المبذولة لتحقيق مسعى توحيد القوى، عرفت أن ستيفن هوكينغ واحد من الفيزيائيين الأساسيين المساهمين في جهد بلوغ «نظرية كل شيء» في مطلع شبابه؛ لكنه انكفأ عن متابعة هذا الجهد الملحمي في أواخر سنواته.
عندما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية فقد عمل من الناحية الواقعية على توحيد القوانين التي تحكم السماء مع القوانين التي تحكم الأرض (وكلّ الموجودات المادية الكبيرة فيهما، ومنذ ذلك الحين اندفع الفيزيائيون وراء سعي ملحمي لتوحيد كل القوى المعروفة في الطبيعة «الثقالة Gravity»، الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية) في إطار نظري واحد تعبرُ عنه معادلة توحيدية واحدة؛ ورغم تحقق نتائج كبرى؛ فإنه لا تزال المعضلة العصية التي تمثل التحدي الأعظم في هذا الميدان هي توحيد «النظرية الكمومية (Quantum Theory)» مع «النسبية (relativity)»، ولو تحقق هذا الإنجاز، لكان في المستطاع عدّه الإنجاز الكبير الذي يرقى لمرتبة العثور على «الكأس المقدّسة» في تاريخ الفيزياء والعلم بعامّة.
كتاب كاكو أقربُ لجولة فكرية في تاريخ الفيزياء منذ عهد نيوتن وحتى يومنا هذا، وهو يوضّح بمقاربته - المفعمة بالحماسة الفكرية والأسلوب المشرق - المحطّات المفصلية في التطوّر المفاهيمي لـ«نظرية كل شيء»، والآراء المختلفة والمتضادة لكثير من الفيزيائيين الحاصلين على جائزة نوبل في الفيزياء. يستطيع القارئ عقب قراءة كتاب كاكو التصريح بثقة بأن هناك قليلاً من الكتّاب المناظرين لكاكو والقادرين على تجزئة الموضوع الفيزيائي - أي موضوع - إلى ذرات صغيرة من المعلومات القابلة للهضم والتمثل الفكري المنعش للعقل والروح.
يبدأ الكتاب مع نيوتن وآينشتاين، ثمّ ينعطف نحو الميكانيك الكمومي، وبعدها يتناول كاكو موضوعات المادة المظلمة، والطاقة المظلمة، والثقوب السوداء، ثمّ ينتهي مع الموضوعة الإشكالية الخاصة بـ«نظرية الأوتار (String Theory)»، ويؤكّد كاكو في نهاية الكتاب على المعالم الأساسية في الخريطة الفكرية للفيزياء في عصرنا الراهن، كما يرسم شكل الخطوات اللاحقة التي يتوجب علينا المضي في استكشافها في السنوات والعقود المقبلة.
لا ينسى كاكو في جولته التأريخية هذه أن يشير إلى مواضع مفصلية أعادت تشكيل رؤيتنا للكون؛ فقد أتاحت له مقاربته الزمنية الخطية توضيح مفاهيم أساسية، مثل: نظريات آينشتاين في النسبية (الخاصة والعامة)، و«جسيم هيغز البوزوني»، و«التناظر والتناظر الفائق»، وقد استطاع كاكو بطريقته المعهودة أن يبيّن الكيفية التي يمكن بها توظيف هذه المفاهيم في الإطار النظري الأكبر لـ«نظرية كل شيء» الكونية.
سيكون أمراً مشروعاً لو تساءل المرء بعد قراءة كتاب كاكو الجديد: هل سيكفّ العلماء عن السعي وراء حلم «نظرية كل شيء» حتى بعد تلك التأكيدات المثبّطة التي أبداها الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ بشأن إمكانية بلوغ تلك النظرية بعد أن كان من أوائل المبشّرين بها؟ يبدو لي أن حلم التوحيد هذا ينطلق من رؤية ميتافيزيقية تختلف تماماً عن الرؤية التقنية، وإذا كان هوكينغ أبدى شكوكه العميقة في بلوغ تلك النظرية الموحّدة؛ فهو إنما يؤشر واقع الحال اللحظي الذي تبدو فيه الفيزياء في وضع إشكالي ينطوي على ثغرات كثيرة على صعيد الرؤى الفيزيائية والتقنيات التي تتطلبها الرياضيات والتي تبدو غير مكتشفة في وقتنا الحاضر، وقد تكون الكثرة من المعادلات تمهيداً أولياً وقتياً باتجاه بلوغ المعادلة الواحدة التي صارت بمثابة «حجر الفلاسفة» الذي يبحث عنه الفيزيائيون المعاصرون.
لكن يبقى السؤال الجوهري ماثلاً أمامنا: لماذا هذا الهوس الطاغي بالمعادلة الواحدة بدل الكثرة من المعادلات؟ يستبطن هذا الأمر - كما يبدو لدارسي الفكر والفلسفة وتأريخ الأفكار - قناعة ميتافيزيقية غير مُسببة ترى الحقيقة الكبرى مخبوءة في ثنايا مواضعات أولية بسيطة تنطوي على قدر عظيم من الجمال والأناقة (بالمعنى الرياضياتي عندما نتعامل في حقل الصياغات الرمزية). ثمة في العقل البشري (وبخاصة في الفيزياء) توق ممضّ يرى الراحة والسكينة في الحقائق المضغوطة القليلة بدل الكثيرة، وتلك واقعة نرى نظيراً لها في تراثنا الفلسفي العربي الذي أكّد على الأهمية الحاسمة لـ«الكليات (Universals)»، وقد شاركته الفلسفة الإغريقية في ذلك الأمر، ولعلّ المسعى الملحمي وراء «نظرية كل شيء» هو بعض صدى تلك الفلسفات الغابرة التي لن تخفت جذوتها على مرّ الأيام.
ليس من شك في أن العديد من الناس لا يحبون الفيزياء مطلقاً بمثل ما يحبها (بل بمثل ما يعشقها) كاكو ونظراؤه، وربما ابتعد العديد منّا في حياتهم عن دراسة العلم لأنهم اعتقدوا (وربما قيل لهم من آخرين) أن الفيزياء موضوع شاق لا يستطيعه غير قلّة من العباقرة، والحق أن معرفة بعض العناوين الفرعية في أي كتاب يتناول ميكانيك الكمّ - على سبيل المثال - لهي مجلبة للصداع ؛ لكن الأعاجيب المدهشة التي ينطوي عليها كونُنا يمكن (بل يتوجب) أن تستثير شغف كلّ واحدٍ منا، فضلاً عن أن امتلاك معرفة أساسية في الفيزياء أمرٌ لا يقتضي الانغمار في دراسة تمتد طول العمر.
استطاع كاكو في كتابه هذا أن يبيّن واحداً من أسباب كثيرة تجعل الفيزياء على هذا القدر الهائل من الإدهاش، ولماذا غدت علماً أساسياً، وما السبب الذي يجعلها مادة جوهرية وحاسمة في فهمنا للعالم. يمثّلُ المنظور المتعاظم والمدى الواسع للفيزياء في يومنا هذا حدوداً تصيب المرء بالدهشة؛ فالفيزياء هي التي جعلتنا نعرف اليوم مم تتكوّنُ كلّ الأشياء (تقريباً) التي نراها في العالم وكيف تترابط مكوّناتها معاً، والفيزياء هي التي مكّنتنا من تتبّع التأريخ التطوّري للكون بأكمله وحتى الأجزاء البسيطة من الثانية الأولى التي أعقبت نشأة الفضاء والزمان كليهما، والفيزياء هي التي ساعدتنا (بواسطة معرفتنا الدقيقة بالقوانين الفيزيائية التي تحكمُ الطبيعة) على تطوير - والاستمرار في تطوير - التقنيات التي أحدثت انتقالات جذرية في حياتنا.
ثمة شيء واحد أنا موقنة بمصداقيته: لو استطاع كل شغوفٍ بالعلم - والفيزياء خاصة - قراءة كتاب كاكو بلغته الأصلية - أو مُترجماً كما آمل - فسيكون قد حاز متعة كبرى هي من أعظم المتع الفكرية المتاحة في حياتنا.


مقالات ذات صلة

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

كتب ليور زميغرود

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج»

ندى حطيط
كتب فدوى طوقان

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي…

د. ماهر شفيق فريد
يوميات الشرق حسين فهمي أكد حبه للقراءة وارتباطه بها (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)

حسين فهمي لـ«الشرق الأوسط»: الكتاب رفيق دربي

أبدى الفنان المصري حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، فخره وسعادته بالمشاركة بصفته متحدثاً رئيسياً في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
ثقافة وفنون يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)

الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

استقطبت 211 فعالية في «معرض مسقط الدولي للكتاب 2025» حضوراً لافتاً من الجمهور المهتم الذي يتوافد إليه، توزعت بين ندوات حوارية وأمسيات ثقافية وعروض مسرحية.

«الشرق الأوسط» (مسقط)
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود
TT
20

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج*»، حيث تسعى لتفسير ميل بعض البشر إلى الآيديولوجيات المتطرفة انطلاقاً من بنية الدماغ وبيولوجيته، وليس فقط من خلال السياقات الاجتماعية أو الثقافية. ويأتي هذا العمل الذي يندرج ضمن مشروع أوسع في الجامعات الغربيّة للربط بين العلوم السلوكيّة والسياسة في وقت تصاعدت فيه الاستقطابات الحادة، سواء داخل المجتمعات أو عبر الحدود، وبينما يعيد كثيرون طرح السؤال القديم مجدداً: لماذا يصبح بعض الناس أكثر تطرفاً من غيرهم؟

بدأت زميغرود دراستها من مشهد سياسي معاصر، تحديداً من لحظة الانقسام في بريطانيا حول مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي ونتائج الاستفتاء الشعبي الذي جرى عام 2016 واعتمدت عليه حكومة حزب المحافظين لتشرع في إجراءات الطلاق من أوروبا (بريكست)، إذ لفتتها المواقف المتصلبة لطرفي الطيف السياسيّ، وتساءلت عمّا إذا كانت نتاج انتهازية سياسية أم عرضاً لجذر أعمق مرتبط بتكوين الأشخاص النفسي والدماغي، لتصل في النهاية إلى استنتاج وحيد – في قلب كثير من التساؤلات أيضاً –: ثمّة جانب بيولوجي ملموس لتموضعات الأفراد السياسيّة.

تعتمد زميغرود في مقاربتها على تعريف صارم للآيديولوجية باعتبارها نمط تفكير متصلب يعطل المرونة الإدراكية لصالح نسق مغلق من المعتقدات. وهي في ذلك تعود إلى إرث علم النفس السياسي، وتحديداً أعمال إلسي فرينكل برونسويك وثيودور أدورنو، اللذين سعيا بعد تجربة الحرب العالمية الثانية لفهم السّمات التي تمتلكها «الشخصية الفاشية». لكنها في هذا السياق تذكر مفارقة تاريخيّة بشأن أصل مصطلح «آيديولوجيا»، الذي تقول إن الكونت الفرنسي ديستوت دو تريسي صاغه في إطار بحثه عن كيفية تكوّن المعتقدات. غير أن المصطلح انقلب على رأسه مع الزمن، ليعني الآن عكس ما أراده مبتدعه: الالتزام غير النقدي بالاعتقاد - بدلاً من تحليله -.

وبحسب زميغرود، فقد وجدت برونسويك في خمسينيات القرن الماضي، أن الأطفال المتحيزين ليسوا متصلبين في مواقف معرفيّة فحسب، بل يمتد تصلبهم وجمود أفكارهم إلى كل استجاباتهم الإدراكية. وتوسع المؤلفة هذا المنظور باستخدام أدوات علم الأعصاب الإدراكي، كاختبار ويسكونسن لقياس قدرة الأشخاص على التكيف والإبداع، فتظهر بيانات اختباراتها أن الأفراد ذوي التفكير العالي الأدلجة - لا فرق إذا كانوا في اليمين أو اليسار- يميلون بشكل عام إلى الجمود المعرفي، ومحدودية المرونة الذّهنية.

على أنّ الطرح الأكثر إثارة في الكتاب يكمن في تتبع زميغرود للرّوابط بين البنية العصبية والميول السياسية. إذ عبر دراسات تصوير الدماغ وتحليل التكوين الجيني، وجدت أن الأشخاص ذوي الميول الآيديولوجية المتطرفة يمتلكون توزيعاً مغايراً لهرمون الدوبامين في أدمغتهم عن الأشخاص الأقل تزمتاً: انخفاض في منطقة قشرة الفص الأمامي (المعنية بالتفكير العقلاني والمرن)، وارتفاع في منطقة وسط الدّماغ المرتبطة بالغرائز والسلوكيات الانفعاليّة الطابع. كما وتبين لها أن الشخصيّات المحافظة غالباً ما تمتلك (لوزة) دماغية أكبر حجماً، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة مشاعر الخوف والاشمئزاز، مما قد يفسر انجذابهم لمواقف تركز على الحفاظ على الأوضاع القائمة والنّظام والتقليد. غير أن المؤلفة تتجنب الحسم، إذ لا يُعرف تماماً ما إذا كانت هذه السمات العصبية وتركيب الأدمغة تسبق الآيديولوجيا أم تنتج عنها. أي، هل تغير معتقداتنا من شكل أدمغتنا؟ أم أن تكوين الدماغ يقودنا إلى اعتناق معتقدات بعينها؟ العلم هنا - وفق زميغرود دائماً - لا يتخذ موقفاً، لكنه يطرح أسئلة فلسفية وعمليّة عميقة حول مفهوم «حرية الإرادة» في السياق السياسي.

الكتاب عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ

من الملاحظات اللافتة التي تقدمها زميغرود أن الأشخاص عاليي الأدلجة لا يدركون أنهم أشخاص بطيئو التفكير، بل يعتبرون أنفسهم مندفعين ومحبين للمخاطرة، أي أنهم يجمعون بين صلابة معرفية على المستوى اللاواعي، وسلوكيات متهورة على المستوى الواعي. هذا التناقض يمكن أن يفسر انجذاب المتطرفين إلى الخطابات التي تدعو إلى «النظام» و«سيادة القانون»، بينما يمتعهم في الوقت ذاته تهديم المؤسسات القائمة والنظام الحالي.

تجمع زميغرود في تشخيصها للدماغ الآيديولوجي بين المتطرفين على اليمين أو اليسار، وتزعم أن الجمود الآيديولوجي يمكن أن يصيب الجانبين، وتشير إلى أن الأفراد المتحررين من القيود الحزبيّة ويميلون إلى الليبرالية اليسارية غالباً ما يظهرون أعلى درجات المرونة المعرفية، لكنّها تصرّ على أنها لا تدعم تموضعاً سياسياً محدداً يمثل هذا الموقع، بقدر ما توثق حاجة مجتمعاتنا المعاصرة إلى إعادة تأهيل الفضاء العام كحيز للتواضع أمام المعرفة، والانفتاح على الآخر، وتوظيف الجدل في البحث عن حلول فضلى لمشكلات العالم. لكن هذا الطرح يثير بدوره سؤالاً أخلاقياً محوريّاً: هل يمكن للعقل المرن غير المدجج بالآيديولوجيا أن يواجه الاستبداد والفاشية؟ أم أن هذه المرونة نفسها قد تكون مدخلاً للتّراخي والتكيف مع الشر؟

هذا التحدي الفلسفي الذي يطرحه الكتاب - ولا يحسمه - يعيدنا إلى الجدل (في الغرب) حول تجارب الفاشيات في النصف الأول من القرن العشرين وكيف تورط ملايين من الأشخاص العاديين في تنفيذ سياسات أنظمة متطرفة وخاضوا من أجلها حروباً تدميرية لم يسبق لها مثيل في أعداد الضحايا وحجم الخراب.

ينطوي الكتاب على نغمة شخصية مؤثرة، إذ تتحدث زميغرود عن أصولها المتعددة والمتوزعة بين اللغات والثقافات والقارات، وتجد أن هذا التعدد هو ما جعلها حساسة للآيديولوجيا كمشروع إقصائي، وعنصر تهديد للهويات المعقدة والهجينة، مما يكسب مشروعها الفكري هذا صيغة نضال إنساني يسعى إلى حماية الفرد من اختزال تكوينه المعقد والمتعدد من قبل التطرفات العقائدية.

إن «الدماغ المؤدلج» عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ، ويمتاز بجمعه الشيّق بين علم الأعصاب والتاريخ والفلسفة السياسية. لكنه في الوقت نفسه، لا يقدّم للقارئ أية إجابات سهلة، بل يورطه في إشكاليات مشرّعة على التفكير حول معاني الحرية، والإرادة، والعيش الأفضل في مجتمعاتنا المعاصرة.

*The Ideological Brain: A Radical Science of Susceptible Minds by Leor Zmigrod, Viking, 2025