ذاكرة العراق الراهنة

«وداعا يا جلادي» للحمداني بالفرنسية

ذاكرة العراق الراهنة
TT

ذاكرة العراق الراهنة

ذاكرة العراق الراهنة

من يملك الآن فصولا من السراب، وجيوشا منهزمة، وما زال يراهن؟ ومن يملك حروبا خاسرة، ورايات مطأطئة وما زال يراهن؟ تلك حكاية العراق الآن، تلك الحكاية القديمة تتجدد ويعيش الأبناء مرارتها، ومَن غير العراقي يجيد المرارة والمراهنة في آن.
ربما رهان صلاح الحمداني كان مختلفا، كان واحدا من هؤﻻء الذين اختبروا حكاية المنفى الفرنسي، كما اختبر تجليات الحزن في كل مرة تجرحه فيها الذاكرة العراقية، كأنهم وحدهم من بين سائر نظرائهم العرب يخلصون لها بعد أن عاث فيها ساسة العراق خلال حروب طويلة.
قصة الذاكرة والمكان كانت أحد عناصر عمل صلاح الحمداني «وداعا يا جلادي» الصادر عن دار النشر الفرنسي «لو تان دي سيريز» اشتغل عليه الحمداني بعد زيارة قصيرة قام بها مؤخرا إلى العراق لرؤية عائلته بعد منفى طال 40 عاما، ذاك الذي خرج من بلاده ولم تخرج منه إطلاقا، يحضر الحمداني الآن مجموعة أخرى تختار من بغداد العاصمة عنوانا وبطلا وإرثا ينطلق منه أو قد يعود إليه، تحت عنوان: «العودة إلى بغداد» يصدر قريبا بالألمانية عن دار اللسان في سويسرا، وديوان «قبل أن أموت» مترجم إلى العربية، و«لم يعد ينتظرني أحد هناك»، جميعها رفضت دور النشر العربية طباعتها، يقول الحمداني بهذا الصدد في سؤال «الشرق الأوسط» له: «أكتب بالفرنسية لأنه لا توجد دور عربية تنشر لي، مع الأسف أبحث ولا أجد».
سلط الشاعر والمسرحي العراقي صلاح الحمداني، الضوء للمرة الأخيرة (قد تكون) على المسألة العراقية وتخبطاتها، فكانت كدعوة مفتوحة لتأمل الوجع العراقي، عشية تضاعف مؤثراته الخارجية، كما يبدو اليوم في ظل تهافت واقتتال الجميع على أرض بابلية رحبة، لا في ظل الديكتاتورية البائدة فحسب.
لا فرق بين الاثنين من وجهة نظر صاحب «بغداد سماء مفتوحة» الذي أثث لحنين جديد لمكان لم يعد مطروحا، لمكان لم يعد تعرف ماهيته، بعد أن غيرته السياسة والحرب، والألم السياسي حرفة العراقي حقيقة، الألم الممتد إلى منتصف السبعينات تحديدا، حيث زمن الاستبداد البعثي الذي أتى على كل شي، ولا تنتهي المجزرة بعد سقوط الحكم، تلك معضلة يقع فيها المثقف العراقي، فالديكتاتورية في مرحلة ما سيطرت على مفاصل الحياة في بغداد والآن تسيطر الميليشيات، يقول «الحمداني» في إحدى قصائده:
ماذا حدث يا عراق؟
قبورك لها أشكال الأجنحة المحدبة
تدفع بها ريح الجثث..
ترتطم كلما يأتي المساء بنافذتي
تترك وشما من دم العيون يسيل
هذه كفي المطروحة تنبض مغرقة بالتاريخ
ها كفي، أعيد النظر، ألوح بالدم شرعا
للقوافل الراحلة من زنزانتي، أعيد النظر
وجهي صدر لذاك الرضيع الذي لا يكف عن العويل،
هناك، بمحاذاة القتلى المتهاوين سهوا
من دموع الله.
يطرح الحمداني في «وداعا يا جلادي» فكرة اليتم والاغتراب دون ديكتاتور، بما يشير إلى حالة العبث التي بدأ يعشيها الآن أكثر من أي وقت مضى، فماذا سيفعل بعد موت الديكتاتور، يقول: «أصبحنا أيتاما فعلا» ويسأل نفسه: «بعد رحيل البعث ماذا سيفعل بتاريخ نضاله الذي بقي يخضع لمنفى من نوع آخر، المنفى باق ويتمدد!، سؤال كاد أن يتحول إلى كابوس فأي مصير مجهول ينتظر العراقيون ومن يحاربون الآن؟.
يحب الفرنسيون الحمداني، كان تجربة مختلفة، جاء صغيرا مشردا فقيرا، رعته فرنسا وهو صان ودها كثيرا، كتب لها وعنها وترجم لهم العربية ليفهموا نفسية العربي الأكثر تعقيدا، فأي سبب يجعل الحمداني يبقى منفيا، ذهبت الأسباب وجاءت أخرى، الآخرون المجهولون يسميهم «الحمداني» في قصيدته، الرجل مجهول:
ذات يوم ستنتهي الحرب
ويعود المنفيون
ستكثر الحكايات
وتقام الولائم
سيكذب البعض
ويبالغ البعض الأخر
أما أنت
ستعلق ذاكرتك فوق مشجب الأيام
تسترق السمع
فيك العراق يحيا
وفيك العراق يموت
لا زائر يعرفك، لا مار، لا فصول
وحيد تتطلع فيك الوجوه.
و«بغداد» منحت الجميع ولم يمنحها أحد حبه سوى هؤلاء متعطشي الحريات اتكأوا يوما على المشروع الشيوعي الذي لمع قليلا في بلادهم، فخذلهم وأهدى الحالمين منفى طويلا، وكأن احتمالات سقوط الديكتاتوريات يبدو لا يعني إمكانية انتهاء المنفى الموجع، هذا واضحا في مجمل مسرحيات الشاعر.
هكذا يعنون الحمداني ديوانه قيد النشر «لا أحد ينتظرني هناك» بما يتزامن مع أحداث جسام من قبيل فقدان الموصل وكركوك مع تغيير ديمغرافي عميق يراه يطرأ هناك، عمل يفتح على قضية الأماكن التي لم تعد موجودة الآن على الأقل في مخيلة العراقي نفسه، فالمتطرفون يسطرون ذاكرة أخرى أكثر إيلاما ولدت شعورا جمعيا اشترك فيه العراقيون ليحولوه إلى ألم إبداعي، وكأنه الألم العبقري فعلا، وهو حال العراقي كاظم جهاد، وعالية ممدوح على سبيل المثال، عندها سيكون للمنفى معنى، ساعة ترديد كلمات نفهمها، وحين ينشد الجميع بلا دفوف وتهريج، لعراق جريح لم يستسلم للقتلة.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.