إيفان كركلا لـ«الشرق الأوسط»: تربيت في كواليس المسرح وبدأت بالعتالة

إيطاليا تقلده وساماً تتويجاً لعشرين عاماً من التعاون

المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين
المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين
TT

إيفان كركلا لـ«الشرق الأوسط»: تربيت في كواليس المسرح وبدأت بالعتالة

المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين
المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين

اليوم، تكرم إيطاليا المخرج اللبناني إيفان كركلا بوسامٍ مستحقٍ، تقديراً لتعاونه الوثيق مع فنانين إيطاليين طوال 20 سنة الذي كانت فاتحته مع المخرج الكبير فرانكو زيفيريلي.
إيفان، وبعد مسار وصل من خلاله إلى العالمية، وما يزيد على 15 مسرحية، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بهذه المناسبة، أقف -كما فرقة كركلا- على ناصية جديدة؛ هذا الوسام بمثابة شاهد على العلاقات الإبداعية بين لبنان وإيطاليا، ويزيدني إحساساً بالمسؤولية، ودفعاً لانطلاقة مختلفة، وللنحت في دروب لم أسر فيها بعد».
فكرة التكريم ولدت أيام السفير الإيطالي السابق لدى لبنان ماسيمو ماروتي، الذي كان يعرف متانة العلاقة بين «مسرح كركلا» والفنانين الإيطاليين. طرح الفكرة على دولته، وجاءت الموافقة من الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، لكن الجائحة أخرت كل شيء. اليوم، يقام في «مركز الإيفوار»، في بيروت، حفل صغير أذنت به لجنة كورونا، مشترطة اتخاذ الإجراءات كافة، تقلد خلاله السفيرة الإيطالية الحالية نيكوليتا بومبارديري، إيفان كركلا وسام «نجم إيطاليا»، حيث سيُعرض فيلم حول مسار الفرقة، ثم تقدم لوحة فنية إنعاشاً للقلوب التي اشتاقت إلى المسرح في زمن التباعد.

- سحر إيطاليا
قصة الحب بين إيفان، مخرج مسرحيات فرقة كركلا منذ أكثر من 26 عاماً، وإيطاليا بدأت عندما زار، مع والده المايسترو عبد الحليم كركلا، البندقية طفلاً، وأغرم بسحر المدينة العائمة. يقول: «من وقتها، تطورت علاقتي بالفن الإيطالي. العظمة لا تزال حاضرة في روما؛ يشعر الإنسان فيها أنه يعيش في العصر الروماني، فهي جسر النهضة. في دول كثيرة عريقة، لا نرى التاريخ منعكساً بقدر كبير على الحاضر، كما هو في إيطاليا. سرٌ ما يربط بين الإيطاليين والجمال، في الملبس واللغة والموسيقى والسينوغرافيا. كبار المخرجين في السينما والمسرح والأوبرا خرجوا من إيطاليا».
كانت فرصة ذهبية لإيفان تعارفه على فرانكو زيفيريلي في مهرجانات بعلبك وهو يحضر مسرحية «الأندلس: المجد الضائع»؛ دعاه الرجل لحضور افتتاح أوبرا «لابوهيم» في «تياترو سان كارلو» في نابولي. ذهب يومها إيفان وقرر البقاء، حيث قضى مع المخرج الإيطالي أربع سنوات، رافقه خلالها في أعماله حول العالم. يصف زيفيريلي بأنه «المخرج العبقري. كان بالنسبة لي مدرسة؛ مدرستي الأولى هي التي يعرفها كل الأطفال، والمدرسة الثانية هي عبد الحليم كركلا، أما الثالثة فهي زيفيريلي. مع عبد الحليم، تعلمت التراث والعلاقة بالأرض وثقافتنا، ومدرسة زيفيريلي هي المسرح العالمي. كنت محظوظاً بين هذين العملاقين، أحدهما من الشرق والآخر من الغرب. فقد جعلاني أحمل اسم كركلا، وأصل به إلى محطات جديدة عالمية».
من يومها والتعاون مع الإيطاليين لم ينقطع. يقول: «علاقتي بزيفيريلي فسحت لي المجال لأن أتعامل مع كل فريق عمله إلى اليوم؛ رحل الرجل وفريقه يتجدد. خلال عقدين، اشتغلت مع من هم في أعمار الثمانين، كما العشرين. وهذه أعدها شجرة ثقافية إبداعية أتشارك فيها مع إيطاليا، فهم فنانون يعملون مع كبريات المسارح، وعندهم إيمان رهيب بمسرح كركلا». التعاون دائم في مجال السينوغرافيا، والإضاءة، والسينوغرافيا الافتراضية، وطريقة بناء ديكورات المسرح، ونقلها خلال الجولات، والتطوير التقني».

- الطفولة البريطانية
انتقل إيفان كركلا منذ كان ابن ست سنوات ليلتحق بمدرسة «الليسيه الفرنسية» في لندن، ويكمل كل تعليمه المدرسي. ففي اليوم الأول لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 أبريل/ نيسان 1975)، كانت فرقة كركلا تقدم في «مسرح اليونيسكو» مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب». وفي حين كانت الفرقة تغادر في قافلة سيارات، تعرضت لإطلاق نار كثيف، وأصيبت أميرة ماجد، واحدة من أعضاء الفرقة، بشلل دائم، و«كانت أمي تقود إحدى السيارات، وأنا بجانبها، وفي المقعد الخلفي فتاتان، إحداهما بترت ساقها. أمي تركت المقود، ونامت فوقي لتحميني، واصطدمت السيارة بحائط أحد المباني. أخرجونا من بين الحطام. يومها، قرر والدي إرسالنا إلى بريطانيا لسنة واحدة، ثم أعادنا لشهور قليلة ظناً منه أن الوضع قد تحسن، لكن الأمر لم يكن كذلك، فعدنا وأنهيت كل دراستي هناك».
كان عبد الحليم كركلا حريصاً على أن يعود إيفان إلى لبنان في كل عطلة، حيث «يأخذني إلى بعلبك، ويصطحبني لزيارة البدو والجيران وأصدقاء جدي؛ لم يحرمنا من هويتنا العربية وتراثنا، وهو ما أفادني كثيراً في حياتي». ربما هذا ما جعل علاقة الابن باللغة العربية متينة؛ يقرأ المسرحيات، ويوافق عليها، وهو معجب بشاعر الفرقة الأثير طلال حيدر الذي يصفه بأنه «نافذة صوب رؤية اللغة العربية من خلال صور مسرحية».

- تربية في كواليس المسرح
إضافة إلى المشاركة في المسرحيات المدرسية في لندن، كان إيفان في العطلات يرافق الفرقة حيث تذهب، وفي أي بلد كانت، ويذكر أن «البداية كانت مع مسرحية (الخيام السود)؛ كنت أحضر المسرحية جالساً على المسرح وراء خيمة. أتابع كل العمل وأحفظه، وأبقى محبوساً لا أغادر قبل انتهاء العرض».
إيفان هو الآخر يصطحب ابنه الذي بلغ الخامسة إلى المسرح، حيث يشارك في التدريبات مع أعضاء الفرقة، ولا يغادر إلا بعد أن يقدم رقصة منفردة. ويقارن إيفان بينه وبين ابنه: «لا أعرف متى دخل في هذه الأجواء. ومن الصعب معرفة متى دخلت أنا إلى المسرح. تربيت في الكواليس، وبدأ والدي يسند إلى المهمات بالتدريج. في السابعة، كنت أحضر المسرحيات مختبئاً وراء خيمة، وفي التاسعة أعطاني علماً ودخلت أتحرك به على المسرح في مسرحية (أصداء). كنت مجرد كومبارس، أعمل في العتالة، أربط الصناديق، أنظف الأحذية، أمسح المسرح. كان ممنوعاً أن أقف مع الفرقة، حتى لو كنت ابن عبد الحليم كركلا. في الرابعة عشرة أديت رقصة صغيرة». وأول دور حقيقي لعبه إيفان كان في مسرحية «حلم ليلة شرق» عام 1992 وعمره 23 سنة.
يقول إيفان: «عرف والدي كيف يربيني في الكواليس من دون توجيه، إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه أنني سأكمل المسيرة في هذا المسرح»، مضيفاً: «حين كنت آخذ دروس الباليه في بريطانيا، أدركت أنني لن أكون راقصاً. علاقتي أكبر بتوجيه المسرحية، بالموسيقى والديكور والكلمة والشعر، وكيف يكون تسلسل المشاهد. أحسست أن طاقتي أهم في الكواليس، وأنني على المسرح لن أكون الأول؛ إحساس تطور بعد أن رافقت زيفيريلي، وجلت معه بكل أعماله». وقد درس إيفان في لوس أنجليس أربع سنوات الإخراج المسرحي، وماجستير لسنتين في الإخراج السينمائي، ثم عاد إلى لبنان ليبدأ مشواره مع فرقة كركلا بـمسرحية «حلم ليلة شرق»، وكان فيها ممثلاً أيضاً.

- التمثيل في السر
لا أحد يعلم أن إيفان يؤدي أدوراً تمثيلية في كل مسرحيات كركلا، فهذا أمر يبقى طي الكتمان؛ يقول إيفان: «أحب التمثيل كثيراً، أصعد إلى المسرح دون أن أُعلم أحداً. يتفاجأون بي. الفرقة باتت تعرف بالطبع، لكن بسبب الماكياج لا يعرفونني أحياناً، ينظرون إلي في أثناء العرض، ويتساءلون: من هذا؟».
ولا يفوت إيفان مسرحية من دون المشاركة فيها تمثيلاً، فذاك شغف لا يتنازل عنه، بالطبع لم نر اسمه بصفته ممثلاً على كاتالوغ مسرحية «زايد والحلم»، لكنه لعب دور زايد في بعض المشاهد، معتبراً أن المخرج أفضل من يمكن أن يؤدي لأنه يعرف المطلوب من الدور.
ويأسف إيفان لأن كثراً لا يقدرون كم الجهد المبذول خلف أعمال كركلا. مدير وعراب الفرقة ودينامو حركتها عبد الحليم كركلا يعمل ما لا يقل عن عشر ساعات في اليوم. لا يمر يوم دون أن يكون عبد الحليم وولداه إيفان واليسار (مصممة الرقص) في المسرح، والراقصون يتدربون. الفرقة لا ترتاح سوى الأحد. خلال الحجر، تواصلت التدريبات عبر «زووم»، بمعدل خمس ساعات يومياً؛ جسد الراقص إذا توقف يفقد ليونته. وأيام يفك الحجر، تجري فحوصات لكل الراقصين، ويعود الجميع إلى المسرح. يقول: «قررنا أن نعيش في فقاعة، كما كل الراقصين في العالم الذين يتعايشون فيما بينهم. نتدرب على أربعة أعمال في وقت واحد؛ يجب أن نبقي الذاكرة حية. دراسات كثيرة أجريت على فنانين حول العالم، وكيف أثرت عليهم العزلة، ونحن نأخذ الأمر بعين الاعتبار».
من الظلم انتقاد فرقة كركلا لأنها أدخلت الغناء إلى عروضها؛ إدخاله جاء نوعاً من التطور، فجمهور الرقص في العالم العربي محدود؛ شعوبنا تميل إلى الغناء. «في أميركا نقدم مسرحاً راقصاً»، يقول إيفان «لأن مزاج الجمهور يتقبل ذلك، في الصين الأمر مختلف. ثم كيف يمكن تقديم مسرحية (زايد والحلم) من دون كلام، أو (بليلة قمر) المقتبسة عن شكسبير، أو (جميل بثينة)؛ هذا كمن يتحدث عن المتنبي بالاستغناء عن شعره!».
يشعر إيفان بأن ثمة إجحافاً، فعبد الحليم كركلا أفسح مجالاً لتطور الرقص في العالم العربي. كثيرون ممن شكلوا فرقاً كانوا تلامذة في فرقة كركلا، وهو شجعهم على الاستقلالية، وهؤلاء من دول عربية عدة. فرقة كركلا بلغت العالمية بعد أن عرضت في بكين أكثر من مرة، وواشنطن ونيويورك وباريس ولندن، وغالبية عواصم الدنيا. كما يرى أن والده أعاد الاعتبار للرقص في العالم العربي، بعد أن قدم تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، وخاطب جماهير العالم بطريقة معاصرة، من دون أن يخسر هويته العربية. يقول: «إذا أردنا محاسبة كركلا، لنسأله ما الذي حققته وأنت تحمل راية لبنان والعالم العربي، لا أن نسأله لماذا أدخلت الغناء على المسرح الراقص؟ ثم إن كان غنائياً أو راقصاً، لنتذكر أن كركلا هي الفرقة العربية الوحيدة التي يعمل راقصوها الخمسون طوال العام من دون توقف. ولا تجمع راقصين ومطربين حين يكون عندها عمل تقدمه، ثم يذهب كل في حال سبيله؛ هؤلاء كالجيش على أهبة الاستعداد. وعلى هذا الجيش أن يبقى مدرباً حاضراً. ولا توجد مؤسسة عربية من هذا النوع عمرها 52 سنة. ومن يريد أن يحاسب كركلا، فعلى هذا يجب أن يحاسب».
وتحضر الفرقة لمسرحية جديدة عن (ملكة سبأ)، شارك في كتابة نصوصها الراحل أنسي الحاج وعبد الحليم كركلا وطلال حيدر. وسيصدر إيفان كتاباً بالعربية والإنجليزية، هو الأول الذي يحكي مسار الفرقة، عنوانه «كركلا في نصف قرن».
وتجاوزت الفرقة صعوبات كثيرة، فـ«كل الفرق التي نعمل معها مدعومة من دول أو مؤسسات؛ نحن كبرنا في هذه البقعة من الكرة الأرضية التي للأسف لا اهتمام فيها بالفن. لا نلوم أحداً لكننا مستمرون؛ وهو أمر ليس بالسهل». ولا ينكر إيفان فضل ملك الأردن الراحل حسين بن طلال على الفرقة، ولا دعم الإمارات وجهات أخرى، لكن الفرقة لم تتمتع يوماً بالاستقرار الذي يسمح بالعمل من دون أرق.
ومع ذلك، تحولت إلى مؤسسة لها راقصوها، ولها مدرسة كانت قبل الجائحة تدرب 1300 طالب، ولديها مستودعاتها وورشها وأرشيفها، ومبناها الخاص الذي شيده عبد الحليم كركلا في بيروت. لذلك «أنا على استعداد لسماع كل الانتقادات، لكن من يريد أن يفعل فليأخذ بعين الاعتبار ما بذلناه من جهد، وما حققناه من دون معونة منتظمة». ولم تتوقف الفرقة عن العرض خلال 15 سنة من الحرب الأهلية، ولم تتوقف أيضاً خلال الجائحة عن التدريبات. «كان سهلاً أن يقول عبد الحليم كركلا لأعضاء الفرقة: ليذهب كل إلى بيته، وبعد انقضاء الجائحة نلتقي من جديد، لكننا لم نفعل، ونتحمل مسؤولياتنا. لن نتوقف بعد 52 سنة، مع أن الوضع خطر، لكننا نواجه».
الحرب الأهلية اجتازها عبد الحليم كركلا، اليوم حرب أخرى يقود مواجهتها إيفان، بدعم من عبد الحليم واليسار، وبمساندة من أصدقاء الفرقة في العالم.


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)