المعلومات الجينية تحل ألغاز التاريخ البشري

التسلسل الجيني لبقايا الملك «ريتشارد الثالث» يفحص سمات شخصيته «الشريرة»

المعلومات الجينية تحل ألغاز التاريخ البشري
TT

المعلومات الجينية تحل ألغاز التاريخ البشري

المعلومات الجينية تحل ألغاز التاريخ البشري

شكلت جوانب الاختلاف في التنوع البشري في الأجناس والأعراق محور دراسات علم الأنثروبولوجيا البيولوجية (علم الإنسان الذي يختص بدراسة آليات التطور البيولوجي) منذ ظهوره في أوائل القرن العشرين. ولكن وفي الآونة الأخيرة بدأ استخدام المعلومات الجينية لمعالجة الأسئلة المتعلقة بطبيعة ونطاق التنوع البشري.

- علم الأنساب
ولدراسة هذه الجوانب المتعلقة بأجناس الأفراد وسلالات أجدادهم، تطور علم الأنساب الجيني كثيرا، وهو العلم الذي يطبق علم الوراثة على علم الأنساب. وهو يستند على تحليل الجينوم البشري لإثبات الأسلاف أو على الأقل تقدير احتمالات وجودهم، ووصف درجة القرابة بين الأفراد.
وبينما تقتصر مناهج الأنساب التقليدية على المعلومات المستخرجة من الوثائق الرسمية ما يؤدي غالبا اصطدامها بعقبات بالغة عند تتبع شجرة عائلة الشخص بسبب نقص المعلومات المتاحة، فإن علم الأنساب الجيني يتضمن دراسة الحامض النووي، ولذا فإن نتائج الاختبار يمكن أن تخترق جدار الأنساب هذا وتتبع تاريخ العائلة في الماضي.
ونظرًا لأن الحامض النووي للميتوكوندريا (mtDNA) يحتوي على 10 - 100 ألف نسخة لكل خلية وله بنية بسيطة مقارنة بالحامض النووي الكروموسومي في نواة الخلية، فقد تم تفضيله للتحليل منخفض التكلفة. وبالإضافة إلى ذلك يمكن إعادة بناء خط الأم من الحامض النووي في الميتوكوندريا، إذ في كثير من الأحيان لا يزال هو المصدر الوحيد للمعلومات الجينية بسبب تدهور علامات الحامض النووي في نواة الخلية.

- لغز مقتل الأمراء
يعتقد خبراء الأنثروبولوجيا أن الملك ريتشارد الثالث قتل على الأرجح أولاد أخيه عندما كانوا مجرد أطفال حيث كان الأمراء أبناء الملك إدوارد الرابع وعندما توفي والدهم قام عمهم الملك ريتشارد الثالث بحبسهم في برج لندن بينما كان يقوم بدور الوصي على العرش. وقد أدى اختفاؤهم والاعتقاد بقتلهم عام 1483 إلى لغز «الأمراء في البرج» الذي ظل قائماً منذ فترة طويلة، وهو أكبر قضية ظلت عسيرة على الحل في التاريخ الإنجليزي والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. ويعتقد الكثيرون أن ريتشارد الثالث قتل إدوارد البالغ 12 عامًا وريتشارد البالغ 9 أعوام من أجل تولي العرش لنفسه وقد أصبح أحد أكثر الملوك إثارة للجدل في التاريخ الإنجليزي ومع ذلك لطالما ناقش الخبراء الأدلة التي تدعم هذه النظرية.
وفي فبراير (شباط) 2021 نشر البروفسور تيم ثورنتون أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة هيدرسفيلد بالمملكة المتحدة دراسة نشرت في مجلة Journal of Historic Association (History) The ادعى أنها يمكن أن تثبت أن «الأمراء في البرج» قتلوا بالفعل على يد الملك ريتشارد الثالث وفي ذات السياق قام العلماء في قسم علم الوراثة بجامعة ليستر البريطانية بوضع تسلسل الجينوم الكامل لآخر ملك بلانتاجنيت Plantagenet King (ملوك بين عام 1216 و1483 والتي سيطرت عليها عوائل يورك ولانكستر). وتقود الفريق البروفسورة توري كينغ من قسم علم الوراثة وبيولوجيا الجينوم بجامعة ليستر البريطانية التي قامت في عام 2013 بمطابقة الحامض النووي من العظام المكتشفة تحت موقف للسيارات في ليستر مع أقارب الملك الأحياء - مما يؤكد أن البقايا تخص الملك.

- سمات الشخصية
إلى جانب تقديم رؤى جديدة حول صحته ومظهره يقوم العلماء أيضا بفحص الارتباطات المحتملة للجينات ذات السمات الشخصية بما في ذلك اضطراب الشخصية والنرجسية والميل إلى ارتكاب العنف. وتقول البروفسورة كينغ في تصريحات نشرها الإعلام البريطاني عن جينوم ريتشارد، إن التحليل يمكن أن يساعد أيضًا في الكشف عن انحناء العمود الفقري لريتشارد الذي شوهد في هيكله العظمي وهو ما حدا شكسبير بأن يقول عنه على أنه أحدب. لكن كينغ قالت إن أي تحليل يسلط الضوء على شخصية ريتشارد كان مجالًا من علم الوراثة لا يزال «غامضًا للغاية»، وقالت إن التطورات لن تثبت أبدًا ما إذا كان ريتشارد «شريرا» لأن عوامل مثل تربيته وخبراته سيكون لها أيضًا تأثير كبير على الشخصية.
وكان قد تم العثور على رفات ريتشارد في عام 2012 من قبل خبراء استخدموا الخرائط التاريخية لتتبع أحد الرهبان حيث تردد أنه دفن بعد أن قتل في معركة. وبعد ثلاثة أسابيع فقط من الحفر في الموقع الذي أصبح موقف سيارات في ليستر عثر علماء الآثار على هيكل عظمي لرجل بالغ كانت بها إصابات تتفق مع وفاته المسجلة في معركة بوسورث فيلد Bosworth Field في عام 1485 كما وجد الهيكل العظمي مصابًا بالتقوس الشديد في العمود الفقري وتم التأكد من أن بقايا ليستر هي لريتشارد في عام 2013 بعد استخراج الحامض النووي ومطابقته مع اثنين من أقارب الملك من الأمهات.
وفي ضوء ذلك الاكتشاف الأخير تحدثت توري كينغ عن مشاركتها في مشروع البحث الذي اكتشف ملك إنجلترا الأخير في المقابلة الحصرية مع The Post Hole في جامعة يورك البريطانية عن تسلسل الحامض النووي لريتشارد الثالث التي تضمنت طريقة استخدام الحامض النووي الخاص به وكذلك الحامض النووي الحديث أولا والمعروف بأنه يتحدر من سلاله أنثوية مستقيمة لأخت ريتشارد الكبرى. وكان لا بد من التحقق من شجرة الأنساب بشكل مستقل وفعلا تم العثور على قريب آخر من سلالة الإناث وافق على المشاركة وفي ذلك يجب أن يتطابق الحامض النووي للميتوكوندريا لكل من هؤلاء الأقارب الحديثين لأنهم مرتبطون من خلال الخط الأنثوي. وإذا كان علم الأنساب صحيحًا فيجب أن يتطابق الحامض النووي أيضًا مع البقايا وهذا ما حدث بشكل أساسي كما تقول كينغ.


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»
TT

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»

توصَّل باحثون في «مركز علوم الحياة بجامعة» فيلنيوس في ليتوانيا، إلى اكتشاف طريقة جديدة رائدة في مجال البحث الجيني تسمح بإسكات (أو إيقاف عمل) جينات معينة دون إجراء قطع دائم للحمض النووي (دي إن إيه).

وتُقدِّم الدراسة مساراً جديداً محتملاً لتعديل الجينات بشكل أكثر أماناً يشبه الضغط على زر «إيقاف مؤقت» على التعليمات الجينية داخل الخلايا.

آلية عمل نظام «كريسبر» الجديد

اكتشف فريق البروفسور باتريك باوش من معهد الشراكة لتقنيات تحرير الجينوم بمركز العلوم الحياتية في جامعة فيلنيوس بليتوانيا، بالتعاون مع خبراء دوليين في البحث المنشور في مجلة «Nature Communications» في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، نظاماً جديداً مختلفاً للتعديل الجيني.

وعلى عكس نظام «كريسبر كاس9 (CRISPR-Cas9)»، المعروف الذي اشتهر بقدرته على قطع الحمض النووي (DNA)، يعمل نظام «كريسبر» من النوع «آي في إيه» (IV-A CRISPR) بشكل مختلف، حيث يستخدم مركباً موجهاً بالحمض النووي الريبي لإسكات الجينات دون انشقاق خيوط الحمض النووي «دي إن إيه (DNA)».

كما يستخدم النظام الجديد مركباً مؤثراً يجنِّد إنزيماً يُعرف باسم «دين جي (DinG)». ويعمل هذا الإنزيم عن طريق التحرك على طول خيط الحمض النووي (DNA)، وتسهيل إسكات الجينات من خلال عملية غير جراحية.

تقنية «كريسبر-كاس9» للقص الجيني

هي أداة تعمل كمقص جزيئي لقص تسلسلات معينة من الحمض النووي (دي إن إيه). وتستخدم الحمض النووي الريبي الموجه للعثور على الحمض النووي المستهدف. و«كاس9» هو البروتين الذي يقوم بالقص، وهذا ما يسمح للعلماء بتعديل الجينات عن طريق إضافة أو إزالة أو تغيير أجزاء من الحمض النووي، وهو ما قد يساعد على علاج الأمراض الوراثية، وتعزيز الأبحاث.

** آفاق جديدة لتعديل الجينات بشكل أكثر أماناً وغير جراحي

بروتينات وحلقات

يستخدم نظام «كريسبر» من النوع «IV-A» بروتينين مهمين، هما «Cas8»، و«Cas5» للعثور على بقع محددة على الحمض النووي (DNA). ويبحث هذان البروتينان عن تسلسل قصير من الحمض النووي بجوار المنطقة المستهدفة التي تتطابق مع دليل الحمض النووي الريبي. وبمجرد العثور عليه يبدآن في فك الحمض النووي وإنشاء هياكل تسمى حلقات «آر (R)».

وحلقات «آر» هي الأماكن التي يلتصق فيها الحمض النووي الريبي بخيط واحد من الحمض النووي (DNA)، وتعمل بوصفها إشارةً للنظام لبدء إيقاف أو إسكات الجين.

وكما أوضح البروفسور باوش، فإن «آر» في حلقة «R» تعني الحمض النووي الريبي. وهذه الهياكل أساسية لأنها تخبر النظام متى وأين يبدأ العمل. ولكي تكون حلقات «آر» مستقرةً وفعالةً يجب أن يتطابق الحمض النووي، ودليل الحمض النووي الريبي بشكل صحيح.

وظيفة إنزيم «دين جي»

يساعد إنزيم «DinG» نظام «كريسبر» على العمل بشكل أفضل من خلال فك خيوط الحمض النووي (DNA). وهذا يجعل من الأسهل على النظام التأثير على قسم أكبر من هذا الحمض النووي، ما يجعل عملية إسكات الجينات أكثر فعالية وتستمر لفترة أطول.

وأشار البروفسور باوش إلى أنه نظراً لأن إنزيم «DinG» يمكنه تغيير كيفية التعبير عن الجينات دون قطع الحمض النووي، فقد يؤدي ذلك إلى تطوير أدوات وراثية أكثر أماناً في المستقبل.

تطبيقات محتملة لتخفيف تلف الحمض النووي

يحمل الاكتشاف إمكانات هائلة لتحرير الجينوم والبحث في المستقبل، إذ يمكن أن تخفف الطبيعة غير القاطعة لهذه الطريقة من المخاطر المرتبطة بتلف الحمض النووي( DNA). وهو مصدر قلق عند توظيف تقنيات تحرير الجينات الحالية.

ومن خلال تمكين تعديل الجينات دون إحداث تغييرات دائمة في الحمض النووي( DNA) يمكن أن يكون هذا النهج الجديد مفيداً بشكل خاص في التطبيقات السريرية مثل العلاج الجيني للاضطرابات الوراثية. كما أن القدرة الفريدة لهذا النظام على عبور الحمض النووي دون إجراء قطع، أمر مثير للاهتمام لتطبيقات تحرير الجينات المتقدمة.

الدقة والسلامة

ويعتقد فريق البحث بأن هذه الطريقة يمكن أن تزوِّد العلماء وخبراء التكنولوجيا الحيوية بأدوات أكثر دقة لدراسة وظائف الجينات وتصحيح التشوهات الجينية بطريقة خاضعة للرقابة.

ويمثل الاكتشاف تقدماً كبيراً في مجال البحث الجيني؛ حيث يفتح نظام «كريسبر» من النوع «IV-A» آفاقاً جديدة لتعديل الجينات بشكل أكثر أماناً وغير جراحي، ويمكن أن تحدث هذه الطريقة ثورةً في كيفية دراسة الأمراض الوراثية وعلاجها، مع التركيز على الدقة والسلامة.