إنعام محمد علي: عصر المخرج والمؤلف تراجع لصالح الممثل

قالت لـ «الشرق الأوسط» إن الجمهور لم يتشبع بأعمال السير الذاتية

المخرجة إنعام محمد علي (الشرق الأوسط)
المخرجة إنعام محمد علي (الشرق الأوسط)
TT

إنعام محمد علي: عصر المخرج والمؤلف تراجع لصالح الممثل

المخرجة إنعام محمد علي (الشرق الأوسط)
المخرجة إنعام محمد علي (الشرق الأوسط)

قالت المخرجة المصرية، إنعام محمد علي، إنها تتطلع لتقديم دراما اجتماعية جديدة على غرار الأعمال التي قدمتها خلال السنوات الماضية، على غرار «المستحيل، قصة الأمس، الحب وأشياء أخرى»، مؤكدة في حوارها مع «الشرق الأوسط» أنها حصلت عام 1973 على درجة الماجستير من كلية الإعلام حول «الدراما التلفزيونية ودورها في التطوير الاجتماعي»، وهذه الرسالة هي التي قادتها لاختيار قضايا تمس الناس.
وبدأت إنعام مسيرتها في التلفزيون المصري، وقدمت عدداً كبيراً من المسلسلات الناجحة ومنها دراما السير الذاتية بدءا من «أم كلثوم» الذي حقق نجاحا عربيا لافتاً، و«قاسم أمين»، و«مشرفة رجل لهذا الزمان»، كما قدمت أعمالاً سينمائية وطنية من أهمها فيلم «الطريق إلى إيلات»، وتعد إنعام إحدى رائدات الإخراج الدرامي، وعرفت بدقتها الشديدة في عملها، كما أخرجت خمسة أفلام هي «صائد الأحلام، آسفة أرفض الطلاق، الطريق إلى إيلات، حكايات الغريب، يوميات امرأة عصرية»، وتوجت مشوارها بعدد كبير من الجوائز المصرية والعربية، كما نالت جائزة الدولة التقديرية عام 2003.
مسيرة التنوير
منذ عشر سنوات كانت تستعد إنعام لتصوير مسلسل «طلعت حرب» عن سيرة رائد الاقتصاد المصري، لكن العمل تعثر رغم تحمسها الكبير له، وعن مصير هذا العمل تقول: «قبل ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 كلفت مدينة الإنتاج الإعلامي المؤلف محمد السيد عيد، بكتابة المسلسل، وتمت مراجعته تاريخيا وإجازته، وبدأنا في التحضير له، لكن حدث تعثر في إنتاجه، فأخذه المؤلف لشركة (صوت القاهرة) على أمل إنتاجه، لكن توقفت عن الإنتاج أيضا بعد الثورة، ولم يغادر الأدراج من وقتها، وقد تعلل البعض بأن أعمال السير الذاتية لم تعد مطلوبة، وأن الناس قد تشبعت منها، وهذا غير صحيح، فالسير الذاتية تعطي دروسا للناس في كل مكان وزمان، وهذا العمل لا يزال يحتفظ بعوامل جاذبه، فنحن لا نقدم سيرة جافة، ومن الطبيعي أن يحمل العمل الدرامي متعة للمشاهد وإلا فما وصلت رسالته للناس كما نريدها، ومثلما قدمت سيرة قاسم أمين والعالم دكتور مصطفى مشرفة، في قالب فني شديد الثراء، فنحن نقدم فترة تاريخية بكل أحداثها الاجتماعية والسياسية وشخوصها، وأرى أننا في حاجة لتقديم سيرة شخصية مثل طلعت حرب كنموذج للرأسمالي الوطني كما يجب أن يكون، فهو صاحب رؤية ومشروع وجزء من مسيرة التنوير.
أم كلثوم
وكان مسلسل أم كلثوم الذي أخرجته وعرض للمرة الأولى عام 2000، قد حقق نجاحاً عربياً غير مسبوق مثلما حققته صاحبة السيرة «كوكب الشرق»، وعن هذا العمل تقول المخرجة الكبيرة «مسلسل (أم كلثوم) أحيا السير الذاتية، وحقق نجاحا لم يتحقق لعمل قبله، رغم أن الجمهور لم يتوقع أن نقدمها على الشاشة مثلما هي حاضرة في ذهن محبيها في جميع الدول العربية، وحينما أعلنت عن اختيار صابرين لأداء شخصيتها حدث للبعض إحباط شديد، وفقدوا الأمل في المسلسل، فلم يتصور أحد ولا هي نفسها أن تؤدي هذه الشخصية وتنجح فيها لكنني كنت على ثقة أنني اخترت ممثلة قوية أدرك إمكاناتها، ومع عرض الحلقات اقتنعوا بأن صابرين هي أم كلثوم، وكذلك كل اختيارات نجوم عصرها كان مفاجأة للجميع، وأذكر أن زوجة أحمد رامي، قالت لي كأنني أرى زوجي على الشاشة، واتصلت بي السيدة نهلة القدسي أرملة الموسيقار محمد عبد الوهاب عقب عرض أغنية (أنت عمري) ضمن أحداث المسلسل، وسألتني هل حضرت هذا الحفل؟ فقلت لها لم أحضر أي حفل لأم كلثوم ولم ألتق بها، فقالت: لا أصدق فأنا أشاهد ما حدث بالضبط، وأشعر أن عبد الوهاب هو من يتحدث، فقد اخترت الشخصيات التي أراها ملائمة شكلاً ومضموناً وكنت أعطي الممثل السيناريو ومعه معلومات كاملة عن الشخصية بكل ما كتب عنها وصورها الشخصية وفيديوهات لها، وهذا جهد كبير قمت به قبل التصوير، فجمعت نحو 1500 صورة لأم كلثوم في مراحلها المختلفة، وكذلك صورا لكل الشخصيات الأخرى، فقد كنت أشعر أنني بصدد تحد كبير.
وعن تفسيرها لعدم نجاح بعض مسلسلات السير الذاتية، تقول إنعام: «هذه النوعية من المسلسلات لا يستطيع أي كاتب أو مخرج التصدي لها، فهناك جهد كبير يجب أن يتم قبل التصوير يفوق كثيراً الجهد أثناء التصوير، وقد تعاملت مع مسلسلات السير الذاتية كما لو كنت أقوم بإعداد رسالة علمية، فأجمع بيانات ومعلومات موثقة، ثم أضعها في شكلها المرئي الممتع للمشاهد».
نهايات جديدة
ورغم تعامل إنعام مع كبار المؤلفين أمثال أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن، فقد كانت إضافاتها كمخرجة على سيناريوهات أعمالها تتم بشكل دائم، لكنها تقول في تحفظ: «لا أريد التحدث عن مطبخ العمل لأن النجاح في النهاية مكسب لي وللمؤلف ولفريق العمل كله، وفي رأيي أن المخرج لا بد أن يضع بصمته على العمل، ويكون لديه قدرة على كتابة السيناريو، وكنت أضع لمساتي على كل السيناريوهات التي أخرجها، وكتبت نهايات أغلب أعمالي بنفسي، وكان هناك موقفا طيبا من الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة في مسلسل (الحب وأشياء أخرى) فقد وضعت له نهاية مختلفة، وكنا في حفل تكريم فتحدث أحد الحضور مشيداً بمشهد النهاية الذي يوحي بإمكانية أن يعود البطلين لحبهما، فقال أسامة هذه ليست النهاية التي كتبتها، بل كتبتها المخرجة، لكنني رفعت لها القبعة، وكذلك نهاية مسلسل (ضمير أبلة حكمت) فقد جعل البطلة تعود لبيتها لتكتب مذكراتها، لكنني أعدتها لقضية التعليم لتتساءل في المشهد الأخير: (هل هي أزمة أبنية أم أزمة مدرس أم الاثنين معا، وقمت بتحويلها لقضية عامة) ولم أفاجئ عكاشة بها، بل جعلته يشاهدها أثناء المونتاج، فطار فرحا بها، فقد كان بيننا ثقة كبيرة في العمل».
الطريق إلى إيلات
كان وجود اسم إنعام محمد علي كمخرجة للفيلم الحربي «الطريق إلى إيلات مفاجأة كبيرة لأنه يتناول واحدة من أهم المعارك البحرية: (تلقيت اتصالاً من ممدوح الليثي، رئيس قطاع الإنتاج وقال سأرسل لك سيناريو لقراءته، وفوجئت بأنه فيلم حربي فسألته هل أرسلته بالخطأ؟ فقال لا أنت التي ستخرجينه، قلت ليس لدي ثقة في قدرتي على إخراجه، لكنه تمسك بي، فطلبت الذهاب لأماكن التصوير، ولقاء أبطال العملية، كان عملا شاقا وصعبا بالنسبة لي، وكنا نصور مشاهد الغطس في الشتاء، وأماكن التجهيز صيفا في الصحراء، وقبل عرض الفيلم بأسبوع جاء لمشاهدة الفيلم عدد من كبار قادة الجيش من مختلف الأفرع، وكانت دقات قلبي تخرق أذني، ومع مشهد النهاية صفقوا طويلاً، وقالوا الفيلم ليس به غلطة واحدة، وكنا في قلق لأن المخرجة امرأة، وكنت أتفهم مخاوفهم؛ فأنا نفسي لم أكن أثق من قدرتي على إخراج هذا العمل لولا أن ممدوح الليثي دفعني إليه دفعا، وكان الفيلم سيعرض سينمائيا، وتم حجز دور العرض له ثم صدر قرار بعرضه تلفزيونيا في مصر وست دول عربية في وقت واحد في ذكرى توقيع معاهدة حظر الأسلحة النووية التي وقعت عليها مصر ودول عربية، بينما رفضت إسرائيل، وجاء قرار عرضه كما لو كان رسالة موجهة لإسرائيل، وقد كان أول فيلم يتضمن عملية حربية من البداية للنهاية».
مكانة المخرج
وتؤكد إنعام تطلعها لإخراج مسلسلات اجتماعية تعتمد على المشاعر، فهي تجيد قيادة الممثل وإخراج أفضل ما عنده، وكما تؤكد: «تنفيذ هذه الأعمال غير مجهد بدنيا، لكن جهدها في التفكير، والمشكلة أن المجال كله أصبح مجهدا، والظروف الإنتاجية تغيرت تماماً، ولم يعد به عزيز وغال بعدما أصبح المنتج والممثل يقودان العملية الفنية».
وتعقد المخرجة الكبيرة مقارنة بين مكانة المخرج والمؤلف في سنوات سابقة وما حدث في السنوات الأخيرة: «قبل بدء تصوير مسلسل (ضمير أبلة حكمت) رفض المؤلف أسامة أنور عكاشة إجراء تعديلات طلبتها فاتن حمامة، وهددت بالانسحاب، كانت بالقطع متخوفة من تجربة العمل بالتلفزيون بعدما حققت مسيرة سينمائية مهمة على مدى خمسين عاما، وكان هذا المسلسل باكورة أعمال قطاع الإنتاج عام 1990، كان ذلك خلال بناء الديكورات، فاجتمع ممدوح الليثي بنا، وقال: (أسامة سيعمل كل ما تريدينه)، فرد أسامة: (بل سأعمل ما تطلبه مني المخرجة)، وحدث أن وقع خلاف بيني وبين فاتن بسبب اعتراضها على إعادة تصوير أحد المشاهد، فجاء ممدوح الليثي محتداً، قلت له: (أنا مستعدة أن أترك المسلسل، وعليك إحضار المخرج الذي تراه)، فقال: (لا ليس لدينا مخرجون يتركون مسلسلات)، وانتهى الموقف ولم تعلق فاتن، وواصلنا التصوير، هذا يعكس قوة المؤلف والمخرج، الآن تراجع دورهما، ولو وقع خلاف بين المخرج والممثل، فسيختار الممثل مخرجاً آخراً، والمنتج سيستجيب لأن الممثل هو الذي سيجلب الإعلانات التي أصبحت أكثر أهمية من الدراما.


مقالات ذات صلة

ماغي سميث سيدة الأداء الساخر

يوميات الشرق ماغي سميث في لقطة من عام 2016 (أ.ف.ب)

ماغي سميث سيدة الأداء الساخر

بأداء عملاق وخفة ظل وسخرية حادة تربعت الممثلة البريطانية ماغي سميث على قلوب معجبيها، كما جمعت بين الجوائز وبين حب الجمهور.

عبير مشخص (لندن)
يوميات الشرق داليا تشدّد على أنها لن تطلب العمل من أحد (الشرق الأوسط)

داليا البحيري لـ«الشرق الأوسط»: لن أطرق باب أحد من أجل العمل

قالت الفنانة المصرية داليا البحيري إن التكريم الذي يحظى به الفنان يكون له وقع رائع على معنوياته إذ يُشعره بأنه يسير في الطريق الصحيح.

انتصار دردير (سلا (المغرب))
يوميات الشرق الفنان المصري محمود حميدة (صفحته على «فيسبوك»)

«الجونة السينمائي» يكرّم محمود حميدة بجائزة الإنجاز الإبداعي

أعلن مهرجان «الجونة السينمائي» في مصر عن تكريم الفنان محمود حميدة بمنحه جائزة الإنجاز الإبداعي في الدورة السابعة من المهرجان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
سينما «الرحلة 404» اشتراك مصري لهاني خليفة (فيلم كلينيك)

سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي بدأ عربياً وأجنبياً

لم تتقدّم بعد أي دولة عربية بفيلم لها في غمار سباق أوسكار «أفضل فيلم عالمي» (أفضل فيلم أجنبي)، وسيكون من الملاحظ أن الزحام الذي حدث في العام الماضي

سينما «خط أخضر» (ماد سوليوشن)

شاشة الناقد: حروب أهلية

خط أخضر - عودة إلى الحرب اللبنانية في فيلم تسجيلي بتوقيع سيلڤي باليو (لبنان، قطر، فرنسا - 2024).

محمد رُضا (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)