مجموعة حُليّ مستوحاة من الحضارة الفرعونية في «عيد الأم»

المصممة هاجر نبيل وظّفت الموتيفات التراثية في أحدث أعمالها

TT

مجموعة حُليّ مستوحاة من الحضارة الفرعونية في «عيد الأم»

ترتبط صناعة الحُليّ دوماً بالتجديد والقدرة على إبداع تصاميم مبتكرة غير مسبوقة، ورغم ذلك يبرع كثير من المصممين حول العالم في تقديم قطع فنية مسكونة بالثقافة والفن والحضارة، ومغلفة بصناعة دقيقة ولمسات معاصرة تتسم بجرأة التصميم وإتقان التشكيل، ومسايرة أحدث الاتجاهات، حتى أضحت أعمالهم علامات بارزة، لكل منها روحها وطابعها الخاص في عالم الموضة والأناقة، وفي مصر برزت أسماء حققت نجاحات مميزة في هذا المجال على المستويين المحلي والعالمي، ومنهم الفنانة هاجر نبيل التي أطلقت مجموعتها الجديدة لربيع وصيف 2021 استلهاماً من الحضارة الفرعونية والفلكلور الشعبي في الجنوب.
يتميز الحُليّ في مجموعتها الجديدة بأنه مُحمل بموتيفات الحضارة المصرية شكلاً ومضموناً، بحيث تروي أسرارها وتفك شفرة حقائق لا يعرفها الكثيرون عن هذه الحضارة. تقول هاجر نبيل لـ«الشرق الأوسط»: «لقد أصبح هناك ولع في عالم الموضة بالتراث، ولا سيما ما يتعلق بالحضارة المصرية القديمة، وقد رأينا كيف أصبحت دور الأزياء العالمية تستلهم تصاميم منها مثل (شانيل) و(جيفنشي)».
وتضيف: «رأيت أن أنهل من إرثنا، وأوظف الموتيفات بحيث لا تكون مجرد وحدات زخرفية تكسب الشكل الذي تحتويه قدراً من الجمال، إنما تأـتي كرموز مُحمّلة بمعانٍ ودلالات، ما يُكسبها عمقاً وثراءً؛ ذلك أن المصري القديم عندما كان يستخدم وحداته فإنه كان يوظّفها كرمز موحٍ ونص يُقرأ، والدليل على ذلك أن التمثال أو الجدارية نفسها ليست مجرد رسوماً، إنما هي تلاقٍ لمعان فلسفية ودينية ونفسية وتاريخية في آن واحد».
إلى ذلك لا شيء يأتي صدفة أو بلا مرجعية علمية في مجوهراتها؛ فكل عنصر ألوان يستقر في مكانه الصحيح حاملاً مدلولاً أو حقيقة ما، حسب نبيل التي تقول: «لأن شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها في التاريخ المصري لم تكن مجرد دراسة لقطع أثرية، إنما تناولت العقيدة التي أخرجتها، فإن الرمز عندي يأتي مختلفاً في دلالته ما بين قطعة حُليّ وأخرى، فإحدى عيني حورس التي ترمز إلى الشمس مثلاً تشير إلى كل ما هو روحي ومطلق، والأخرى ترمز إلى القمر. وتشير إلى كل ما هو مادي ومتغير، ولذلك فإنني حين وضعت العين التي ترمز للشمس في دبوس لبدلة الرجل مع الأهرامات، جعلته ذهبي اللون في إشارة للشمس التي تحميها، في حين عندما جسدته بجوار شكل هندسي جعلته باللون الفضي؛ باعتبار أنه يحمل شيئاً مادياً وفانياً».
وهكذا حين صممت الفنانة أعمالاً أخرى، ففي عمل يرمز إلى جنوب مصر قامت بوضع زهرة اللوتس بجوار المثلثات التي ترمز إلى ماء النيل، لأن اللوتس كانت تنمو في الجنوب، بينما حين وضعت تصميماً لشمال مصر فقد وضعت البردي لأنه ينمو في الشمال. الأمر نفسه بالنسبة للأحجار الكريمة التي تأخذ مكانتها التي تليق بها في مجموعتها الجديدة، فهي تجسد بوابة رائعة إلى عالم الحظ السعيد والسكينة والخصوبة، وهي تبدو كتميمة ثمينة. بدءاً من الفيروز الذي يستهوي المصريين، لأنه يرمز لماء النيل، ومروراً بالعقيق الأحمر لارتباطه بعقود الزواج، والأونكس الأسود رمزاً لمصر الخصبة.
وللمرأة العاشقة للتصاميم الغريبة وغير التقليدية تقدم الفنانة مجموعة من أطرف القطع، فهي مستوحاة من شهور السنة المصرية، والتي يتم تجسيدها في الحُليّ لأول مرة، وقد صُممت لتساعد المرأة في التعبير عن تقلب مشاعرها من حزن وفرح وحب وحنان وصنع الذكريات باختلاف الشهور والمواسم، على سبيل المثال تجسد إحداها شهر «أمشير» المعروف أنه شهر العواصف، فالقطعة تعبّر عن شكل الرياح والصخب، وهو ما يجتذب الأنثى الجريئة، وهكذا.
وتأثراً بإدراجه مؤخراً على قائمة (يونيسكو) للتراث الثقافي غير المادي، تقدم قطعاً مستوحاة من النسيج اليدوي في مصر، إذ تتخذ هذه القطع مكانتها الصحيحة في قلب تصاميم أحدث مجموعاتها للحُليّ لعام 2021 لتكشف عن روعته لا سيما نسيج التلي الذي تعده بوتقة للحضارات المصرية، ومن هنا حوّلته إلى الزينة الأولى التي يمكن للمرأة أن تجمّل به العنق أو معصم اليد أو الإصبع، في توليفة جذابة تعكس به ولع مَن ترتديه بالتراث. تقول هاجر: «أكثر ما يميز نسيج التلي أن الموتيفات الموجودة فيه مستقاة من كل شيء يتعلق بالبيئة والتاريخ معاً، إذ يتضمن وحدات من مصر الفرعونية مثل تيجان الأعمدة وقرص الشمس، ومن الفن القبطي كأصيص النبات وشجرة الحياة، ومن الطبيعة كمياه النيل، ومن التراث الإسلامي كالجمل والمحمل والزخارف الهندسية، وحتى الفلكلور الشعبي لم يخلُ منه مثل رسوم لأشكال البسكويت ويوم العرس».
تدعو التصاميم المرأة إلى التجدد والظهور بإطلالات جديدة لا تجعلها تشعر بالرتابة ما بين تصاميم بسيطة وعصرية وقطع فاخرة، أو مطعّمة بالأحجار ذات الألوان القوية التي تُكسب المرأة الثقة بالنفس، أو أحجار ذات ألوان ناعمة تمنحها الأنوثة والدلال، أو تصاميم مَلكية تجعل المرأة تتحسس التاج فوق رأسها ويمكن اعتمادها في المناسبات، كما أنها مناسبة للعروس بفضل تصاميم أخرى تتسم بالعذوبة والبهجة، لا يقل أهميةً عن ذلك أن مجموعتها الجديدة تضم قطعاً ترسّخ الإحساس بالحب والحنان والسعادة، عبر أيقونات مصرية رمزية قامت بإعادة صياغتها لا سيما أنها تنطلق مع عيد الأم وأعياد الربيع إضافةً إلى ميلاد قطع توثق لمفردات بيئية بعضها اندثر بهدف التوثيق، مثل القطع المستلهمة من طيور «مقابر بني حسن» في الدولة الوسطى.


مقالات ذات صلة

الوجبة الأخيرة القاتلة: أسرار حياة ونفوق تمساح مصري محنّط

يوميات الشرق المومياء تعود إلى فترة تتراوح بين 2000 و3000 سنة حينما كان تحنيط الحيوانات في مصر القديمة في ذروته (جامعة مانشستر)

الوجبة الأخيرة القاتلة: أسرار حياة ونفوق تمساح مصري محنّط

كشف الباحثون، أخيراً، رؤى جديدة ومثيرة حول حياة ونفوق تمساح مصري قديم محنّط، مسلطين الضوء على وجبته الأخيرة وتفاصيل أخرى مذهلة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا إحدى القطع الأثرية التي عرضت بمزادات خارجية (الدكتور عبد الرحيم ريحان)

مصر: تحرك برلماني لمواجهة بيع الآثار «أونلاين»

عادت قضية الاتجار في الآثار المصرية إلى الواجهة من جديد، بعد تحرك برلماني لمواجهة بيع الآثار «أونلاين» عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

محمد الكفراوي (القاهرة )
سفر وسياحة تلسكوب برج القاهرة يمنحك رؤية بانورامية للقاهرة (الهيئة العامة للاستعلامات)

من أعلى نقطة... إطلالات بانورامية على القاهرة

تتمتع القاهرة بمزيج فريد من التاريخ العريق والحياة العصرية النابضة، ما يجذب إليها ملايين الزوار من حول العالم، الذين يبحثون ويفتشون عن سحرها كل من منظوره الخاص.

محمد عجم (القاهرة )
يوميات الشرق يقول أحد العلماء إنه حل لغز «لعنة توت عنخ آمون» بعد أكثر من 100 عام (رويترز)

بعد 100 عام... دراسة تقدم تفسيراً لـ«لعنة مقبرة توت عنخ آمون»

مستويات الإشعاع السامة المنبعثة من اليورانيوم والنفايات السامة ظلت موجودة داخل المقبرة منذ أن تم إغلاقها قبل أكثر من 3000 عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق أيقونات البشارة في متحف شرم الشيخ بمصر (وزارة السياحة والآثار المصرية)

معرض مصري للأيقونات القبطية يوثّق أحداث «عيد البشارة»

بجوار الركن البيزنطي في قاعة الحضارات بمتحف شرم الشيخ (شرق مصر)، نظمت إدارة المتحف معرضاً للأيقونات القبطية.

محمد الكفراوي (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)