آثار القاهرة «النسائية» تتحدى زمن الجواري و«قيود الحريم»

«زينب خاتون» و«الست وسيلة» و«أم عباس» أبرزها

سبيل أم عباس
سبيل أم عباس
TT

آثار القاهرة «النسائية» تتحدى زمن الجواري و«قيود الحريم»

سبيل أم عباس
سبيل أم عباس

سيدة بسيطة تعمل في تنظيف البيت فإذا بها تصبح سيدته ويحمل اسمها، لكنها لا تركن إلى الدعة والراحة فتناضل ضد الغزاة وتأوي الجرحى، وتمد المقاومين بالمؤن والطعام، وسيدة أخرى ولدت أميرة في بلاط القصور، لكن حين يموت ابنها قتيلاً تصر على أن تترك أثراً يقرن اسمها باسم نجلها المغدور فيحمل الأثر اسم «أم عباس» على طريقة البسطاء في الأحياء الشعبية، وليس الأميرة فلانة على طريقة الطبقة الأرستقراطية، وثالثة ليس لها تاريخ رسمي موثق، لكن من الواضح أنها كانت صاحبة نفوذ في الحي، وتأثير طاغ حتى أطلق الأهالي اسمها على البيت منذ رحيلها في عام 1835.
«بيت زينب خاتون»، «سبيل أم عباس»، «بيت الست وسيلة»، من بين آثار القاهرة النسائية التاريخية، التي تعد دليلاً على الاحتفاء بالمرأة في عصر الجواري، وزمن الحريم، ومبانٍ أثرية مرموقة ساهمت في حفظ الذاكرة الجماعية للمصريين لهؤلاء النسوة، وأخيراً باتت المعالم الثلاثة مقراً لأنشطة ثقافية ومنتديات لإلقاء الشعر بالعاصمة المصرية.
محمد بك الألفي، أحد أثرياء عصر المماليك (توفي سنة 1807)، كانت لديه خادمة أظهرت دلائل عديدة على عزة النفس والأمانة والإلمام ببعض المعارف فأعتقها وتزوجت من أمير وقع في غرامها هو «الشريف حمزة الخربوطلي»، هذه الخادمة لم تكن سوى «زينب» التي أضيف إلى اسمها لاحقاً لقب «خاتون»، ويعني «الشريفة» و«الجليلة»، اشترى لها زوجها بيتاً جميلاً كانت قد بنته الأميرة «شقراء هانم» حفيدة السلطان الناصر حسن بن قلاوون.
يقع البيت، كما يشير د. حسين عبد البصير عالم الآثار المصري، ومدير متحف مكتبة الإسكندرية، خلف الجامع الأزهر مباشرة في قلب القاهرة الفاطمية، ويتسم بالجمال الشديد، حتى أنه بات هدفاً للمسلسلات والأفلام السينمائية التي قامت بتصوير مشاهد مختلفة فيه، وكما هي الحال في العمارة المملوكية، يزدان البيت بالعناصر الجمالية حيث المشربيات الخشبية والثريات العملاقة والأرضيات الرخامية و«الكوابيل» المذهبة والزجاج الملون، فضلاً عن المدخل الذي لا يتيح للضيوف رؤية من بالداخل ويسمى «المدخل المنكسر»، أما الحوش الذي يتوسط الدار فيسمى «صحن البيت»، وقد آلت ملكية البيت لوزارة الأوقاف، بعد تعاقب العديد من الشخصيات على استئجاره، منهم جنرال بريطاني بنى نافورة المياه داخل الصحن عام 1942، قبل أن يتحول إلى أثر رسمي.
أما «الست وسيلة» التي لا يعرف لها تاريخ حافل بالإنجازات أو المآثر، حسب وصف الدكتور عبد البصير، فإنها فيما يبدو كانت امرأة ذات نفوذ، ولها أياد بيضاء على أهل المنطقة حتى ظلوا يُطلقون اسمها على البيت بعد رحيلها. ويقول عبد البصير لـ«الشرق الأوسط»، «أُنشئ المنزل عام 1664. وكانت السيدة وسيلة التي توفت عام 1835 هي آخر من سكنته، وهي أيضاً كانت جارية حُررت، واسمها بالكامل وسيلة خاتون بنت عبد الله البيضا، ويعد النصف الأخير من الاسم بنت عبد الله البيضا كنية تطلق على المعتوقات من الجواري في ذلك الزمن حين أعتقها عبد الله بك الكبير، وهو أحد زعماء المماليك».
ويتميز بيت «الست وسيلة» بوجود قبتين ثمانيتي الأضلاع بهدف خلق إضاءة طبيعية جيدة، وانتُهى ترميم البيت في عام 2005، ليصبح مقراً لـ«بيت الشعر العربي» التابع لصندوق التنمية الثقافية التابع بدوره لوزارة الثقافة المصرية.
فيما يقع سبيل وكتاب «أم عباس» في شارع الصليبة بمنطقة القلعة في القاهرة، وشيدته السيدة بنبه قادن، بنت عبد الله البيضا عام 1867 على روح ابنها والي مصر عباس حلمي الأول (1863 - 1879)، ابن عم الخديو إسماعيل باشا.
ويعد السبيل أثراً معمارياً في غاية الجمال، لكنه خرج من رحم المآسي والصراعات السياسية، و«السبيل» كانت فكرة شائعة في الحضارة الإسلامية بهدف تقديم الماء للعابرين العطاشى أو أهل المكان ممن لا يقدرون على دفع أجرة «السقاء» المنوط به تجميع المياه لسقاية السكان. وقد شيد على مساحة شاسعة وزخرفت جدرانه بزخارف نباتية بديعة متقنة محفورة على الرخام متأثرة بفن الروكوكو الأوروبي، كما يتميز بوجود كتابات باللغتين العربية والتركية، وينتهي أحد الأشرطة الكتابية باسم الخطاط عبد الله الزهدي النابلسي مقروناً بوظيفته.
ويشدد د. عبد البصير على الأهمية الفائقة لتلك الآثار الثلاثة، حيث تبرز قوة المرأة واحتفاء المجتمع بها في وقت مبكر للغاية، وفي عصر كانت القيود المفروضة فيه على «الحريم» تعمل على إقصاء وتهميش حواء.


مقالات ذات صلة

امرأة تلد في سن الـ61 وتصبح أكبر أم جديدة في مقدونيا الشمالية

يوميات الشرق امرأة مع طفلها المولود (رويترز - أرشيفية)

امرأة تلد في سن الـ61 وتصبح أكبر أم جديدة في مقدونيا الشمالية

أصبحت سيدة تبلغ 61 عاماً أكبر امرأة تلد طفلاً في مقدونيا الشمالية، وفق ما أعلنت السلطات الصحية في الدولة الواقعة في منطقة البلقان الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (سكوبيي (مقدونيا الشمالية))
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
يوميات الشرق جانب من جلسة في دورة سابقة لمنتدى المرأة العالمي في دبي (الشرق الأوسط)

منتدى المرأة العالمي ينطلق اليوم في دبي ويناقش دورها في 3 محاور رئيسية

ينطلق منتدى المرأة العالمي دبي 2024 اليوم ويناقش محاور رئيسية ذات أبعاد استراتيجية تتعلق بدور المرأة العالمي ويبحث اقتصاد المستقبل والمسؤوليات المشتركة.

مساعد الزياني (دبي)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
يوميات الشرق في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

«نانسي» و«سهى» و«هناء»... 3 أسماء لـ3 نساءٍ كدن يخسرن حياتهنّ تحت ضرب أزواجهنّ، قبل أن يخترن النجاة بأنفسهنّ واللجوء إلى منظّمة «أبعاد».

كريستين حبيب (بيروت)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».