أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية

بسبب الرشى والفساد.. قضاء طالبان ينتعش بين الأفغان

أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية
TT

أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية

أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية

تتربع أفغانستان الجديدة بعد رحيل نظام طالبان على قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، حيث أشارت منظمة الشفافية الدولية في آخر تقرير لها إلى أن الأفغان يدفعون ملايين الدولارات سنويا رشوة من أجل تسيير أمورهم في مؤسسات الدولة التي تسعى إلى النهوض بمساعدات المانحين بعد الإطاحة بحكومة طالبان المتشددة نهاية عام 2001.
ويشير تقرير الشفافية الدولية إلى أن المؤسسة القضائية في هذا البلد هي الأكثر تورطا في عمليات الفساد المالي بسبب دفع الرشى إلى الموظفين الحكوميين. حتى الرصد الحكومي الأفغاني والذي جاء على لسان منظمات مستقلة ومؤسسات حقوقية أشار إلى أن المحاكم الأفغانية أكثر فسادا من باقي المؤسسات الحكومية الرسمية والسبب عدم وجود إرادة قوية في محاربة الفساد المستشري في هذه المؤسسة التي باتت تفقد المصداقية يوما بعد يوم بين المواطنين الأفغان، وهو الأمر الذي تسبب في إقبال الناس على حل مشاكلهم الحياتية وحتى الجنائية لدى محاكم طالبان وقضاتها المتنقلين في مناطق واسعة تخضع لسيطرة مقاتلي طالبان بالجنوب والشرق الأفغانيين معاقل طالبان الأساسية التي حكمت البلاد بين 1996 و2001.

في ولاية كابيسا الواقعة شرق البلاد، والتي تبعد عن العاصمة كابل 270 كيلومترا، تقع بلدة «تجاب» التي تسيطر عليها طالبان عمليا منذ أربع سنوات، حيث أقامت الحركة الأصولية فيها محاكم متنقلة، ولديها قاض يقوم بحل ملفات الناس العالقة، كما أن لدى طالبان هناك معتقلات خاصة بها تحتفظ فيها بالسجناء سواء كانوا من عناصر الجيش والشرطة أو الموالين لهما أو مواطنين عاديين يتم رفع الشكوى ضدهم لدى مسلحي طالبان، وتقوم الحركة في هذه البلدة وغيرها التي تخضع لها بحل مشاكل المواطنين الذين يراجعونها بدل المحاكم الحكومية بسبب انتشار الفساد فيها وسوء معاملتهم من قبل القضاة.
وفي إحدى بلدات ولاية كابيسا شرق البلاد، أقدم رجل على عملية أراد فيها قتل أحد الأشخاص لينتقم من ابن عم له قتل قبل عشرين سنة تقريبا، لكنه فشل في إنجاز المهمة فوقع في قبضة مقاتلي طالبان الذين يسيرون أمور البلدة في غياب تام للشرطة والمحاكم الرسمية. ويقول حكيم الله، وهو اسم مستعار للشخص المستهدف، إن طالبان راجعته وطلبت منه الإفصاح عن شروطه في حل المعضلة التي كاد يفقد فيها حياته. ويقول إنه خول طالبان في حل ملفه وهو يدرك جيدا أنه إذا راجع المؤسسات الرسمية فإنها ستطلب منه عشرات الآلاف من العملة الأفغانية مقابل تسجيل قضيته في المحاكم، ثم إنه سينتظر سنوات طويلة حتى يتم التوصل إلى حل لقضيته، وقد يفقد فيها حياته نظرا لعدم وجود ضمانات كافية بأن الدولة ستحميه. ويقول حكيم الله إن طالبان وبعد التشاور مع زعماء القبائل في القرية وطرفي القضية أمرت بأن يقوم المستهدف بإطلاق النار على خصمه الذي أراد قتله من نفس المسافة، مشيرا إلى أنه رفض هذا الحل، مؤكدا أنه قد عفا عن الرجل، وأنه ترك الأمر إلى الله، لكن طالبان لم تقتنع خوفا من حدوث مشاكل جديدة، فقامت بإصدار الحكم الخاص بها حيث أمرت بدفع ما يقرب من 2000 دولار غرامة والحكم على الجانبين بترك البلدة لثلاث سنوات، كما قامت بتقريب العائلتين عبر إقامة حفلات التصالح بينهما وانتهت المشكلة.
حركة طالبان التي تستعد للعودة إلى الحياة العامة في عموم أفغانستان تعرف كيف تستغل الأوضاع لصالحها. يقول حبيب حكيمي، وهو كاتب ومحلل سياسي يتابع شؤون طالبان، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحركة تستغل حالة الاستياء الموجودة لدى المواطن العادي، فأنشأت في بعض المناطق محاكم متنقلة من أجل الوصول إلى القرى الواقعة خارج مناطق نفوذها. وتعقد جلسات استماع يومين في الأسبوع في المناطق الحدودية جنوب البلاد، مما يتطلب قيام ممثلي ادعاء بإحضار أدلة وشهود. وفي كونار، هناك خبراء قانونيون من طالبان يرافقون القادة المتشددين من أجل تقديم خدمات للأهالي المحليين والمسلحين.
ورغم أن القليل من الأفغان معجبون بحكم طالبان خلال الفترة بين عامي 1996 - 2001، فإن البعض ينظر إلى عدم وجود فساد في نظام قضائها باعتباره ميزة لصالح الحركة، فلم تكن الرشى شائعة، وكان نفوذ المتقاضين وعشائرهم غير مؤثر، وكان الدارج هو تطبيق الشريعة الإسلامية أو على الأقل نسختها العرفية في الريف الأفغاني.
وفي ولاية قندهار جنوب أفغانستان معقل طالبان السابق، وصل الخلاف بين مطيع الله خان ومحمد أيوز على ممتلكاتهما الموجودة في جنوب أفغانستان إلى طريق مسدود. فرغم أن كلا منهما دفع أتعابا للمحامين تزيد على 1000 دولار، فإنهما لم يحصلا على أي حكم من النظام القضائي الحكومي. أما المحاكم القبلية، وهي شبكات عرفية مكونة من شيوخ يعتمد عليهم أغلب المواطنين الأفغان الذين يعيشون في الريف، فهي تعاني من بعض جوانب قصور أيضا.
ولذلك، سلك الرجلان طريقا يسلكه عدد متزايد من الأفغان في هذه الأيام عندما تضيق بهم السبل: اتجها إلى حركة طالبان. وتم في غضون أيام قليلة حل مشكلتهما دون الحاجة لدفع رشى أو رسوم. وقال خان، وهو من أهالي مدينة قندهار واتهم أيوز بالاستيلاء على منزله «كان سيظل مستوليا على منزلي لولا تدخل طالبان. لقد تمتع قضاتها بالسرعة والنزاهة». ويرى العديد من الأفغان المحبطين من القوانين المستقاة من الغرب ونظام المحاكم الحكومي الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه فاسد، أن الأحكام السريعة والقائمة على التقاليد تعتبر أفضل أمل يتشبثون به للوصول للإنصاف والعدل. في مدينتي كويتا وشامان الباكستانيتين، وهما ملاذ لأتباع طالبان في المنفى، يتحدث الأهالي عن طوابير طويلة من الأفغان الذين ينتظرون للمثول أمام القضاة.
من جهته، قال حاجي خوداي نور، وهو أحد أهالي قندهار حصل مؤخرا على حكم في نزاع على أرض من خلال حركة طالبان في كويتا «لن تجد مثل هذا العدد من الأشخاص الذين يمثلون أمام محاكم طالبان، أمام المحاكم الأفغانية. هناك مئات من الأشخاص في انتظار الإنصاف والعدالة هناك».
بيد أنه لا يمكن كذلك نسيان الوحشية التي كانت بارزة في قلب النظام القضائي لحركة طالبان، فكان يتم تنفيذ عمليات إعدام جماعية وعلنية على نحو شائع. وغالبا ما تفضي مخالفات بسيطة، مثل تقصير اللحى أو الاستماع إلى الموسيقى، إلى عقوبة مثل الضرب المبرح. ومع ذلك، ما زال العديد من الأفغان ينظرون إلى النظام الحكومي نظرة سلبية. يقول أمان الله، وهو مدرس من منطقة أندار في غزني «لا يوجد أحد يعتقد أن نظام القضاء الحكومي أفضل من نظام القضاء التابع لحركة طالبان. حتى لو شعر شخص ما بانتهاك حقوقه، هناك إجراءات للاستئناف في نظام القضاء التابع لحركة طالبان». وفي المحاكم الرسمية آلاف الملفات والدعاوى يتكدس بعضها فوق بعض لسنوات طوال دون أن يتمكن القضاة من حلها، الأمر الذي فتح الباب أمام المحسوبية ودفع الرشى لتقديم الملفات في تلك المحاكم.
ويرى مسؤولون غربيون منذ فترة طويلة أن وجود نظام عدالة نزيه ومحترم يعتبر أمرا أساسيا لقمع التمرد، وهو اعتراف بأن القبول الذي تحظى به حركة طالبان منذ فترة طويلة يعود إلى تبنيها لقوانين القضاء العرفي الريفي. وبعد انتهاء المهمة العسكرية للقوات الدولية وبعد إنفاق أكثر من مليار دولار كمساعدات لتطوير نظام المحاكم في أفغانستان، ما زال هذا النظام يفتقر إلى المصداقية ويسخر منه المواطنون الأفغان يوميا، فهناك مقولة مشهورة موجودة حتى في كابل، تنصحك بأنك إذا كنت تريد تسوية نزاع حول مزرعتك أمام المحكمة، فينبغي عليك أولا أن تبيع دجاجك وبقرتك وزوجتك.
وأصبحت البرامج التي لا تحصى لتدريب المحامين والقضاة بتمويل من الحلفاء الغربيين مثالا على التبذير. كما تعج الكتب بقوانين مناسبة للديمقراطيات على النمط الغربي. مثل هذه الحالات تتكرر في مناطق مختلفة من أفغانستان حيث باتت المحاكم الرسمية الحكومية مهجورة من قبائل أصحاب الدعاوى بسبب كثرة الفساد فيها وعدم النزاهة في إصدار القرارات، فضلا عن ضعف القضاة وعدم وجود ضمانات كافية لتنفيذ القرارات الصادرة، اليوم أصبح المواطن الأفغاني يفضل الرجوع إلى محاكم طالبان المتنقلة بدل الحكومة لأنها تصدر القرارات بصورة عاجلة ولا تطلب الرشى أو الوساطات، والجميع لديها سواسية، على حد قول كثير من المواطنين.
«الشرق الأوسط» أجرت العديد من الاتصالات مع المواطنين في مناطق متنوعة من أفغانستان. يقول جل زرين، وهو من أهالي ولاية باكتيكا شرق البلاد، إنه رفع الدعوى ضد رجل استولى على قطعة أرض تابعة لها أبا عن جد في المحاكم الحكومية، وظلت الدعوى تتنقل من دائرة إلى أخرى إلى أشهر عدة دون إصدار قرار. كما أنه دفع للقضاة وآخرين نصف قيمة قطعة الأرض محسوبية دون نتيجة، وفي النهاية اضطر إلى أن يرجع إلى قاض معين من قبل مقاتلي طالبان حيث أرسل رسالة صغيرة يطلب فيها ممن استولى على الأرض الحضور إلى جلسة القضاء في مدة لا تتجاوز يومين، وفعلا حضر الرجل، وبعد الاستماع إلى أقوال الشهود والنظر في المستندات أمر قاضي طالبان بإرجاع الأرض دون تردد، وهذا ما حصل. ويضيف زرين أنه سعيد الآن بأنه حصل على حقه المشروع دون أن يخسر شيئا. فيما يقول عبد الواحد، وهو عضو في اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان، إن اللجنة رصدت حالات كثيرة من هذا النوع، وإن محاكم طالبان رغم وجود ثغرات ونقائص تحظى باحترام شديد لدى المواطن البسيط الذي لا يستطيع دفع الرشى، وهي ظاهرة باتت تكتسح جميع المحاكم الحكومية، على حد قول عبد الواحد.
الرئيس الأفغاني الجديد أشرف غني قال في خطاب له عقب تسلمه السلطة من خلفه حميد كرزاي إن المحاكم في أفغانستان فقدت مصداقيتها، وإنها أكثر المؤسسات فسادا، مشيرا إلى أن إصلاح المؤسسة القضائية يتصدر أولوياتها. وتعهد بأنه سيجري تعديلات إصلاحية عاجلة على هذه المؤسسة ليعيد إليها اعتبارها لكنها تظل مهمة شاقة وصعبة، بحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز»، ذلك أنه وفقا لاستطلاع للرأي صدر عن مؤسسة «غالوب» في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، أعرب 25 في المائة فقط من الأفغان عن ثقتهم في النظام القضائي في البلاد، كما أن الولايات المتحدة الأميركية الداعمة الأساسية لأفغانستان بدأت في السنوات الأخيرة، بعد أن أقرت بأن القانون القبلي العرفي ما زال هو الخيار المفضل لدى أغلب المواطنين الأفغان، في إنفاق أموال بهدف دعم المجالس المحلية وربطها أكثر علانية بالحكومة. إلا أن مراجعة قامت بها منظمة متابعة مستقلة اكتشفت أنه بدلا من أن يؤدي هذا الجهد إلى تحسين صورة الحكومة، فإنه أدى في أغلبه إلى تحسين مكانة المحاكم العرفية، التي يعتبر قضاء طالبان فرعا راديكاليا لها، حيث يشكل مزيجا من تقاليد قبائل البشتون والتفسيرات المتطرفة للشريعة الإسلامية. وعلى الجانب الآخر يقول منتقدون «إن قضاء طالبان في كثير من الأحيان لا ينصف المرأة والطفل الأفغاني في حقوقهما، وذلك في مجتمع قبلي محافظ تكون للرجل الكلمة الفصل».



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟