أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية

بسبب الرشى والفساد.. قضاء طالبان ينتعش بين الأفغان

أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية
TT

أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية

أفغانستان.. عودة المحاكم الشرعية

تتربع أفغانستان الجديدة بعد رحيل نظام طالبان على قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، حيث أشارت منظمة الشفافية الدولية في آخر تقرير لها إلى أن الأفغان يدفعون ملايين الدولارات سنويا رشوة من أجل تسيير أمورهم في مؤسسات الدولة التي تسعى إلى النهوض بمساعدات المانحين بعد الإطاحة بحكومة طالبان المتشددة نهاية عام 2001.
ويشير تقرير الشفافية الدولية إلى أن المؤسسة القضائية في هذا البلد هي الأكثر تورطا في عمليات الفساد المالي بسبب دفع الرشى إلى الموظفين الحكوميين. حتى الرصد الحكومي الأفغاني والذي جاء على لسان منظمات مستقلة ومؤسسات حقوقية أشار إلى أن المحاكم الأفغانية أكثر فسادا من باقي المؤسسات الحكومية الرسمية والسبب عدم وجود إرادة قوية في محاربة الفساد المستشري في هذه المؤسسة التي باتت تفقد المصداقية يوما بعد يوم بين المواطنين الأفغان، وهو الأمر الذي تسبب في إقبال الناس على حل مشاكلهم الحياتية وحتى الجنائية لدى محاكم طالبان وقضاتها المتنقلين في مناطق واسعة تخضع لسيطرة مقاتلي طالبان بالجنوب والشرق الأفغانيين معاقل طالبان الأساسية التي حكمت البلاد بين 1996 و2001.

في ولاية كابيسا الواقعة شرق البلاد، والتي تبعد عن العاصمة كابل 270 كيلومترا، تقع بلدة «تجاب» التي تسيطر عليها طالبان عمليا منذ أربع سنوات، حيث أقامت الحركة الأصولية فيها محاكم متنقلة، ولديها قاض يقوم بحل ملفات الناس العالقة، كما أن لدى طالبان هناك معتقلات خاصة بها تحتفظ فيها بالسجناء سواء كانوا من عناصر الجيش والشرطة أو الموالين لهما أو مواطنين عاديين يتم رفع الشكوى ضدهم لدى مسلحي طالبان، وتقوم الحركة في هذه البلدة وغيرها التي تخضع لها بحل مشاكل المواطنين الذين يراجعونها بدل المحاكم الحكومية بسبب انتشار الفساد فيها وسوء معاملتهم من قبل القضاة.
وفي إحدى بلدات ولاية كابيسا شرق البلاد، أقدم رجل على عملية أراد فيها قتل أحد الأشخاص لينتقم من ابن عم له قتل قبل عشرين سنة تقريبا، لكنه فشل في إنجاز المهمة فوقع في قبضة مقاتلي طالبان الذين يسيرون أمور البلدة في غياب تام للشرطة والمحاكم الرسمية. ويقول حكيم الله، وهو اسم مستعار للشخص المستهدف، إن طالبان راجعته وطلبت منه الإفصاح عن شروطه في حل المعضلة التي كاد يفقد فيها حياته. ويقول إنه خول طالبان في حل ملفه وهو يدرك جيدا أنه إذا راجع المؤسسات الرسمية فإنها ستطلب منه عشرات الآلاف من العملة الأفغانية مقابل تسجيل قضيته في المحاكم، ثم إنه سينتظر سنوات طويلة حتى يتم التوصل إلى حل لقضيته، وقد يفقد فيها حياته نظرا لعدم وجود ضمانات كافية بأن الدولة ستحميه. ويقول حكيم الله إن طالبان وبعد التشاور مع زعماء القبائل في القرية وطرفي القضية أمرت بأن يقوم المستهدف بإطلاق النار على خصمه الذي أراد قتله من نفس المسافة، مشيرا إلى أنه رفض هذا الحل، مؤكدا أنه قد عفا عن الرجل، وأنه ترك الأمر إلى الله، لكن طالبان لم تقتنع خوفا من حدوث مشاكل جديدة، فقامت بإصدار الحكم الخاص بها حيث أمرت بدفع ما يقرب من 2000 دولار غرامة والحكم على الجانبين بترك البلدة لثلاث سنوات، كما قامت بتقريب العائلتين عبر إقامة حفلات التصالح بينهما وانتهت المشكلة.
حركة طالبان التي تستعد للعودة إلى الحياة العامة في عموم أفغانستان تعرف كيف تستغل الأوضاع لصالحها. يقول حبيب حكيمي، وهو كاتب ومحلل سياسي يتابع شؤون طالبان، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحركة تستغل حالة الاستياء الموجودة لدى المواطن العادي، فأنشأت في بعض المناطق محاكم متنقلة من أجل الوصول إلى القرى الواقعة خارج مناطق نفوذها. وتعقد جلسات استماع يومين في الأسبوع في المناطق الحدودية جنوب البلاد، مما يتطلب قيام ممثلي ادعاء بإحضار أدلة وشهود. وفي كونار، هناك خبراء قانونيون من طالبان يرافقون القادة المتشددين من أجل تقديم خدمات للأهالي المحليين والمسلحين.
ورغم أن القليل من الأفغان معجبون بحكم طالبان خلال الفترة بين عامي 1996 - 2001، فإن البعض ينظر إلى عدم وجود فساد في نظام قضائها باعتباره ميزة لصالح الحركة، فلم تكن الرشى شائعة، وكان نفوذ المتقاضين وعشائرهم غير مؤثر، وكان الدارج هو تطبيق الشريعة الإسلامية أو على الأقل نسختها العرفية في الريف الأفغاني.
وفي ولاية قندهار جنوب أفغانستان معقل طالبان السابق، وصل الخلاف بين مطيع الله خان ومحمد أيوز على ممتلكاتهما الموجودة في جنوب أفغانستان إلى طريق مسدود. فرغم أن كلا منهما دفع أتعابا للمحامين تزيد على 1000 دولار، فإنهما لم يحصلا على أي حكم من النظام القضائي الحكومي. أما المحاكم القبلية، وهي شبكات عرفية مكونة من شيوخ يعتمد عليهم أغلب المواطنين الأفغان الذين يعيشون في الريف، فهي تعاني من بعض جوانب قصور أيضا.
ولذلك، سلك الرجلان طريقا يسلكه عدد متزايد من الأفغان في هذه الأيام عندما تضيق بهم السبل: اتجها إلى حركة طالبان. وتم في غضون أيام قليلة حل مشكلتهما دون الحاجة لدفع رشى أو رسوم. وقال خان، وهو من أهالي مدينة قندهار واتهم أيوز بالاستيلاء على منزله «كان سيظل مستوليا على منزلي لولا تدخل طالبان. لقد تمتع قضاتها بالسرعة والنزاهة». ويرى العديد من الأفغان المحبطين من القوانين المستقاة من الغرب ونظام المحاكم الحكومي الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه فاسد، أن الأحكام السريعة والقائمة على التقاليد تعتبر أفضل أمل يتشبثون به للوصول للإنصاف والعدل. في مدينتي كويتا وشامان الباكستانيتين، وهما ملاذ لأتباع طالبان في المنفى، يتحدث الأهالي عن طوابير طويلة من الأفغان الذين ينتظرون للمثول أمام القضاة.
من جهته، قال حاجي خوداي نور، وهو أحد أهالي قندهار حصل مؤخرا على حكم في نزاع على أرض من خلال حركة طالبان في كويتا «لن تجد مثل هذا العدد من الأشخاص الذين يمثلون أمام محاكم طالبان، أمام المحاكم الأفغانية. هناك مئات من الأشخاص في انتظار الإنصاف والعدالة هناك».
بيد أنه لا يمكن كذلك نسيان الوحشية التي كانت بارزة في قلب النظام القضائي لحركة طالبان، فكان يتم تنفيذ عمليات إعدام جماعية وعلنية على نحو شائع. وغالبا ما تفضي مخالفات بسيطة، مثل تقصير اللحى أو الاستماع إلى الموسيقى، إلى عقوبة مثل الضرب المبرح. ومع ذلك، ما زال العديد من الأفغان ينظرون إلى النظام الحكومي نظرة سلبية. يقول أمان الله، وهو مدرس من منطقة أندار في غزني «لا يوجد أحد يعتقد أن نظام القضاء الحكومي أفضل من نظام القضاء التابع لحركة طالبان. حتى لو شعر شخص ما بانتهاك حقوقه، هناك إجراءات للاستئناف في نظام القضاء التابع لحركة طالبان». وفي المحاكم الرسمية آلاف الملفات والدعاوى يتكدس بعضها فوق بعض لسنوات طوال دون أن يتمكن القضاة من حلها، الأمر الذي فتح الباب أمام المحسوبية ودفع الرشى لتقديم الملفات في تلك المحاكم.
ويرى مسؤولون غربيون منذ فترة طويلة أن وجود نظام عدالة نزيه ومحترم يعتبر أمرا أساسيا لقمع التمرد، وهو اعتراف بأن القبول الذي تحظى به حركة طالبان منذ فترة طويلة يعود إلى تبنيها لقوانين القضاء العرفي الريفي. وبعد انتهاء المهمة العسكرية للقوات الدولية وبعد إنفاق أكثر من مليار دولار كمساعدات لتطوير نظام المحاكم في أفغانستان، ما زال هذا النظام يفتقر إلى المصداقية ويسخر منه المواطنون الأفغان يوميا، فهناك مقولة مشهورة موجودة حتى في كابل، تنصحك بأنك إذا كنت تريد تسوية نزاع حول مزرعتك أمام المحكمة، فينبغي عليك أولا أن تبيع دجاجك وبقرتك وزوجتك.
وأصبحت البرامج التي لا تحصى لتدريب المحامين والقضاة بتمويل من الحلفاء الغربيين مثالا على التبذير. كما تعج الكتب بقوانين مناسبة للديمقراطيات على النمط الغربي. مثل هذه الحالات تتكرر في مناطق مختلفة من أفغانستان حيث باتت المحاكم الرسمية الحكومية مهجورة من قبائل أصحاب الدعاوى بسبب كثرة الفساد فيها وعدم النزاهة في إصدار القرارات، فضلا عن ضعف القضاة وعدم وجود ضمانات كافية لتنفيذ القرارات الصادرة، اليوم أصبح المواطن الأفغاني يفضل الرجوع إلى محاكم طالبان المتنقلة بدل الحكومة لأنها تصدر القرارات بصورة عاجلة ولا تطلب الرشى أو الوساطات، والجميع لديها سواسية، على حد قول كثير من المواطنين.
«الشرق الأوسط» أجرت العديد من الاتصالات مع المواطنين في مناطق متنوعة من أفغانستان. يقول جل زرين، وهو من أهالي ولاية باكتيكا شرق البلاد، إنه رفع الدعوى ضد رجل استولى على قطعة أرض تابعة لها أبا عن جد في المحاكم الحكومية، وظلت الدعوى تتنقل من دائرة إلى أخرى إلى أشهر عدة دون إصدار قرار. كما أنه دفع للقضاة وآخرين نصف قيمة قطعة الأرض محسوبية دون نتيجة، وفي النهاية اضطر إلى أن يرجع إلى قاض معين من قبل مقاتلي طالبان حيث أرسل رسالة صغيرة يطلب فيها ممن استولى على الأرض الحضور إلى جلسة القضاء في مدة لا تتجاوز يومين، وفعلا حضر الرجل، وبعد الاستماع إلى أقوال الشهود والنظر في المستندات أمر قاضي طالبان بإرجاع الأرض دون تردد، وهذا ما حصل. ويضيف زرين أنه سعيد الآن بأنه حصل على حقه المشروع دون أن يخسر شيئا. فيما يقول عبد الواحد، وهو عضو في اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان، إن اللجنة رصدت حالات كثيرة من هذا النوع، وإن محاكم طالبان رغم وجود ثغرات ونقائص تحظى باحترام شديد لدى المواطن البسيط الذي لا يستطيع دفع الرشى، وهي ظاهرة باتت تكتسح جميع المحاكم الحكومية، على حد قول عبد الواحد.
الرئيس الأفغاني الجديد أشرف غني قال في خطاب له عقب تسلمه السلطة من خلفه حميد كرزاي إن المحاكم في أفغانستان فقدت مصداقيتها، وإنها أكثر المؤسسات فسادا، مشيرا إلى أن إصلاح المؤسسة القضائية يتصدر أولوياتها. وتعهد بأنه سيجري تعديلات إصلاحية عاجلة على هذه المؤسسة ليعيد إليها اعتبارها لكنها تظل مهمة شاقة وصعبة، بحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز»، ذلك أنه وفقا لاستطلاع للرأي صدر عن مؤسسة «غالوب» في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، أعرب 25 في المائة فقط من الأفغان عن ثقتهم في النظام القضائي في البلاد، كما أن الولايات المتحدة الأميركية الداعمة الأساسية لأفغانستان بدأت في السنوات الأخيرة، بعد أن أقرت بأن القانون القبلي العرفي ما زال هو الخيار المفضل لدى أغلب المواطنين الأفغان، في إنفاق أموال بهدف دعم المجالس المحلية وربطها أكثر علانية بالحكومة. إلا أن مراجعة قامت بها منظمة متابعة مستقلة اكتشفت أنه بدلا من أن يؤدي هذا الجهد إلى تحسين صورة الحكومة، فإنه أدى في أغلبه إلى تحسين مكانة المحاكم العرفية، التي يعتبر قضاء طالبان فرعا راديكاليا لها، حيث يشكل مزيجا من تقاليد قبائل البشتون والتفسيرات المتطرفة للشريعة الإسلامية. وعلى الجانب الآخر يقول منتقدون «إن قضاء طالبان في كثير من الأحيان لا ينصف المرأة والطفل الأفغاني في حقوقهما، وذلك في مجتمع قبلي محافظ تكون للرجل الكلمة الفصل».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.