تتربع أفغانستان الجديدة بعد رحيل نظام طالبان على قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، حيث أشارت منظمة الشفافية الدولية في آخر تقرير لها إلى أن الأفغان يدفعون ملايين الدولارات سنويا رشوة من أجل تسيير أمورهم في مؤسسات الدولة التي تسعى إلى النهوض بمساعدات المانحين بعد الإطاحة بحكومة طالبان المتشددة نهاية عام 2001.
ويشير تقرير الشفافية الدولية إلى أن المؤسسة القضائية في هذا البلد هي الأكثر تورطا في عمليات الفساد المالي بسبب دفع الرشى إلى الموظفين الحكوميين. حتى الرصد الحكومي الأفغاني والذي جاء على لسان منظمات مستقلة ومؤسسات حقوقية أشار إلى أن المحاكم الأفغانية أكثر فسادا من باقي المؤسسات الحكومية الرسمية والسبب عدم وجود إرادة قوية في محاربة الفساد المستشري في هذه المؤسسة التي باتت تفقد المصداقية يوما بعد يوم بين المواطنين الأفغان، وهو الأمر الذي تسبب في إقبال الناس على حل مشاكلهم الحياتية وحتى الجنائية لدى محاكم طالبان وقضاتها المتنقلين في مناطق واسعة تخضع لسيطرة مقاتلي طالبان بالجنوب والشرق الأفغانيين معاقل طالبان الأساسية التي حكمت البلاد بين 1996 و2001.
في ولاية كابيسا الواقعة شرق البلاد، والتي تبعد عن العاصمة كابل 270 كيلومترا، تقع بلدة «تجاب» التي تسيطر عليها طالبان عمليا منذ أربع سنوات، حيث أقامت الحركة الأصولية فيها محاكم متنقلة، ولديها قاض يقوم بحل ملفات الناس العالقة، كما أن لدى طالبان هناك معتقلات خاصة بها تحتفظ فيها بالسجناء سواء كانوا من عناصر الجيش والشرطة أو الموالين لهما أو مواطنين عاديين يتم رفع الشكوى ضدهم لدى مسلحي طالبان، وتقوم الحركة في هذه البلدة وغيرها التي تخضع لها بحل مشاكل المواطنين الذين يراجعونها بدل المحاكم الحكومية بسبب انتشار الفساد فيها وسوء معاملتهم من قبل القضاة.
وفي إحدى بلدات ولاية كابيسا شرق البلاد، أقدم رجل على عملية أراد فيها قتل أحد الأشخاص لينتقم من ابن عم له قتل قبل عشرين سنة تقريبا، لكنه فشل في إنجاز المهمة فوقع في قبضة مقاتلي طالبان الذين يسيرون أمور البلدة في غياب تام للشرطة والمحاكم الرسمية. ويقول حكيم الله، وهو اسم مستعار للشخص المستهدف، إن طالبان راجعته وطلبت منه الإفصاح عن شروطه في حل المعضلة التي كاد يفقد فيها حياته. ويقول إنه خول طالبان في حل ملفه وهو يدرك جيدا أنه إذا راجع المؤسسات الرسمية فإنها ستطلب منه عشرات الآلاف من العملة الأفغانية مقابل تسجيل قضيته في المحاكم، ثم إنه سينتظر سنوات طويلة حتى يتم التوصل إلى حل لقضيته، وقد يفقد فيها حياته نظرا لعدم وجود ضمانات كافية بأن الدولة ستحميه. ويقول حكيم الله إن طالبان وبعد التشاور مع زعماء القبائل في القرية وطرفي القضية أمرت بأن يقوم المستهدف بإطلاق النار على خصمه الذي أراد قتله من نفس المسافة، مشيرا إلى أنه رفض هذا الحل، مؤكدا أنه قد عفا عن الرجل، وأنه ترك الأمر إلى الله، لكن طالبان لم تقتنع خوفا من حدوث مشاكل جديدة، فقامت بإصدار الحكم الخاص بها حيث أمرت بدفع ما يقرب من 2000 دولار غرامة والحكم على الجانبين بترك البلدة لثلاث سنوات، كما قامت بتقريب العائلتين عبر إقامة حفلات التصالح بينهما وانتهت المشكلة.
حركة طالبان التي تستعد للعودة إلى الحياة العامة في عموم أفغانستان تعرف كيف تستغل الأوضاع لصالحها. يقول حبيب حكيمي، وهو كاتب ومحلل سياسي يتابع شؤون طالبان، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحركة تستغل حالة الاستياء الموجودة لدى المواطن العادي، فأنشأت في بعض المناطق محاكم متنقلة من أجل الوصول إلى القرى الواقعة خارج مناطق نفوذها. وتعقد جلسات استماع يومين في الأسبوع في المناطق الحدودية جنوب البلاد، مما يتطلب قيام ممثلي ادعاء بإحضار أدلة وشهود. وفي كونار، هناك خبراء قانونيون من طالبان يرافقون القادة المتشددين من أجل تقديم خدمات للأهالي المحليين والمسلحين.
ورغم أن القليل من الأفغان معجبون بحكم طالبان خلال الفترة بين عامي 1996 - 2001، فإن البعض ينظر إلى عدم وجود فساد في نظام قضائها باعتباره ميزة لصالح الحركة، فلم تكن الرشى شائعة، وكان نفوذ المتقاضين وعشائرهم غير مؤثر، وكان الدارج هو تطبيق الشريعة الإسلامية أو على الأقل نسختها العرفية في الريف الأفغاني.
وفي ولاية قندهار جنوب أفغانستان معقل طالبان السابق، وصل الخلاف بين مطيع الله خان ومحمد أيوز على ممتلكاتهما الموجودة في جنوب أفغانستان إلى طريق مسدود. فرغم أن كلا منهما دفع أتعابا للمحامين تزيد على 1000 دولار، فإنهما لم يحصلا على أي حكم من النظام القضائي الحكومي. أما المحاكم القبلية، وهي شبكات عرفية مكونة من شيوخ يعتمد عليهم أغلب المواطنين الأفغان الذين يعيشون في الريف، فهي تعاني من بعض جوانب قصور أيضا.
ولذلك، سلك الرجلان طريقا يسلكه عدد متزايد من الأفغان في هذه الأيام عندما تضيق بهم السبل: اتجها إلى حركة طالبان. وتم في غضون أيام قليلة حل مشكلتهما دون الحاجة لدفع رشى أو رسوم. وقال خان، وهو من أهالي مدينة قندهار واتهم أيوز بالاستيلاء على منزله «كان سيظل مستوليا على منزلي لولا تدخل طالبان. لقد تمتع قضاتها بالسرعة والنزاهة». ويرى العديد من الأفغان المحبطين من القوانين المستقاة من الغرب ونظام المحاكم الحكومي الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه فاسد، أن الأحكام السريعة والقائمة على التقاليد تعتبر أفضل أمل يتشبثون به للوصول للإنصاف والعدل. في مدينتي كويتا وشامان الباكستانيتين، وهما ملاذ لأتباع طالبان في المنفى، يتحدث الأهالي عن طوابير طويلة من الأفغان الذين ينتظرون للمثول أمام القضاة.
من جهته، قال حاجي خوداي نور، وهو أحد أهالي قندهار حصل مؤخرا على حكم في نزاع على أرض من خلال حركة طالبان في كويتا «لن تجد مثل هذا العدد من الأشخاص الذين يمثلون أمام محاكم طالبان، أمام المحاكم الأفغانية. هناك مئات من الأشخاص في انتظار الإنصاف والعدالة هناك».
بيد أنه لا يمكن كذلك نسيان الوحشية التي كانت بارزة في قلب النظام القضائي لحركة طالبان، فكان يتم تنفيذ عمليات إعدام جماعية وعلنية على نحو شائع. وغالبا ما تفضي مخالفات بسيطة، مثل تقصير اللحى أو الاستماع إلى الموسيقى، إلى عقوبة مثل الضرب المبرح. ومع ذلك، ما زال العديد من الأفغان ينظرون إلى النظام الحكومي نظرة سلبية. يقول أمان الله، وهو مدرس من منطقة أندار في غزني «لا يوجد أحد يعتقد أن نظام القضاء الحكومي أفضل من نظام القضاء التابع لحركة طالبان. حتى لو شعر شخص ما بانتهاك حقوقه، هناك إجراءات للاستئناف في نظام القضاء التابع لحركة طالبان». وفي المحاكم الرسمية آلاف الملفات والدعاوى يتكدس بعضها فوق بعض لسنوات طوال دون أن يتمكن القضاة من حلها، الأمر الذي فتح الباب أمام المحسوبية ودفع الرشى لتقديم الملفات في تلك المحاكم.
ويرى مسؤولون غربيون منذ فترة طويلة أن وجود نظام عدالة نزيه ومحترم يعتبر أمرا أساسيا لقمع التمرد، وهو اعتراف بأن القبول الذي تحظى به حركة طالبان منذ فترة طويلة يعود إلى تبنيها لقوانين القضاء العرفي الريفي. وبعد انتهاء المهمة العسكرية للقوات الدولية وبعد إنفاق أكثر من مليار دولار كمساعدات لتطوير نظام المحاكم في أفغانستان، ما زال هذا النظام يفتقر إلى المصداقية ويسخر منه المواطنون الأفغان يوميا، فهناك مقولة مشهورة موجودة حتى في كابل، تنصحك بأنك إذا كنت تريد تسوية نزاع حول مزرعتك أمام المحكمة، فينبغي عليك أولا أن تبيع دجاجك وبقرتك وزوجتك.
وأصبحت البرامج التي لا تحصى لتدريب المحامين والقضاة بتمويل من الحلفاء الغربيين مثالا على التبذير. كما تعج الكتب بقوانين مناسبة للديمقراطيات على النمط الغربي. مثل هذه الحالات تتكرر في مناطق مختلفة من أفغانستان حيث باتت المحاكم الرسمية الحكومية مهجورة من قبائل أصحاب الدعاوى بسبب كثرة الفساد فيها وعدم النزاهة في إصدار القرارات، فضلا عن ضعف القضاة وعدم وجود ضمانات كافية لتنفيذ القرارات الصادرة، اليوم أصبح المواطن الأفغاني يفضل الرجوع إلى محاكم طالبان المتنقلة بدل الحكومة لأنها تصدر القرارات بصورة عاجلة ولا تطلب الرشى أو الوساطات، والجميع لديها سواسية، على حد قول كثير من المواطنين.
«الشرق الأوسط» أجرت العديد من الاتصالات مع المواطنين في مناطق متنوعة من أفغانستان. يقول جل زرين، وهو من أهالي ولاية باكتيكا شرق البلاد، إنه رفع الدعوى ضد رجل استولى على قطعة أرض تابعة لها أبا عن جد في المحاكم الحكومية، وظلت الدعوى تتنقل من دائرة إلى أخرى إلى أشهر عدة دون إصدار قرار. كما أنه دفع للقضاة وآخرين نصف قيمة قطعة الأرض محسوبية دون نتيجة، وفي النهاية اضطر إلى أن يرجع إلى قاض معين من قبل مقاتلي طالبان حيث أرسل رسالة صغيرة يطلب فيها ممن استولى على الأرض الحضور إلى جلسة القضاء في مدة لا تتجاوز يومين، وفعلا حضر الرجل، وبعد الاستماع إلى أقوال الشهود والنظر في المستندات أمر قاضي طالبان بإرجاع الأرض دون تردد، وهذا ما حصل. ويضيف زرين أنه سعيد الآن بأنه حصل على حقه المشروع دون أن يخسر شيئا. فيما يقول عبد الواحد، وهو عضو في اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان، إن اللجنة رصدت حالات كثيرة من هذا النوع، وإن محاكم طالبان رغم وجود ثغرات ونقائص تحظى باحترام شديد لدى المواطن البسيط الذي لا يستطيع دفع الرشى، وهي ظاهرة باتت تكتسح جميع المحاكم الحكومية، على حد قول عبد الواحد.
الرئيس الأفغاني الجديد أشرف غني قال في خطاب له عقب تسلمه السلطة من خلفه حميد كرزاي إن المحاكم في أفغانستان فقدت مصداقيتها، وإنها أكثر المؤسسات فسادا، مشيرا إلى أن إصلاح المؤسسة القضائية يتصدر أولوياتها. وتعهد بأنه سيجري تعديلات إصلاحية عاجلة على هذه المؤسسة ليعيد إليها اعتبارها لكنها تظل مهمة شاقة وصعبة، بحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز»، ذلك أنه وفقا لاستطلاع للرأي صدر عن مؤسسة «غالوب» في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، أعرب 25 في المائة فقط من الأفغان عن ثقتهم في النظام القضائي في البلاد، كما أن الولايات المتحدة الأميركية الداعمة الأساسية لأفغانستان بدأت في السنوات الأخيرة، بعد أن أقرت بأن القانون القبلي العرفي ما زال هو الخيار المفضل لدى أغلب المواطنين الأفغان، في إنفاق أموال بهدف دعم المجالس المحلية وربطها أكثر علانية بالحكومة. إلا أن مراجعة قامت بها منظمة متابعة مستقلة اكتشفت أنه بدلا من أن يؤدي هذا الجهد إلى تحسين صورة الحكومة، فإنه أدى في أغلبه إلى تحسين مكانة المحاكم العرفية، التي يعتبر قضاء طالبان فرعا راديكاليا لها، حيث يشكل مزيجا من تقاليد قبائل البشتون والتفسيرات المتطرفة للشريعة الإسلامية. وعلى الجانب الآخر يقول منتقدون «إن قضاء طالبان في كثير من الأحيان لا ينصف المرأة والطفل الأفغاني في حقوقهما، وذلك في مجتمع قبلي محافظ تكون للرجل الكلمة الفصل».