ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

الاقتصادي والمصرفي الناجح الذي أنقذ اليورو

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة
TT

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

منذ عشر سنوات عندما كان ماريو دراغي رئيساً للبنك المركزي الأوروبي في أحرج مراحل الأزمة المالية العالمية، لمع اسمه كمنقذ للعملة الأوروبية الموحّدة عندما تفوّه بتلك الكلمات السحرية الثلاث «مهما اقتضى الأمر» Whatever it takes. وبفضل هذا الموقف تشتّت المضاربون الذين كانوا يعدّون لنهش اليورو، الرازح يومها تحت وطأة مستويات قياسية من الدين العام وترنّح القطاع المصرفي والآفاق الاقتصادية المسدودة أمام عشرات العاطلين عن العمل في بلدان الاتحاد الأوروبي.
تلك كانت المحطة الأصعب في مسيرة دراغي اللامعة حتى مساء الأربعاء الفائت عندما قرّر خوض معركة إنقاذ إيطاليا الغارقة دوماً في أزماتها السياسية والتي يتهالك اقتصادها الصناعي باستمرار منذ عشرين سنة. وجاء قبول دراغي بهذه المهمة شبه المستحيلة تجاوباً مع طلب رئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا بعد فشل محاولاته لتعويم رئيس الوزراء السابق جيوزيبي كونتي لتشكيل حكومة جديدة إثر استقالة حكومته الثانية. وكانت القاعدة لتلك الحكومة قد انحسرت البرلمانية، خاصة في مجلس الشيوخ، إثر انسحاب كتلة «إيطاليا الحيّة» التي يقودها ماتّيو رينزي رئيس الوزراء الأسبق المنشقّ عن الحزب الديمقراطي (يسار الوسط) والعدو اللدود لكونتي.

عاش ماريو دراغي، المولود في العاصمة الإيطالية روما عام 1947، يتيم الأبوين منذ سن العشرين. وكان والده موظفاً في البنك المركزي الإيطالي الذي التحق هو به بعد تخرجه في الجامعة وتدرّج فيه ليتولّى منصب الحاكم من مطلع عام 2006 وحتى نهاية عام 2011 عندما عُيِّن رئيساً للبنك المركزي الأوروبي.
يقول عنه زميله على مقاعد الدراسة لوكا دي مونتيتزيمولو، الرئيس السابق لشركتي «فيات» و«فيرّاري»، «كان الألمع بيننا في كل المواد الأكاديمية والرياضة والعلاقات الشخصية». ومع أن أساتذته نصحوه بمتابعة دراسة الفلسفة والعلوم الاجتماعية، فإنه فضّل الالتحاق بكليّة الاقتصاد بجامعة روما «لا سابيينزا» العريقة التي تخرّج فيها في المرتبة الأولى بين دفعته. وبعد التخرّج تابع دراغي دراساته العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الإم آي تي) الشهير في الولايات المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه، وكان عنوان أطروحته للدكتوراه «دراسات في النظرية الاقتصادية». وهي تتعامل مع صعوبة تطبيق سياسات الاستقرار القصيرة الأجل ومواكبتها بإصلاحات على المدى الطويل، أي ما يشكّل اليوم التحدي الأكبر الذي يقف أمامه كرئيس للحكومة الإيطالية. وما يُذكر أنه كان بين زملائه في «الإم آي تي» خلال تلك الفترة بن برنانكه الذي أصبح لاحقاً رئيساً لـ«الاحتياط الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) وأستاذ الاقتصاد الشهير أوليفيه بلانشار الذي كان كبير خبراء صندوق النقد الدولي طيلة 12 سنة.

- المصرفي الناجح
بعد التخرج، انضمّ ماريو دراغي إلى فريق مستشاري البنك المركزي ووزارة المال في إيطاليا، حيث لعب دوراً بارزاً في وضع خطط الانضمام إلى «منطقة اليورو». ثم انتقل بعد ذلك لفترة سنتين ليتولّى منصب نائب رئيس مصرف «غولدمان ساكس» للاستثمار. ولكن رغم تجربته في ذلك المصرف خلال الفترة التي كان غولدمان ساكس مكلّفاً مراجعة حسابات اليونان - ورغم جنسيته الإيطالية التي تثير تلقائياً التحفظات في بلدان أوروبا الشمالية وبخاصة في ألمانيا - أجمع قادة الاتحاد الأوروبي على تعيينه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي خلفاً للفرنسي جان كلود تريشيه، الذي يجمع المراقبون على أنه أخطأ في نهاية ولايته عندما قرّر رفع أسعار الفائدة ورفض اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة الأزمة المالية التي كانت تهدد اليورو.
إلا أنه بعد ساعات قليلة من تسلّم دراغي مهامه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، قرّر خفض أسعار الفائدة وضخّ كميّات غير مسبوقة من السيولة في السوق المالية. وبعد ذلك أقنع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بضرورة الخروج عن التشدد في قواعد الانضباط المالي التي اشتهرت بها ألمانيا وشراء الدين العام. ثم أطلق عبارته الشهيرة «مهما اقتضى الأمر» التي أنقذت اليورو من الكارثة.
ثم، كدليل على حزمه وإقدامه على اتخاذ القرارات الصعبة، كانت مبادرته في صيف العام 2011 عندما كان حاكماً للمصرف المركزي الإيطالي بالضغط على تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي (حينذاك)، لتوجيه إنذار إلى سيلفيو برلوسكوني رئيس الحكومة الإيطالية في تلك الفترة، وإجباره على إجراء إصلاحات صعبة كان يرفض القيام بها خوفاً على شعبيته وسقوط حكومته اليمينية. ثم عندما تولّى رئاسة البنك المركزي الأوروبي في ذروة الأزمة المالية، مارس ضغوطاً كبيرة أجبرت العديد من الحكومات الأوروبية على طلب كفالات كانت ترفضها لما تستدعيه من خفض جذري في مستويات الإنفاق العام على الخدمات الأساسية. وما زالت إلى اليوم تتردد العبارة الشهيرة التي وصف بها يانيس فاروفاكيس، وزير المال اليوناني، دراغي... عندما قال إنه «طاغية مأساوي» بعد الشروط القاسية التي فرضها على اليونان للخروج من الأزمة.

- معالجة آثار «كوفيد ـ 19»
عندما غادر دراغي رئاسة البنك المركزي الأوروبي وعاد إلى روما في خريف عام 2019، كانت الأزمة المالية الكبرى قد بلغت خواتيمها. ويجمع المراقبون على أنه أظهر مهارة تقنيّة متميزة، وكشف عن موهبة استثنائية في التواصل، وحاسّة سياسية مرهفة أعادت إلى الذاكرة «كبار المدرسة الإيطالية» من التشيدي دي غاسبيري إلى جوليو آندريوتي.
أزمة اليورو كانت هي التي حملت دراغي إلى فرانكفورت لتولّي رئاسة البنك المركزي الأوروبي. واليوم، إلى رئاسة الحكومة الإيطالية تحمله محنة «كوفيد - 19» التي أمضاها معتكفاً في منزله الريفي بمقاطعة أومبريا الجبلية الصغيرة (وسط إيطاليا)، حيث كان يتواصل منذ أيام مع رئيس الجمهورية سرجيو ماتّاريلّا، ورئيس الوزراء الأسبق ماتّيو رينزي، والمستشار الأقرب إلى سيلفيو برلوسكوني جيانّي ليتّا.
وبعد بضع ساعات من إعلان دراغي تجاوبه مع طلب رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة الجديدة، سجّلت البورصة الإيطالية أعلى ارتفاع بين البورصات الأوروبية في حين كانت فوائد خدمة الدين العام الإيطالي تتراجع إلى مستويات لم تشهدها منذ 15 سنة. مع هذا، يدرك دراغي جيداً أن مهمته محفوفة بالعراقيل والمخاطر. ولن يكون من السهل عليه أن يوفّق بين الأحزاب السياسية المتناحرة بشراسة غير معهودة ليؤمّن الدعم الكافي في البرلمان لحكومته، التي يرجّح أن تكون تكنوقراطية مطعّمة ببعض الأسماء السياسية التي تستقطب تأييداً واسعاً في البرلمان.

- قطع الطريق على اليمين المتطرف
لم يحدّد رئيس الجمهورية مهلة أمام ماريو دراغي لتشكيل الحكومة خشية من انتكاسة أخرى تفتح الباب مباشرة على الانتخابات المسبقة التي يطالب بها اليمين المتطرف وتتحاشاها بقية الأحزاب. وهو بعد اجتماعه مطولاً مع ماتّاريلّا خرج ليعلن أمام وسائل الإعلام «إنها مرحلة صعبة، تقتضي استجابة على مستوى التحديات الكبيرة أمامنا. وعلى هذا الأساس تجاوبت مع دعوة الرئيس لتشكيل الحكومة التي ستركّز نشاطها على دحر الجائحة واستكمال حملة التطعيم وإنهاض البلاد في وجه التحديات التي تنتظرنا. أمامنا فرصة تاريخية مع الموارد الاستثنائية التي سنحصل عليها من الاتحاد الأوروبي لإجراء الإصلاحات التي تحتاج إليها البلاد، والتركيز على الشباب، وتعزيز التلاحم الاجتماعي». وليس معروفاً بعد كيف ستكون التشكيلة الحكومية التي سيقدمها دراغي إلى البرلمان، خاصة أنه لم يتموضع أبداً في خانة سياسية معيّنة، بل حرص دائماً على النأي بتعليقاته النادرة حول الوضع السياسي في البلاد عن الخوض في النقاش العام المحتدم بين الأحزاب والبقاء على مسافة واحدة من الجميع. وهو يبدو في ذلك وكأنه كان يستعدّ منذ سنوات لهذا التكليف الذي جاءه بعد أن تكرر اسمه مرات عديدة في السابق لتشكيل «حكومة «إنقاذ».
المهم، الخطوة التالية، لتقديم دراغي تشكيلته الحكومية إلى رئيس الجمهورية، المثول أمام البرلمان طلباً للثقة في جلسة قد تمتدّ حتى منتصف هذا الشهر، حيث ينتظر أن يصبح الرئيس السادس للحكومة الذي لم ينتخبه الشعب منذ عام 2008. لعله، بذا يؤكد مرة أخرى عجز النظام السياسي الإيطالي عن طرح الحلول التي تستدعيها المراحل والأزمات الصعبة، كما يثبت فشل الطبقة والأحزاب السياسية في الارتقاء إلى مستوى التحديات الكبرى. ولعلّ كونتي هو المثال الأوضح على هذا الفشل، حيث لم تعد الأحزاب الكبرى مهتمة حتى بأن يتولّى أحد قادتها رئاسة الحكومة، بل وتفضّل تكليف شخصيات مستقلة من خارج المشهد السياسي.
من ناحية ثانية، اللافت أن أوّل الذين أعلنوا تأييدهم تكليف دراغي كان رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلوسكوني الذي يجهد للحفاظ على تماسك حزبه «إلى الأمام يا إيطاليا» (فورتسا إيطاليا» الذي يصمد بصعوبة ضمن التحالف مع القوى اليمينية المتطرفة الصاعدة بقوة منذ سنوات في إيطاليا. وفي المقابل، يعتمد دراغي أيضاً على دعم ماتّيو رينزي الذي كان السبب في الأزمة الحكومية عندما قرّر سحب وزرائه منها أولاً، ثم بقطعه الطريق لاحقاً على محاولات إعادة تشكيل أغلبية جديدة لتكليف كونتي تأليف حكومة ثالثة. ومن المرجّح أيضاً أن ينال دراغي تأييد الحزب الديمقراطي (اليساري المعتدل) الذي يتراجع تأثيره في المشهد السياسي الإيطالي بعدما تولّى ثلاثة من زعمائه رئاسة الحكومة خلال السنوات العشر الماضية.

- مصاعب «النجوم الخمس» و«الرابطة» جدية
«حركة النجوم الخمس»، التي تملك أكبر كتلة في مجلسي النواب والشيوخ، والتي تواجه خطراً محدقاً بالانقسام والتشرذم إذا ما خرجت من الحكومة، أو عند أول استحقاق انتخابات عامة، فهي تصرّ على ربط تأييدها دراغي بحكومة سياسية يعود فيها الرئيس المستقيل جيوزيبي كونتي إلى الواجهة. وكان كونتي قد دعا في كلمته الوداعية التي أعرب فيها عن تأييده تكليف دراغي إلى تشكيل حكومة سياسية على أوسع قاعدة برلمانية ممكنة. أما الحزب الوحيد الذي أعلن صراحة اعتراضه علـى تكليف دراغي، والتصويت ضد تشكيلته في جلسة الثقة، فهو حزب «إخوان إيطاليا» الذي يقوم على فلول الفاشيين، ويطالب بالذهاب إلى انتخابات مسبقة ترجّح كل الاستطلاعات أنه سيكون الفائز الأكبر فيها.
وللعلم، ثمة من يتوقع انضمام حزب «الرابطة» اليميني المتطرف الذي يتزعمه قائد تحالف اليمين ماتّيو سالفيني - الذي يطالب أيضاً بإجراء انتخابات مسبقة - إلى قافلة المؤيدين لحكومة دراغي خشية تصدّعه داخلياً بعدما لمح بعض قادته عن استعدادهم لتأييد الحكومة الجديدة حتى نهاية ولاية البرلمان في العام 2023، وأيضاً لأن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى تقدّم «إخوان إيطاليا» على حساب «الرابطة». وما يذكر أن «الرابطة» ما زالت أسيرة التنازع الداخلي بين الجناح المتطرف المناهض للمشروع الأوروبي والجناح التقليدي الذي تربطه علاقات وطيدة بالقطاع الصناعي، وبالتالي، يدعو إلى الاعتدال، وتحاشي التهوّر وركوب المغامرات، وإتاحة الفرصة أمام الحكومة الجديدة لإخراج البلاد من الأزمة.
في أي حال يعرف دراغي أنه سيحصل على الغالبية البرلمانية اللازمة لمشروعه الحكومي، وأن الأحزاب السياسية ليست في وضع يسمح لها بفرض شروط تعجيزية على حكومة إنقاذ فشلت في تشكيلها رغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد. وهو يعرف أيضاً أنه سيحظى بـ«فترة السماح» المعهودة التي تعطى للحكومات - وبخاصة التكنوقراطية - خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، لكن لا يخفى عليه أن طبائع الأحزاب الإيطالية ستغلب على تطبّعها... وستعود إلى شدّ الحبال في اتجاه مصالحها الضيّقة.
أخيراً، الميزة الأساسية التي يتمتّع بها ماريو دراغي بالمقارنة مع «حكومات الإنقاذ» السابقة التي رأسها التكنوقراط، هي أنه ليس مضطراً إلى اتخاذ إجراءات قاسية والقيام بإصلاحات مؤلمة. بل أمامه 229 مليار يورو من صندوق الانعاش الأوروبي لإنفاقها على برنامج واسع من الاستثمارات التي من شأنها أن تغّير وجه إيطاليا، بيد أن أنفاق هذه الأموال مشروط أيضا بإجراء إصلاحات أظهرت إيطاليا عجزاً مرضيّا عن إجرائها منذ عقود. هذا هو التحدي الأكبر أمام دراغي الذي يعرف أنه إذا نجح في مواجهته لن يكون هناك أي حاجز أمام وصوله إلى رئاسة الجمهورية التي تبقى هدفه الأسمى.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.