ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

الاقتصادي والمصرفي الناجح الذي أنقذ اليورو

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة
TT

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

منذ عشر سنوات عندما كان ماريو دراغي رئيساً للبنك المركزي الأوروبي في أحرج مراحل الأزمة المالية العالمية، لمع اسمه كمنقذ للعملة الأوروبية الموحّدة عندما تفوّه بتلك الكلمات السحرية الثلاث «مهما اقتضى الأمر» Whatever it takes. وبفضل هذا الموقف تشتّت المضاربون الذين كانوا يعدّون لنهش اليورو، الرازح يومها تحت وطأة مستويات قياسية من الدين العام وترنّح القطاع المصرفي والآفاق الاقتصادية المسدودة أمام عشرات العاطلين عن العمل في بلدان الاتحاد الأوروبي.
تلك كانت المحطة الأصعب في مسيرة دراغي اللامعة حتى مساء الأربعاء الفائت عندما قرّر خوض معركة إنقاذ إيطاليا الغارقة دوماً في أزماتها السياسية والتي يتهالك اقتصادها الصناعي باستمرار منذ عشرين سنة. وجاء قبول دراغي بهذه المهمة شبه المستحيلة تجاوباً مع طلب رئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا بعد فشل محاولاته لتعويم رئيس الوزراء السابق جيوزيبي كونتي لتشكيل حكومة جديدة إثر استقالة حكومته الثانية. وكانت القاعدة لتلك الحكومة قد انحسرت البرلمانية، خاصة في مجلس الشيوخ، إثر انسحاب كتلة «إيطاليا الحيّة» التي يقودها ماتّيو رينزي رئيس الوزراء الأسبق المنشقّ عن الحزب الديمقراطي (يسار الوسط) والعدو اللدود لكونتي.

عاش ماريو دراغي، المولود في العاصمة الإيطالية روما عام 1947، يتيم الأبوين منذ سن العشرين. وكان والده موظفاً في البنك المركزي الإيطالي الذي التحق هو به بعد تخرجه في الجامعة وتدرّج فيه ليتولّى منصب الحاكم من مطلع عام 2006 وحتى نهاية عام 2011 عندما عُيِّن رئيساً للبنك المركزي الأوروبي.
يقول عنه زميله على مقاعد الدراسة لوكا دي مونتيتزيمولو، الرئيس السابق لشركتي «فيات» و«فيرّاري»، «كان الألمع بيننا في كل المواد الأكاديمية والرياضة والعلاقات الشخصية». ومع أن أساتذته نصحوه بمتابعة دراسة الفلسفة والعلوم الاجتماعية، فإنه فضّل الالتحاق بكليّة الاقتصاد بجامعة روما «لا سابيينزا» العريقة التي تخرّج فيها في المرتبة الأولى بين دفعته. وبعد التخرّج تابع دراغي دراساته العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الإم آي تي) الشهير في الولايات المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه، وكان عنوان أطروحته للدكتوراه «دراسات في النظرية الاقتصادية». وهي تتعامل مع صعوبة تطبيق سياسات الاستقرار القصيرة الأجل ومواكبتها بإصلاحات على المدى الطويل، أي ما يشكّل اليوم التحدي الأكبر الذي يقف أمامه كرئيس للحكومة الإيطالية. وما يُذكر أنه كان بين زملائه في «الإم آي تي» خلال تلك الفترة بن برنانكه الذي أصبح لاحقاً رئيساً لـ«الاحتياط الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) وأستاذ الاقتصاد الشهير أوليفيه بلانشار الذي كان كبير خبراء صندوق النقد الدولي طيلة 12 سنة.

- المصرفي الناجح
بعد التخرج، انضمّ ماريو دراغي إلى فريق مستشاري البنك المركزي ووزارة المال في إيطاليا، حيث لعب دوراً بارزاً في وضع خطط الانضمام إلى «منطقة اليورو». ثم انتقل بعد ذلك لفترة سنتين ليتولّى منصب نائب رئيس مصرف «غولدمان ساكس» للاستثمار. ولكن رغم تجربته في ذلك المصرف خلال الفترة التي كان غولدمان ساكس مكلّفاً مراجعة حسابات اليونان - ورغم جنسيته الإيطالية التي تثير تلقائياً التحفظات في بلدان أوروبا الشمالية وبخاصة في ألمانيا - أجمع قادة الاتحاد الأوروبي على تعيينه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي خلفاً للفرنسي جان كلود تريشيه، الذي يجمع المراقبون على أنه أخطأ في نهاية ولايته عندما قرّر رفع أسعار الفائدة ورفض اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة الأزمة المالية التي كانت تهدد اليورو.
إلا أنه بعد ساعات قليلة من تسلّم دراغي مهامه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، قرّر خفض أسعار الفائدة وضخّ كميّات غير مسبوقة من السيولة في السوق المالية. وبعد ذلك أقنع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بضرورة الخروج عن التشدد في قواعد الانضباط المالي التي اشتهرت بها ألمانيا وشراء الدين العام. ثم أطلق عبارته الشهيرة «مهما اقتضى الأمر» التي أنقذت اليورو من الكارثة.
ثم، كدليل على حزمه وإقدامه على اتخاذ القرارات الصعبة، كانت مبادرته في صيف العام 2011 عندما كان حاكماً للمصرف المركزي الإيطالي بالضغط على تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي (حينذاك)، لتوجيه إنذار إلى سيلفيو برلوسكوني رئيس الحكومة الإيطالية في تلك الفترة، وإجباره على إجراء إصلاحات صعبة كان يرفض القيام بها خوفاً على شعبيته وسقوط حكومته اليمينية. ثم عندما تولّى رئاسة البنك المركزي الأوروبي في ذروة الأزمة المالية، مارس ضغوطاً كبيرة أجبرت العديد من الحكومات الأوروبية على طلب كفالات كانت ترفضها لما تستدعيه من خفض جذري في مستويات الإنفاق العام على الخدمات الأساسية. وما زالت إلى اليوم تتردد العبارة الشهيرة التي وصف بها يانيس فاروفاكيس، وزير المال اليوناني، دراغي... عندما قال إنه «طاغية مأساوي» بعد الشروط القاسية التي فرضها على اليونان للخروج من الأزمة.

- معالجة آثار «كوفيد ـ 19»
عندما غادر دراغي رئاسة البنك المركزي الأوروبي وعاد إلى روما في خريف عام 2019، كانت الأزمة المالية الكبرى قد بلغت خواتيمها. ويجمع المراقبون على أنه أظهر مهارة تقنيّة متميزة، وكشف عن موهبة استثنائية في التواصل، وحاسّة سياسية مرهفة أعادت إلى الذاكرة «كبار المدرسة الإيطالية» من التشيدي دي غاسبيري إلى جوليو آندريوتي.
أزمة اليورو كانت هي التي حملت دراغي إلى فرانكفورت لتولّي رئاسة البنك المركزي الأوروبي. واليوم، إلى رئاسة الحكومة الإيطالية تحمله محنة «كوفيد - 19» التي أمضاها معتكفاً في منزله الريفي بمقاطعة أومبريا الجبلية الصغيرة (وسط إيطاليا)، حيث كان يتواصل منذ أيام مع رئيس الجمهورية سرجيو ماتّاريلّا، ورئيس الوزراء الأسبق ماتّيو رينزي، والمستشار الأقرب إلى سيلفيو برلوسكوني جيانّي ليتّا.
وبعد بضع ساعات من إعلان دراغي تجاوبه مع طلب رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة الجديدة، سجّلت البورصة الإيطالية أعلى ارتفاع بين البورصات الأوروبية في حين كانت فوائد خدمة الدين العام الإيطالي تتراجع إلى مستويات لم تشهدها منذ 15 سنة. مع هذا، يدرك دراغي جيداً أن مهمته محفوفة بالعراقيل والمخاطر. ولن يكون من السهل عليه أن يوفّق بين الأحزاب السياسية المتناحرة بشراسة غير معهودة ليؤمّن الدعم الكافي في البرلمان لحكومته، التي يرجّح أن تكون تكنوقراطية مطعّمة ببعض الأسماء السياسية التي تستقطب تأييداً واسعاً في البرلمان.

- قطع الطريق على اليمين المتطرف
لم يحدّد رئيس الجمهورية مهلة أمام ماريو دراغي لتشكيل الحكومة خشية من انتكاسة أخرى تفتح الباب مباشرة على الانتخابات المسبقة التي يطالب بها اليمين المتطرف وتتحاشاها بقية الأحزاب. وهو بعد اجتماعه مطولاً مع ماتّاريلّا خرج ليعلن أمام وسائل الإعلام «إنها مرحلة صعبة، تقتضي استجابة على مستوى التحديات الكبيرة أمامنا. وعلى هذا الأساس تجاوبت مع دعوة الرئيس لتشكيل الحكومة التي ستركّز نشاطها على دحر الجائحة واستكمال حملة التطعيم وإنهاض البلاد في وجه التحديات التي تنتظرنا. أمامنا فرصة تاريخية مع الموارد الاستثنائية التي سنحصل عليها من الاتحاد الأوروبي لإجراء الإصلاحات التي تحتاج إليها البلاد، والتركيز على الشباب، وتعزيز التلاحم الاجتماعي». وليس معروفاً بعد كيف ستكون التشكيلة الحكومية التي سيقدمها دراغي إلى البرلمان، خاصة أنه لم يتموضع أبداً في خانة سياسية معيّنة، بل حرص دائماً على النأي بتعليقاته النادرة حول الوضع السياسي في البلاد عن الخوض في النقاش العام المحتدم بين الأحزاب والبقاء على مسافة واحدة من الجميع. وهو يبدو في ذلك وكأنه كان يستعدّ منذ سنوات لهذا التكليف الذي جاءه بعد أن تكرر اسمه مرات عديدة في السابق لتشكيل «حكومة «إنقاذ».
المهم، الخطوة التالية، لتقديم دراغي تشكيلته الحكومية إلى رئيس الجمهورية، المثول أمام البرلمان طلباً للثقة في جلسة قد تمتدّ حتى منتصف هذا الشهر، حيث ينتظر أن يصبح الرئيس السادس للحكومة الذي لم ينتخبه الشعب منذ عام 2008. لعله، بذا يؤكد مرة أخرى عجز النظام السياسي الإيطالي عن طرح الحلول التي تستدعيها المراحل والأزمات الصعبة، كما يثبت فشل الطبقة والأحزاب السياسية في الارتقاء إلى مستوى التحديات الكبرى. ولعلّ كونتي هو المثال الأوضح على هذا الفشل، حيث لم تعد الأحزاب الكبرى مهتمة حتى بأن يتولّى أحد قادتها رئاسة الحكومة، بل وتفضّل تكليف شخصيات مستقلة من خارج المشهد السياسي.
من ناحية ثانية، اللافت أن أوّل الذين أعلنوا تأييدهم تكليف دراغي كان رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلوسكوني الذي يجهد للحفاظ على تماسك حزبه «إلى الأمام يا إيطاليا» (فورتسا إيطاليا» الذي يصمد بصعوبة ضمن التحالف مع القوى اليمينية المتطرفة الصاعدة بقوة منذ سنوات في إيطاليا. وفي المقابل، يعتمد دراغي أيضاً على دعم ماتّيو رينزي الذي كان السبب في الأزمة الحكومية عندما قرّر سحب وزرائه منها أولاً، ثم بقطعه الطريق لاحقاً على محاولات إعادة تشكيل أغلبية جديدة لتكليف كونتي تأليف حكومة ثالثة. ومن المرجّح أيضاً أن ينال دراغي تأييد الحزب الديمقراطي (اليساري المعتدل) الذي يتراجع تأثيره في المشهد السياسي الإيطالي بعدما تولّى ثلاثة من زعمائه رئاسة الحكومة خلال السنوات العشر الماضية.

- مصاعب «النجوم الخمس» و«الرابطة» جدية
«حركة النجوم الخمس»، التي تملك أكبر كتلة في مجلسي النواب والشيوخ، والتي تواجه خطراً محدقاً بالانقسام والتشرذم إذا ما خرجت من الحكومة، أو عند أول استحقاق انتخابات عامة، فهي تصرّ على ربط تأييدها دراغي بحكومة سياسية يعود فيها الرئيس المستقيل جيوزيبي كونتي إلى الواجهة. وكان كونتي قد دعا في كلمته الوداعية التي أعرب فيها عن تأييده تكليف دراغي إلى تشكيل حكومة سياسية على أوسع قاعدة برلمانية ممكنة. أما الحزب الوحيد الذي أعلن صراحة اعتراضه علـى تكليف دراغي، والتصويت ضد تشكيلته في جلسة الثقة، فهو حزب «إخوان إيطاليا» الذي يقوم على فلول الفاشيين، ويطالب بالذهاب إلى انتخابات مسبقة ترجّح كل الاستطلاعات أنه سيكون الفائز الأكبر فيها.
وللعلم، ثمة من يتوقع انضمام حزب «الرابطة» اليميني المتطرف الذي يتزعمه قائد تحالف اليمين ماتّيو سالفيني - الذي يطالب أيضاً بإجراء انتخابات مسبقة - إلى قافلة المؤيدين لحكومة دراغي خشية تصدّعه داخلياً بعدما لمح بعض قادته عن استعدادهم لتأييد الحكومة الجديدة حتى نهاية ولاية البرلمان في العام 2023، وأيضاً لأن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى تقدّم «إخوان إيطاليا» على حساب «الرابطة». وما يذكر أن «الرابطة» ما زالت أسيرة التنازع الداخلي بين الجناح المتطرف المناهض للمشروع الأوروبي والجناح التقليدي الذي تربطه علاقات وطيدة بالقطاع الصناعي، وبالتالي، يدعو إلى الاعتدال، وتحاشي التهوّر وركوب المغامرات، وإتاحة الفرصة أمام الحكومة الجديدة لإخراج البلاد من الأزمة.
في أي حال يعرف دراغي أنه سيحصل على الغالبية البرلمانية اللازمة لمشروعه الحكومي، وأن الأحزاب السياسية ليست في وضع يسمح لها بفرض شروط تعجيزية على حكومة إنقاذ فشلت في تشكيلها رغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد. وهو يعرف أيضاً أنه سيحظى بـ«فترة السماح» المعهودة التي تعطى للحكومات - وبخاصة التكنوقراطية - خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، لكن لا يخفى عليه أن طبائع الأحزاب الإيطالية ستغلب على تطبّعها... وستعود إلى شدّ الحبال في اتجاه مصالحها الضيّقة.
أخيراً، الميزة الأساسية التي يتمتّع بها ماريو دراغي بالمقارنة مع «حكومات الإنقاذ» السابقة التي رأسها التكنوقراط، هي أنه ليس مضطراً إلى اتخاذ إجراءات قاسية والقيام بإصلاحات مؤلمة. بل أمامه 229 مليار يورو من صندوق الانعاش الأوروبي لإنفاقها على برنامج واسع من الاستثمارات التي من شأنها أن تغّير وجه إيطاليا، بيد أن أنفاق هذه الأموال مشروط أيضا بإجراء إصلاحات أظهرت إيطاليا عجزاً مرضيّا عن إجرائها منذ عقود. هذا هو التحدي الأكبر أمام دراغي الذي يعرف أنه إذا نجح في مواجهته لن يكون هناك أي حاجز أمام وصوله إلى رئاسة الجمهورية التي تبقى هدفه الأسمى.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.