«أفلمها»... أول مهرجان مصري افتراضي لصنّاع «السينما المستقلة»

جانب من المؤتمر الصحافي الخاص بالمهرجان
جانب من المؤتمر الصحافي الخاص بالمهرجان
TT

«أفلمها»... أول مهرجان مصري افتراضي لصنّاع «السينما المستقلة»

جانب من المؤتمر الصحافي الخاص بالمهرجان
جانب من المؤتمر الصحافي الخاص بالمهرجان

انطلقت أول من أمس، عروض مهرجان «أفلمها» للأفلام القصيرة المستقلة، 28 يناير (كانون الثاني) - 4 فبراير (شباط) 2021، كأول مهرجان سينمائي مصري تقام كامل فعالياته عبر الواقع الافتراضي، حيث بدأت عروض الأفلام المشاركة في المسابقة عبر المنصة التي أطلقها المهرجان، كما تقام فعاليات الدورة الأولى عبر برنامج «زووم» الذي يَعرض الندوات والورش المختلفة التي تنظَّم على هامش فعاليات البرنامج، ويتاح للمشاهد الدخول عبر الموقع وشراء تذكرة تتيح له مشاهدة كل أفلام المهرجان من مختلف دول العالم ومنها مصر وإيطاليا والصين وإسبانيا وألمانيا وتونس والجزائر.
ويكرم المهرجان في دورته الأولى كلاً من يسرا ومحمود حميدة بصفتهما أكثر نجمين دعماً للسينما المستقلة، كما أهدى دورته الأولى للفنانة يسرا، ويرأس لجنة تحكيم الدورة الأولى مدير التصوير كمال عبد العزيز، وتضم في عضويتها كلاً من الممثلة درة والكاتب عبد الرحيم كمال والناقد والمخرج أحمد عاطف، ويمنح المهرجان جوائز لأفضل فيلم وأفضل فكرة وأفضل ممثل وممثلة ومونتاج وتصوير وسيناريو وجائزة لجنة التحكيم الخاصة، فيما تختص دورته الأولى بأفلام المرأة.
وأكدت الفنانة المصرية سماح أنور، رئيس المهرجان، ومؤسِّسته خلال المؤتمر الصحافي الذي عقدته قبل أيام بحضور أعضاء لجنة التحكيم أن «أفلمها» يختلف عن أي مهرجان آخر يهتم بعروض الأفلام والتكريمات دون تقديم حلول لها، مشيرةً إلى أنه يسعى لحلول حقيقية للسينما المستقلة فهناك سوق كبيرة جداً على مستوى مصر والشرق الأوسط تضم تجارب سينمائية عديدة وواعدة لكن لا أحد يعرف عنها شيئاً لأنها لا تحظى بالوجود في دور العرض، لذا يتيح المهرجان لصناع هذه الأفلام عرضها عبر منصة متخصصة تسمح لهم بمشاهدة واسعة وتسويق ملائم لها، حيث سيحصل صناع الأفلام على عائد يصل إلى 90% من قيمة العرض على المنصة مما يساعدهم لإنتاج أفلام أخرى، فقد باتت المنصات هي الحل الوحيد لعرض الأفلام المستقلة رغم التحديات العديدة التي تواجهها مثل ضآلة الميزانيات المخصصة لها رغم تميزها.
وعبّرت سماح أنور في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» عن سعادتها لما حققه المهرجان من تجاوب مهم مع انطلاق أول أيامه قائلة: «أرى أننا تأخرنا في هذه الخطوة التي سبقَنا إليها العالم ووجد بديلاً افتراضياً أكثر رحابةً لصناع الأفلام القصيرة المستقلة، وهذا المهرجان هو حلم عمري الذي أراه تجربة مهمة أصررت عليها وتحملت تكلفتها كاملة لإيماني بالفكرة رغم عدم تفهم البعض لها، حيث يتيح عرض الأفلام المستقلة عبر جمهور عريض من أنحاء العالم كافة».
وعن تخصيص رسوم لمشاهدة الأفلام تقول سماح: «هذا ثمن ضئيل جداً لمشاهدة جميع أفلام المهرجان بتذكرة قيمتها خمسة وثمانين جنيهاً مصرياً (الدولار الأميركي يعادل 15.7 جنيه مصري)، بينما تشارك الأفلام بالمجان ودون رسوم، كما نقدم جوائز مالية لتشجيع صناع الأفلام المستقلة».
ومن بين الأفلام المشاركة بالمهرجان: «خليني نعيش» و«رهوان» من تونس، و«مية الحجر» و«عيشة أهلك» من مصر، و«الفارس الأبيض» من الجزائر، و«روتين» من سوريا، و«عشرة» من الإمارات.
فيما يرى المخرج والناقد أحمد عاطف، عضو لجنة التحكيم، أن «إقامة المهرجانات عبر الواقع الافتراضي صار أمراً إجبارياً بعدما كان اختيارياً»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هناك مهرجانات كبرى اتجهت إلى إقامة دوراتها (أونلاين) بدلاً من الدخول في متاهات التأجيل بسبب وباء (كورونا)، فلا أحد يستطيع التكهن بنهايته حالياً».
وأشار إلى تأييده فكرة تنظيم مهرجان «أفلمها» لأن الأفلام القصيرة مناسبة جداً لعرضها عبر شاشات الهاتف المحمول، كما أنه يؤسس منصة للأفلام المستقلة، ويشجع فئات غير تقليدية من الجمهور على ارتياد المنصات»، موضحاً أنه من المبكر تقييم التجربة في الوقت الحالي.
ولفت إلى أن «لجنة التحكيم شاهدت كل الأفلام المتقدمة للمشاركة واختارت 17 فيلماً للمسابقة، وهي تتنوع بين أفلام روائية قصيرة ووثائقية ورسوم متحركة، ومع بدء المهرجان نشاهد أفلام المسابقة ونتناقش يومياً كلجنة تحكيم عبر (زووم) حول الأفلام لتحديد الجوائز قبل ختام المهرجان».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)