حين كانوا يصارعون...

حزب الكتائب كرم المصارع جان سعادة عام 2018
حزب الكتائب كرم المصارع جان سعادة عام 2018
TT

حين كانوا يصارعون...

حزب الكتائب كرم المصارع جان سعادة عام 2018
حزب الكتائب كرم المصارع جان سعادة عام 2018

لم يتسنّ لي أن أشاهد إدمون الزعني على الحلبة، إذ تقاعد واعتزل المهنة حين كنت صغيراً جدّاً. لكنّ الزعني، الذي لُقّب بـ«أسد لبنان»، وقيل إنّه اختير مرّةً بطلاً للعالم في المصارعة، خلّفَ قصصاً كثيرة من ذاك الصنف الذي تنسجه مُخيّلات سخيّة. فقد روي مثلاً أنّ أحد المصارعين الذين صارعهم قال له، فيما هما يتواجهان: أحبّ مضغ الآذان، ثمّ عضّ أذنه وظلّ يعضّها حتّى استقرّت كلّها في فمه. لكنّ الزعني، الذي لا يتألّم ولا يستوقفه فَقد عضو من أعضائه، ردّ عليه: وأنا أحبّ مضغ المصارين، ثمّ أنشب أصابعه في بطن خصمه واستخرج مصارينه.
هكذا تولّت الألسنة البريئة التفنّنَ في رسم بطولات لم يعد السيف أداتها. فهنا بِتنا أمام الجسد نفسه كمصدر للفعل الخارق، إمّا صنعاً له أو تلقّياً لآثاره. ولبنان، في الخمسينات، كان يؤثّث نفسه كأيّ بلد حديث الاستقلال، يعوزه المُصارع والبطولة مثلما يعوزه النشيد والعَلم وسوى ذلك ممّا تُستكمَل به الدول.
وفي الأحوال كافّة، حُفظ للزعني أنّه لبّى هذا المطلب. صحيح أنّه فقدَ أذنه غير أنّه «رفع رأس لبنان عالياً» كما كان يقال، ورفع خصوصاً رؤوس أبناء قريته تولا في قضاء البترون. هكذا أقاموا له، بعد رحيله في 1972، تمثالاً يُظهر قوّته وعضلاته المتحجّرة والمتورّمة.
لكنْ مع التلفزيون في الستينات، و«القناة 7» تحديداً، حلّت المصارعة في البيوت، فباتت مبارياتها تُبثّ من «المدينة الرياضيّة» حيث تتجمّع الحشود المتحمّسة مشارِكةً في الهيجان والمبايعة وفي لعن الأعداء الشياطين. وأغلب الظنّ أنّ المصارعة استقطبت جمهوراً يشبه الجمهور الذي استقطبه الزجل ووجد هو الآخر مضافته في التلفزيون. ذاك أنّها أقرب إلى أن تكون الممارسة التطبيقيّة للزجل، أو أنّها زجلٌ يُخاض بالأجسام. وهو ما استهوى ذُكوراً بالضرورة، تحيطهم قلّة قليلة من النساء، أمّا أكثر هؤلاء فكانوا ريفيّين هاجروا حديثاً إلى المدينة، وعرباً وكرداً بحثوا عن اللقمة في بيروت، ومعهم فقراء من المدن وضواحيها تعدّدت أعمارهم وتشابهت سويّاتهم التعليميّة المتواضعة. وبين هؤلاء، احتلّ سائقو السرفيس وشغّيلة الأفران والحمّالون الذين سمّتهم العاميّة عتّالين وأصحاب المهن المياوِمة موقعاً مميّزاً.
وقد انقسمت عواطف الجمهور بين نجوم المصارعة يومذاك، وكلٌّ منهم نال أوسمة وجوائز مساهماً في «رفع رأس لبنان عالياً». وكان أبرز هؤلاء الأخوين جان وأندريه سعادة، اللذين درّبهما الزعني، وأسعد سرور، و«بطل المهجر» وديع أيّوب، وإيلي بجّاني، وجورج ديراني، ونجيب نهرا... وكانت تلازم واحدَهم صفةٌ أو صفتان تتّصلان بشخصه أو بطريقته في المصارعة. فالأخوان سعادة، وكانا المعادلين الرياضيّين للأخوين رحباني في الفنّ وللأخوين فليفل في الأناشيد الملحّنَة، كانا «يُجسّران» إلى الخلف، فيستطيعان بمرونة التحكّم بالظهر أن يقلبا الخصم الذي يعلو عليهما.
ولسببٍ ما عُرفا بـ«الشيخ المنصور أندريه» و«الأمير المنصور جان»، كما لُقّب وديع أيّوب أيضاً بـ«الشيخ»، وسُمّي أحياناً «لبنان أيّوب» للإيحاء بأنّه يمثّل بلده في المغتربات، فلم يكن يتقدّم من الحلبة إلاّ معتمراً الكوفيّة والعقال اللذين يُفترض أنّهما دلالة على لبنان في العالم. أمّا بجّاني فكان يُنعَت بالشهامة والجنتلمانيّة لمدى تقيّده بقوانين اللعب وتحمّله الضرب الذي لا يردّ عليه إلاّ على نحو مدروس ومحسوب. وبدوره بقي نجيب نهرا محبوب الروم الأرثوذكس لأنّه أرثوذكسيّ، تماماً كما بقي جورج ديراني محبوب الفلسطينيّين المسيحيّين لأنّه من أبناء مخيّم مار إلياس.
و«الكيتش» كان حاضراً بقوّة، خصوصاً في استعراض ذاك الخليط المزركش من الأجسام العضليّة والأزياء والأوسمة ممّا كانت تنقله الملصقات الدعائيّة. فهنا أريدَ إيصال إيحاءين متضاربين: القوّة، من جهة، وهي من لوازم المهنة، ومن جهة أخرى، العاطفة الحنون التي تخاطب قلوب الجماهير مثلما كانت تفعل الأفلام الهنديّة عهدذاك. فـ«جبّار الحلبة» و«قاهر الأبطال» و«ملك الموت» الذي كانه المصارع، هو من صنف «الوحش» الذي يحبّ «الجميلة» وتحبّه. ولبنان يومها كان مكاناً نموذجيّاً لاجتماع البدائيّ والجميل «الحضاريّ»، فكان أبناؤه يحملون بكثرة أسماء سبع ونمر وأسد وذيب، كما يتحدّثون بشيء من العاديّة عن مباراة أنزلت الشلل بالمصارع أو تأدّى عنها شجّ رأسه. لكنّهم، إلى هذا، كانوا يذوبون رقّةً وهم يغنّون مع شارل أزنافور وماري ماتيو.
وهذه الكيتشيّة غنمت أكبر فرصها مع الأخوين سعادة. فهما الأكثر سفراً إلى الخارج وتعريفاً بالعالم على نحو سياحيّ لا يعرّف كثيراً. وهما غنّيا أغاني شرقيّة وغربيّة، ومثّلا في أفلام سينمائيّة حمل أحدها عنوان «قفزة من على نهر السين». وكانا، فوق هذا، الأكثر تنظيماً لمباريات توصف بالعالميّة، يستقبلان فيها مصارعين من بلدان نائية وغريبة. هكذا كانت تُستثار وطنيّة اللبنانيّين حين ينهزم ابن بلدهم أمام مصارع أجنبيّ، أو يتلقّى منه ضربات يتأخّر في ردّها إليه. فما أن يأتي الردّ حتّى تهبّ عاصفة الوطنيّة صياحاً وتصفيقاً.
وكان الإكزوتيكيّ هناك أيضاً. فبعض ملابس المصارعين وأقنعتهم ربّما استوحت منحوتات نحتها جياكوميتّي وبيكاسو لبدائيّين بتنا نعلم لاحقاً أنّهم لم يكونوا بدائيّين جدّاً. وكثيراً ما كانت الأزياء والأقنعة تلك تستدعي نوعاً من هوس الجمهور العُصابيّ وذعره من اللمس أو الاقتراب. ذاك أنّ الغابة أضحت، هي الأخرى، واحداً من عناصر الديكور الذي يحفّ بالمصارعة.
ولئن مثّل الشرّيرَ مصارعون قساة ومكروهون كالهنغاريّ يوجي كوفاكش والألمانيّ إريك ميلر والأميركيّ دالي لانش، فإنّ الأفريقيّ برنس كومالي كان رمز النبل والوسامة في آن معاً، أحبّه جمهور المصارعة وتناقلوا أنّ صداقة ترقى إلى أخوّة تجمع بينه وبين الأخوين سعادة. هكذا استقام حبّهم للمصارع الغريب بأن جعلوه واحداً منهم. ورغم أنّ اللبنانيّين غير منزّهين عن العنصريّة، فقد أنساهم هذا الحبّ لبرنس كومالي أنّ لونه أسود.
وككلّ شيء آخر، أعملت الطوائف مبضعها في المصارعة. فبينما غلب المسلمون في رفع الأثقال وكمال الأجسام، فكان منهم معظم الربّاعين، كان أغلب المصارعين مسيحيّين من جبل لبنان ومحيطه. هكذا انتسب كثيرون منهم إلى أحزاب يُقبل عليها مسيحيّون، لا سيّما الكتائب والقوميّ السوريّ اللذين يبالغان في التعويل على الأجساد. ففي بيت الكتائب المركزيّ في منطقة الصيفي، درّب إدمون الزعني هواة المصارعة عليها. وبالفعل انتمى إلى الحزب المذكور الأخوان سعادة وإيلي بجّاني كما انتسب جورج ديراني إلى القوميّ السوريّ.
وأغلب الظنّ أنّ المصارعة كان لها اقتصادها وتجارتها ممّا لم يُعرف عنه الكثير. لكنّ المرجّح أنّهما كانا اقتصاداً وتجارة صغيرين ومتواضعين. أمّا من يفكّر بأرباح الرهان على المصارع الرومانيّ القديم، الغلاديياتر، أو على الملاكم الأميركيّ بين الخمسينات والسبعينات، فعليه أن ينسى المقارنات.
لكنّ قريبي زغلول، الذي يكبرني بعشر سنوات ويدرس في الجامعة، أراد أن ينقذني من ضلالي فقال إنّ المصارعة «صفقات وترتيبات تسبق اللعب». بهذا نجح زغلول في هزّ اقتناعي بما تراه عيناي وتصدّقانه. وبعد سنوات طويلة كنت خلالها قد فقدت كلّ اهتمام بالمصارعة، جاء رولان بارت يوجّه ضربة أخرى. ففي مستهلّ كتابه «ميثولوجيّات» تحدّث الناقد الفرنسيّ عن «عالم المصارعة» نافياً أن تكون هذه «الرياضة» رياضة وجازماً أنّها، على عكس الملاكمة، فُرجة متوقَّعة الحركات ومتوقَّعة النتائج.
لكنّ الضربة الكبرى جاءت مع حرب السنتين في 1975. حينها صارت الأجسام لزوم ما لا يلزم، إذ القوّة لم تعد تخرج «إلاّ من فوهة البنادق». لقد حال الجدّ البالغ دون الفرجة، مثلما حال العنف المباشر دون الحاجة إلى تمثيله.
وإذ هاجر إيلي بجّاني إلى هيوستن وغاب ذكره، توفّي وديع أيّوب شابّاً في 1976. أمّا أندريه سعادة فعاش حتّى 1999، لكنّه عند وفاته كان في الحادي والستين. قبله اغتيل جورج ديراني في 1984 أمام منزله في المخيّم، وفي الحقبة الثمانينيّة اللعينة نفسها، مرّت سيّارة مسرعة أمام دكّان نجيب نهرا فخرج من شبّاكها رشّاش أودت رصاصاته بصاحب الدكّان. قاتلا ديراني ونهرا لم يُعرفا، ولم تُعرف أسباب مقتلهما.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.