لم يتسنّ لي أن أشاهد إدمون الزعني على الحلبة، إذ تقاعد واعتزل المهنة حين كنت صغيراً جدّاً. لكنّ الزعني، الذي لُقّب بـ«أسد لبنان»، وقيل إنّه اختير مرّةً بطلاً للعالم في المصارعة، خلّفَ قصصاً كثيرة من ذاك الصنف الذي تنسجه مُخيّلات سخيّة. فقد روي مثلاً أنّ أحد المصارعين الذين صارعهم قال له، فيما هما يتواجهان: أحبّ مضغ الآذان، ثمّ عضّ أذنه وظلّ يعضّها حتّى استقرّت كلّها في فمه. لكنّ الزعني، الذي لا يتألّم ولا يستوقفه فَقد عضو من أعضائه، ردّ عليه: وأنا أحبّ مضغ المصارين، ثمّ أنشب أصابعه في بطن خصمه واستخرج مصارينه.
هكذا تولّت الألسنة البريئة التفنّنَ في رسم بطولات لم يعد السيف أداتها. فهنا بِتنا أمام الجسد نفسه كمصدر للفعل الخارق، إمّا صنعاً له أو تلقّياً لآثاره. ولبنان، في الخمسينات، كان يؤثّث نفسه كأيّ بلد حديث الاستقلال، يعوزه المُصارع والبطولة مثلما يعوزه النشيد والعَلم وسوى ذلك ممّا تُستكمَل به الدول.
وفي الأحوال كافّة، حُفظ للزعني أنّه لبّى هذا المطلب. صحيح أنّه فقدَ أذنه غير أنّه «رفع رأس لبنان عالياً» كما كان يقال، ورفع خصوصاً رؤوس أبناء قريته تولا في قضاء البترون. هكذا أقاموا له، بعد رحيله في 1972، تمثالاً يُظهر قوّته وعضلاته المتحجّرة والمتورّمة.
لكنْ مع التلفزيون في الستينات، و«القناة 7» تحديداً، حلّت المصارعة في البيوت، فباتت مبارياتها تُبثّ من «المدينة الرياضيّة» حيث تتجمّع الحشود المتحمّسة مشارِكةً في الهيجان والمبايعة وفي لعن الأعداء الشياطين. وأغلب الظنّ أنّ المصارعة استقطبت جمهوراً يشبه الجمهور الذي استقطبه الزجل ووجد هو الآخر مضافته في التلفزيون. ذاك أنّها أقرب إلى أن تكون الممارسة التطبيقيّة للزجل، أو أنّها زجلٌ يُخاض بالأجسام. وهو ما استهوى ذُكوراً بالضرورة، تحيطهم قلّة قليلة من النساء، أمّا أكثر هؤلاء فكانوا ريفيّين هاجروا حديثاً إلى المدينة، وعرباً وكرداً بحثوا عن اللقمة في بيروت، ومعهم فقراء من المدن وضواحيها تعدّدت أعمارهم وتشابهت سويّاتهم التعليميّة المتواضعة. وبين هؤلاء، احتلّ سائقو السرفيس وشغّيلة الأفران والحمّالون الذين سمّتهم العاميّة عتّالين وأصحاب المهن المياوِمة موقعاً مميّزاً.
وقد انقسمت عواطف الجمهور بين نجوم المصارعة يومذاك، وكلٌّ منهم نال أوسمة وجوائز مساهماً في «رفع رأس لبنان عالياً». وكان أبرز هؤلاء الأخوين جان وأندريه سعادة، اللذين درّبهما الزعني، وأسعد سرور، و«بطل المهجر» وديع أيّوب، وإيلي بجّاني، وجورج ديراني، ونجيب نهرا... وكانت تلازم واحدَهم صفةٌ أو صفتان تتّصلان بشخصه أو بطريقته في المصارعة. فالأخوان سعادة، وكانا المعادلين الرياضيّين للأخوين رحباني في الفنّ وللأخوين فليفل في الأناشيد الملحّنَة، كانا «يُجسّران» إلى الخلف، فيستطيعان بمرونة التحكّم بالظهر أن يقلبا الخصم الذي يعلو عليهما.
ولسببٍ ما عُرفا بـ«الشيخ المنصور أندريه» و«الأمير المنصور جان»، كما لُقّب وديع أيّوب أيضاً بـ«الشيخ»، وسُمّي أحياناً «لبنان أيّوب» للإيحاء بأنّه يمثّل بلده في المغتربات، فلم يكن يتقدّم من الحلبة إلاّ معتمراً الكوفيّة والعقال اللذين يُفترض أنّهما دلالة على لبنان في العالم. أمّا بجّاني فكان يُنعَت بالشهامة والجنتلمانيّة لمدى تقيّده بقوانين اللعب وتحمّله الضرب الذي لا يردّ عليه إلاّ على نحو مدروس ومحسوب. وبدوره بقي نجيب نهرا محبوب الروم الأرثوذكس لأنّه أرثوذكسيّ، تماماً كما بقي جورج ديراني محبوب الفلسطينيّين المسيحيّين لأنّه من أبناء مخيّم مار إلياس.
و«الكيتش» كان حاضراً بقوّة، خصوصاً في استعراض ذاك الخليط المزركش من الأجسام العضليّة والأزياء والأوسمة ممّا كانت تنقله الملصقات الدعائيّة. فهنا أريدَ إيصال إيحاءين متضاربين: القوّة، من جهة، وهي من لوازم المهنة، ومن جهة أخرى، العاطفة الحنون التي تخاطب قلوب الجماهير مثلما كانت تفعل الأفلام الهنديّة عهدذاك. فـ«جبّار الحلبة» و«قاهر الأبطال» و«ملك الموت» الذي كانه المصارع، هو من صنف «الوحش» الذي يحبّ «الجميلة» وتحبّه. ولبنان يومها كان مكاناً نموذجيّاً لاجتماع البدائيّ والجميل «الحضاريّ»، فكان أبناؤه يحملون بكثرة أسماء سبع ونمر وأسد وذيب، كما يتحدّثون بشيء من العاديّة عن مباراة أنزلت الشلل بالمصارع أو تأدّى عنها شجّ رأسه. لكنّهم، إلى هذا، كانوا يذوبون رقّةً وهم يغنّون مع شارل أزنافور وماري ماتيو.
وهذه الكيتشيّة غنمت أكبر فرصها مع الأخوين سعادة. فهما الأكثر سفراً إلى الخارج وتعريفاً بالعالم على نحو سياحيّ لا يعرّف كثيراً. وهما غنّيا أغاني شرقيّة وغربيّة، ومثّلا في أفلام سينمائيّة حمل أحدها عنوان «قفزة من على نهر السين». وكانا، فوق هذا، الأكثر تنظيماً لمباريات توصف بالعالميّة، يستقبلان فيها مصارعين من بلدان نائية وغريبة. هكذا كانت تُستثار وطنيّة اللبنانيّين حين ينهزم ابن بلدهم أمام مصارع أجنبيّ، أو يتلقّى منه ضربات يتأخّر في ردّها إليه. فما أن يأتي الردّ حتّى تهبّ عاصفة الوطنيّة صياحاً وتصفيقاً.
وكان الإكزوتيكيّ هناك أيضاً. فبعض ملابس المصارعين وأقنعتهم ربّما استوحت منحوتات نحتها جياكوميتّي وبيكاسو لبدائيّين بتنا نعلم لاحقاً أنّهم لم يكونوا بدائيّين جدّاً. وكثيراً ما كانت الأزياء والأقنعة تلك تستدعي نوعاً من هوس الجمهور العُصابيّ وذعره من اللمس أو الاقتراب. ذاك أنّ الغابة أضحت، هي الأخرى، واحداً من عناصر الديكور الذي يحفّ بالمصارعة.
ولئن مثّل الشرّيرَ مصارعون قساة ومكروهون كالهنغاريّ يوجي كوفاكش والألمانيّ إريك ميلر والأميركيّ دالي لانش، فإنّ الأفريقيّ برنس كومالي كان رمز النبل والوسامة في آن معاً، أحبّه جمهور المصارعة وتناقلوا أنّ صداقة ترقى إلى أخوّة تجمع بينه وبين الأخوين سعادة. هكذا استقام حبّهم للمصارع الغريب بأن جعلوه واحداً منهم. ورغم أنّ اللبنانيّين غير منزّهين عن العنصريّة، فقد أنساهم هذا الحبّ لبرنس كومالي أنّ لونه أسود.
وككلّ شيء آخر، أعملت الطوائف مبضعها في المصارعة. فبينما غلب المسلمون في رفع الأثقال وكمال الأجسام، فكان منهم معظم الربّاعين، كان أغلب المصارعين مسيحيّين من جبل لبنان ومحيطه. هكذا انتسب كثيرون منهم إلى أحزاب يُقبل عليها مسيحيّون، لا سيّما الكتائب والقوميّ السوريّ اللذين يبالغان في التعويل على الأجساد. ففي بيت الكتائب المركزيّ في منطقة الصيفي، درّب إدمون الزعني هواة المصارعة عليها. وبالفعل انتمى إلى الحزب المذكور الأخوان سعادة وإيلي بجّاني كما انتسب جورج ديراني إلى القوميّ السوريّ.
وأغلب الظنّ أنّ المصارعة كان لها اقتصادها وتجارتها ممّا لم يُعرف عنه الكثير. لكنّ المرجّح أنّهما كانا اقتصاداً وتجارة صغيرين ومتواضعين. أمّا من يفكّر بأرباح الرهان على المصارع الرومانيّ القديم، الغلاديياتر، أو على الملاكم الأميركيّ بين الخمسينات والسبعينات، فعليه أن ينسى المقارنات.
لكنّ قريبي زغلول، الذي يكبرني بعشر سنوات ويدرس في الجامعة، أراد أن ينقذني من ضلالي فقال إنّ المصارعة «صفقات وترتيبات تسبق اللعب». بهذا نجح زغلول في هزّ اقتناعي بما تراه عيناي وتصدّقانه. وبعد سنوات طويلة كنت خلالها قد فقدت كلّ اهتمام بالمصارعة، جاء رولان بارت يوجّه ضربة أخرى. ففي مستهلّ كتابه «ميثولوجيّات» تحدّث الناقد الفرنسيّ عن «عالم المصارعة» نافياً أن تكون هذه «الرياضة» رياضة وجازماً أنّها، على عكس الملاكمة، فُرجة متوقَّعة الحركات ومتوقَّعة النتائج.
لكنّ الضربة الكبرى جاءت مع حرب السنتين في 1975. حينها صارت الأجسام لزوم ما لا يلزم، إذ القوّة لم تعد تخرج «إلاّ من فوهة البنادق». لقد حال الجدّ البالغ دون الفرجة، مثلما حال العنف المباشر دون الحاجة إلى تمثيله.
وإذ هاجر إيلي بجّاني إلى هيوستن وغاب ذكره، توفّي وديع أيّوب شابّاً في 1976. أمّا أندريه سعادة فعاش حتّى 1999، لكنّه عند وفاته كان في الحادي والستين. قبله اغتيل جورج ديراني في 1984 أمام منزله في المخيّم، وفي الحقبة الثمانينيّة اللعينة نفسها، مرّت سيّارة مسرعة أمام دكّان نجيب نهرا فخرج من شبّاكها رشّاش أودت رصاصاته بصاحب الدكّان. قاتلا ديراني ونهرا لم يُعرفا، ولم تُعرف أسباب مقتلهما.
حين كانوا يصارعون...
https://aawsat.com/home/article/2752836/%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%88%D8%A7-%D9%8A%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%B9%D9%88%D9%86
حين كانوا يصارعون...
حين كانوا يصارعون...
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة