سباق أوسكار أفضل سيناريو مقتبس

مذكرات صادمة وأخرى هاربة لشخصيات تأمل وتتألم

«كابتن فيليبس» سيناريو كتبه بيلي راي مستوحى من مذكّرات وضعها الكابتن رتشارد فيليبس
«كابتن فيليبس» سيناريو كتبه بيلي راي مستوحى من مذكّرات وضعها الكابتن رتشارد فيليبس
TT

سباق أوسكار أفضل سيناريو مقتبس

«كابتن فيليبس» سيناريو كتبه بيلي راي مستوحى من مذكّرات وضعها الكابتن رتشارد فيليبس
«كابتن فيليبس» سيناريو كتبه بيلي راي مستوحى من مذكّرات وضعها الكابتن رتشارد فيليبس

كما هو معلوم للجميع، هناك جائزتان تمنحهما أكاديمية العلوم والفنون السينمائية في نطاق الكتابة للسينما: واحدة للسيناريوهات‬ المكتوبة خصيصا للسينما والأخرى لتلك المقتبسة عن مصادر أخرى. حفلة توزيع الأوسكار السادس والثمانين ستقام في الثاني من مارس (آذار) المقبل والمنافسة في كل المجالات، التي سنتطرق إليها تباعا، صعبة ومثيرة.
كتابة السيناريوهات عملية إبداعية رائعة بحد ذاتها. سواء أكنت تستخدم أزرار الكومبيوتر لوضع رواية من عندك أو لاقتباس كتاب أو مسرحية أو مقالة في صحيفة، هناك حالة من إعادة خلق ما في البال أو ما حدث في الواقع بشكل جديد.
المطروح أمامنا هذا العام عشرة سيناريوهات (خمسة أصلية وخمسة مقتبسة) لا يخفق أي منها في إظهار موهبة التأليف والاقتباس على نحو يـثير اهتماما شديدا ومختلفا من فيلم لآخر كما من قسم لآخر أيضا.
السيناريوهات الخمسة المتنافسة في قسم السيناريو المكتوب خصيصا هي «أميركان هاسل» (أو «نصب أميركي») الذي وضعه كل من إريك وورن سينجر ديفيد أو راسل، «بلو جاسمين» لوودي ألن و«Her» لسبايك جونز و«نبراسكا» لبوب نيلسون و«دالاس بايرز كلوب» لكريغ بورتن وميلسيا والاك.
في سباق السيناريوهات المقتبسة عن أعمال سابقة، وهو ما سنعرضه هنا قبل الانتقال إلى تلك المكتوبة خصيصا في حلقة مقبلة: «قبل منتصف الليل» وهو كتابة رتشارد لينكلتر عن شخصيات وضعها في فيلمين سابقين، ثم أربعة أعمال مأخوذة من مذكرات موضوعة هي «كابتن فيليبس» عن سيناريو كتبه بيلي راي مستوحى من مذكرات وضعها الكابتن رتشارد فيليبس، «12 سنة عبدا» عن سيناريو لجون ريدلي اقتبسه عن مذكرات وضعها الراحل سولومون نورثاب، «ذئب وول ستريت» عن سيناريو لترنس وينتر مأخوذ عن مذكرات لجوردان بلفورت و«فيلومينا» عن سيناريو وضعه ستيف كوغن وجف بوب عن كتاب وضعه مارتن سيكسميث بعنوان «الطفل المفقود لفيلومينا لي».
حكاية أم لم تفقد الأمل «فيلومينا» (إخراج البريطاني ستيفن فريرز) مقتبس عن كتاب وضعه الصحافي البريطاني مارتن سيكسميث الذي كان يعمل مع هيئة البث البريطاني (BBC) عندما قابل امرأة تجاوزت الخمسين ما زالت تبحث عن ابنها الذي قامت الكنيسة الكاثوليكية - الآيرلندية ببيعه (عمليا) لأميركي ثري وزوجته اللذين لم ينجبا أولادا لقاء قيامهما بالتبرع لصالح الكنيسة. الأم كانت أنجبت هذا الطفل إثر علاقة خارج إطار الزوجية ما جعلها موضع اضطهاد الكنيسة التي قررت الانضمام إليها مع طفلها الصغير. ذات يوم، وكما تصف في الكتاب، أخبرتها إحدى الراهبات بأن رئيسة الدير في سياق تسليم الطفل إلى العائلة الزائرة. الموقف الموصوف في الكتاب حيال الدقائق التي مرت على الأم وهي تحاول، دون جدوى، منع إتمام العملية معبـر عنها بمشهد تجد نفسها فيه تصرخ من وراء نافذة الغرفة الموصدة. هي ترى وتصرخ ولا أحد يسمعها أو ينظر إليها. حين التقاها الكاتب لم يكن يبحث عن موضوع اجتماعي يكتبه، لكنه سريعا ما وجد في سعي الأم الدؤوب لمعرفة مكان ابنها ولقائه من جديد ما أثاره. قام بالمشاركة في البحث واكتشف أنه ترعرع ابنا لتلك العائلة وأنه اشتغل في السلك السياسي في واشنطن العاصمة.
بطلان لهذا الفيلم: الصحافي الآتي من طبقة ميسورة وهو واسع الثقافة، ولو بمقتضى الاختصاصات التي يمارسها، وليبرالي إلى حد نقد الكنيسة وما قامت به، أمر لا تستطيع فيلومينا لي القيام به على الرغم مما فعلته الكنيسة بها. البطل الثاني هو فيلومينا لي نفسها الأقل ثقافة والمنتمية إلى طبقة عاملة غير مسيسة. السيناريو بنى جيدا الكثير من المواقف المثيرة حول هذا التناقض بين بطليه الذي ينتمي كل منهما إلى جيل مختلف بتضاريس ثقافية واجتماعية متباينة تماما.
أمر مهم آخر، لجانب الخروج بمواقف من هذا التناقض الذي يصل إلى حد التعرض للدين الكاثوليكي في مواجهة خوف الطرف الثاني من تبعية هذا النقد، هو أن الكتاب وضـع كمادة بحث واستقصاء جادة. السيناريو أبقى على هذه الميزة لكنه لم يكترث للبقاء جادا في كل الأوقات. هناك طراوة كوميدية رغم جدية المأساة. الأمر الوحيد الذي أعاب السيناريو اضطراره لاجتزاء مقاطع زمنية بعد انتقال الشخصيتين إلى الولايات المتحدة لمتابعة البحث. إذ ما هي إلا أيام قليلة وينجح الصحافي في تحديد الشخصية الغائبة وذلك بالاستعانة بالكومبيوتر (أمر كان يمكن له القيام به من منزله في لندن ولم يفعل!).
عملان فرديان
المعالجة نفسها تقريبا نجدها في «قبل منتصف الليل» كما كتبه رتشارد لينكلتر، مخرج الفيلم أيضا. المادة في صلبها (وهي الوحيدة غير المقتبسة عن كتاب) جادة لكن المواقف محلاة ببعض اللمسات الكوميدية الإنسانية. الحكاية هنا هي حول رجل أميركي وامرأة فرنسية كانا تعرفا على بعضهما البعض قبل نحو عشرين سنة (في فيلم خيالي وضعه لينكلتر بعنوان «قبل المغيب» ليليه بجزء ثان عنوانه «قبل الشروق»). يصلان إلى اليونان بصحبة ابنتيهما التوأم وولده من زواج سابق. بعد توديع الأب لابنه العائد إلى شيكاغو يتوجـهان للسير في طرقات القرية ولتناول الغداء مع صديق وزوجته ثم للسير من جديد ثم لتمضية الليلة في غرفتهما في الفندق. السيناريو مبني على المواقف الكلامية وليس على الأحداث، أمر يحبـه السينمائيون الفرنسيون (والأوروبيون عموما) ويعتبرونه معبرا عن صلة فعلية بالنصوص الأدبية.
المواقف الكوميدية الإنسانية المشار إليها ناتجة عما نشعر به كمتابعين حيال الوضع الماثل على الشاشة وليس لأن ذلك الوضع مثير للضحك. هذا واضح في الكتابة كما في إخراج لينكلتر لما كتبه. المسألة هنا هو أنه حاول تصوير وضع إنساني لعلاقة بدأت منذ عقدين لمعرفة ما الذي آلت إليه، فإذا بها متوتـرة ولا تخلو من خلافات في الرأي وفي العاطفة. لكنه نسبة للسيناريوهات الأخرى (هذا السيناريو الوحيد بين تلك المقتبسة غير المأخوذ عن مذكرات منشورة كتبا) فهو محدود القدرة على التنويع كما أن التصعيد الدرامي في الخلفية لا تدري أنه يحدث إلا عندما يقع بالفعل. حين يقع، يعبر بلا تلفيق عن مواقف واقعية تماما، لكنها لا تستطيع أن توسـع من إطار سيناريو كـتب على هذا النحو المحدد وخانة الحوار فيه هي الأكثر امتلاء بالكلمات من أي خانة أخرى.
خانة الحوار في سيناريو ترنس وينتر لفيلم مارتن سكورسيزي «ذئب وول ستريت» هي أيضا مكتظـة. لكن خانة الحدث أيضا كذلك. السيناريو مأخوذ عن ذكريات جوردان بلفورت الذي حقق ثروة قدرت بمائتي مليون دولار جناها من وراء العمل بالبورصة والتلاعب والاحتيال على زبائنه وذلك في رحلة تمتد من أواخر الثمانينات إلى أواخر التسعينات. السيناريو لا يغرف من الكتاب خلفيات الكاتب بل ينطلق من بداية ممارسته العمل المالي وحتى ما بعد تقديمه للمحاكمة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالية التي حكمت بسجنه لثلاث سنوات. مثل «قبل منتصف الليل» يتصدى الفيلم لقراءة حياة فردية رغم أنه يتمتع بالطبع بقدرة النظر إلى محيط اجتماعي كبير من دون أن يلجه.
قرأت الكتاب والسيناريو (حين وصلا في صندوق واحد مع أسطوانة الفيلم خلال ترشيحات الغولدن غلوبس) والمأخذ الأهم هو أن كاتب السيناريو، والمخرج سكورسيزي من بعده، قرر أن لا يختلف عن النبرة التي يتحدث بها جوردان بلفورت إلى جمهوره. في المذكرات ليس هناك ما يعكسه الكاتب بلفورت من اعتذار فعلي لا عن حياته المهنية (توريط زبائنه بشراء حصص في شركات لا يهم إذا كانت ستدر مالا أم لا وتوفير معلومات كاذبة للمساهمين بغرض عملية ابتزاز لمصادرهم المالية) ولا عن حياته الخاصة (البذخ المسرف والانكباب على حياة فساد ملؤها حفلات جماعية من الجنس والكوكايين) وهذا ما يستورده الكاتب ونترز ويضعه سكورسيزي على الشاشة. ما نراه هو استعراض لوني وضوئي مبهر لحياة شخص متهور من دون إعلان ندم أو مواجهة ذاتية تنم عن مراجعة. طبعا لا يستطيع الكاتب في هذه الحالة أن يجتر من عنده ما لم يضعه الكاتب الأصلي على الورق. إذا لم يكن هناك طلب لغفران وإعلان أسف أو الاعتراف بخطأ، فإنه من الخطأ الكبير أيضا التدخـل للتبرع بهذه العناصر.
رغم ذلك، هذا سيكون عائقا أمام فوز الفيلم بجائزة أفضل سيناريو مقتبس مع ما يلازم ما سبق من حالة عدم نضج الشخصية وتبلورها.

* السيناريو المحتمل فوزه
* غياب الموقف الأخلاقي الفردي لا يقع في فيلم «12 سنة عبدا» كما استخلصه جون ريدلي الذي وضع قصـة «ثلاثة ملوك» التي أخرجها ديفيد أو راسل سنة 1999 من بين أعمال أخرى لم تتحول إلى أفلام بعد. لكن هذا الموقف لا يعد فرديا. إذا ما كان بطل مذكراته الخاصـة سولومون نورثاب سرد حكايته حين تم اختطافه من نيويورك التي عاش فيها حرا ليذوق الحياة كعبد بعدما تم بيعه في الجنوب الأميركي (قبل أن يسترد حريـته ويضع كتابه ذاك في عام 1853) فإن المناسبة المتاحة في سيناريو ريدلي (وهو أيضا من أصل أفرو - أميركي) هي التصدي لتاريخ العنصرية التي مارسها البيض على سواهم (السود هنا) ما شكـل، باعتراف البيض أنفسهم، بقعة داكنة في التاريخ الأميركي نفسه.
الكاتب ريدلي يحافظ على براءة سولومون من كل ذنب. وسولومون في مذكراته، مثل جوردان بلفورت في مذكراته، لا يكتب ما هو ضيم أو وضع شائب في جانبه. لكن في حين أن جوردان يكتب وهو يضحك فإن سولومون كتب وهو يبكي. الأول لديه ما يطلبه من غفران لكنه ممتنع عنه، والثاني يكتب لعله يستطيع أن يغفر هو ما مورس ضده من قـبل من اعتدوا على حريـته وكرامته. ريدلي يحول الموقف من حالة فردية إلى حالة اجتماعية. أيضا في المقارنة أن «ذئب وول ستريت» فيلما لا يسعى لذلك التحويل. صحيح المخرج سكورسيزي يترك المشاهد يبلور وحده موقفه حيال عالم الفساد بكل جوانبه، لكنه بذلك حرم فيلمه من موقف إيجابي. المخرج ستيف ماكوين، من ناحيته، توجـه إلى العكس تماما، صنع من «12 سنة عبدا» موقفا اجتماعيا وتاريخيا صارما بفضل سيناريو كـتب على هذا النحو ولهذه الغاية أيضا.
«12 سنة عبدا» غالبا ما سيخرج بأوسكار أفضل سيناريو مقتبس، وإن أخفق في ذلك فإن أحد الأسباب سيكون متانة سيناريو الفيلم المتسابق الخامس في هذا القسم وهو «كابتن فيليبس». وضعه الكابتن رتشارد فيليبس عن أحداث فعلية مر بها حين توجـه بشاحنته البحرية إلى أفريقيا سنة 2009 وفي البال القيام بوظيفته المهنية ككابتن اعتاد مثل هذه الرحلات. لكن هذه المرة يتعرض لاختطاف قراصنة صوماليين للباخرة. في البداية الاختطاف يشمله وآخرين فوق سطح الباخرة. لاحقا، وعندما ينجح الكابتن بإخفاء معظم أفراد طاقمه، يقرر القراصنة خطفه في قارب نجاة يتسع بالكاد للخاطفين الأربعة ومخطوفهم الخامس. هنا ينتقل الفيلم إلى الخانة الفردية. كاتب السيناريو بيلي راي أجاد صياغة عمل كان يمكن له أن لا يكون واقعة حقيقية. فيلم مغامرات مكتوب خصيصا للشاشة. هذا لأن المرجعية هنا ليست أدبية (ورتشارد فيليبس لم يدع أنه كاتب أدبي بل وضع مذكراته كما حدثت معه)، بل حدثية. أحيانا لا تختلف عما قد يوفره فيلم تشويقي مكتوب خصيصا للشاشة إلا من حيث إن المرء علم مسبقا من هو فيليبس وبالتالي أن ما يراه حدث فعليا.
في سيناريو «كابتن فيليبس»، الذي كان أيضا من جملة ما وصل الناقد من مواد ترويجية، نجاح يمكن إرجاعه للكاتب وللمخرج معا: تزويد «الأعداء» بشحنة إنسانية لا تبررهم لكنها لا توصمهم بتنميط. إنهم ما هم عليه وفعلهم لا يمكن الدفاع عنهم، لكن السيناريو يعكس الصدام بين عالمين. نلحظ في الكتابة أن كابتن فيليبس وصل إلى المطار مع زوجته التي أقلـته إلى حيث سيقلع بالطائرة متوجـها إلى عمله البعيد. لجانب أن الحديث يدور حول ما آل إليه هذا العالم من مشاكل، يهدف إلى وضع بطانة خلف ظهر كابتن فيليبس تعكس وضعه الاجتماعي. في المقابل، وبعد صفحات قليلة، يتضمن السيناريو مشهدا يعكس خلفية الخاطفين على الأرض قبل أن يتوجهوا إلى قواربهم السريعة بحثا عن الصيد. وضع اقتصادي وثقافي واجتماعي ضد وضع اقتصادي وثقافي واجتماعي آخر. كابتن ضد كابتن. وبمهارة رائعة: أمل في النجاة وهو يخبو إلى حد أنه حين يتحقق ينهار صاحبه باكيا غير مصدق.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».