العالم يحتفل بليلة رأس السنة في «العزل»

نيوزيلندا تحتفل بلا قيود ونيودلهي حظرت التجول وبيروت تخففه

عروض للألعاب النارية بليلة رأس السنة في سنغافورة (أ.ف.ب)
عروض للألعاب النارية بليلة رأس السنة في سنغافورة (أ.ف.ب)
TT

العالم يحتفل بليلة رأس السنة في «العزل»

عروض للألعاب النارية بليلة رأس السنة في سنغافورة (أ.ف.ب)
عروض للألعاب النارية بليلة رأس السنة في سنغافورة (أ.ف.ب)

استقبلت دول العالم العام الجديد في ظل قيود للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد ترخي بثقلها على احتفالات مليارات الأشخاص المتشوقين لوداع عام 2020 الذي طبعته الجائحة.
وبعد عام صعب سجلت فيه وفاة 1.7 مليون شخص على الأقل بوباء كوفيد - 19، تسببت طفرات جديدة في إعادة فرض إجراءات عزل، وأجبرت محبي السهر على مواصلة عادة ألفوها في 2020 وهي متابعة الفعاليات من المنزل.
من سيدني إلى روما تابع المواطنون عروض الأسهم النارية والمفرقعات والحفلات المباشرة على الإنترنت أو التلفزيون، هذا إذا لم يتم إلغاؤها برمتها.
والساعات الأولى من عام 2021 والمرتقبة بشدة ستحل أولا في دولتي كيريباتي وساموا بالمحيط الهادي الساعة 10.00 بتوقيت غرينتش، فيما ستكون جزيرتا هاولاند وبيكر غير المأهولتين آخر المناطق التي تستقبل العام الجديد بعد 26 ساعة على ذلك.
ومع أن جزر المحيط الهادي بقيت بمنأى عن أسوأ تداعيات الوباء، فإن القيود المفروضة عند الحدود ومنع التجول وتدابير العزل والإغلاق تجعل ليلة رأس السنة مختلفة هذا العام.
في منتجع تاوميسينا المزدان بأشجار النخيل قرب أبيا عاصمة ساموا، أعلن المدير توياتاغا نيثان باكنال عن فتح المنتجع من دون قيود على عدد الضيوف، لكن بسبب حالة طوارئ مرتبطة بالفيروس «سنتوقف عن تقديم الكحول الساعة 11.00 مساء»، على ما قال.
في سيدني، أكبر المدن الأسترالية، أنارت العروض الضوئية المرفأ بعرض باهر، لكن قلة من الأشخاص ستتابع الحدث حضوريا. وألغيت خطط للسماح بوجود حشود في أعقاب تسجيل بؤرة من نحو 150 إصابة جديدة ما أدى إلى فرض قيود مشددة على السفر من سيدني وإليها. كذلك تم التخلي عن مقترح للسماح لخمسة آلاف شخص من موظفي الخطوط الأمامية في مكافحة الفيروس بأن يحلوا مكان السياح الغائبين عن شاطئ المرفأ كبادرة شكر لهم.
وتابع معظم أبناء سيدني الحدث على شاشات التلفزيون في منازلهم حيث تم تحديد عدد الضيوف بخمسة.
نيوزيلندا بلا قيود
شهدت نيوزيلندا عددا من المهرجانات الموسيقية الكبيرة وعروض الألعاب النارية في جميع أنحاء البلاد احتفالا بقدوم العام الجديد، وذلك على النقيض من كثير من بقية بلدان العالم التي تواجه قيودا صارمة بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد.
ومع عدم وجود حالات من مرض كوفيد - 19 في المجتمع النيوزيلندي، تسير الأحداث على النحو المخطط له مع وجود حدود للحشود أو غيرها من القيود الصحية.
وجرى عرض خفيف على معالم مدينة أوكلاند، أكبر مدن البلاد، قبل عرض الألعاب النارية الذي سيستمر لمدة خمس دقائق في منتصف الليل.
وأقيم بالقرب من مدينة جيسبورن أحد أكبر أحداث ليلة رأس السنة الجديدة وهو مهرجان للموسيقى واستمر لمدة ثلاثة أيام. وفوجئ المحتفلون البالغ عددهم 20 ألف شخص عندما ظهر المدير العام للصحة الدكتور آشلي بلومفيلد، الذي كان يتابع الموقف يوميًا أمام الأمة خلال فترة إغلاق كوفيد - 19 التي شهدتها البلاد، على الشاشة الكبيرة مع مقتطفات من رسائل السلامة.
شاهد أهالي روما عبر بث مباشر، إضرام النار في شعلة ضخمة في سيركوس ماكسيموس، أقدم مدرج في المدينة مع فعالية تستمر ساعتين يحييها فنانون تتخللها عروض إضاءة لمواقع تاريخية. وتخضع إيطاليا، حاليا لإجراءات إغلاق على مستوى البلاد حتى السابع من يناير (كانون الثاني) مع حظر تجول يبدأ الساعة العاشرة مساء.
من فرنسا إلى لاتفيا والبرازيل، ينتشر عناصر من الشرطة وفي بعض الأحيان عناصر من الجيش، للسهر على احترام حظر التجول أو حظر التجمعات بأعداد كبيرة.
في لندن التي تعاني من أسوأ الأضرار، أحيت المغنية ومؤلفة الأغاني الأميركية باتي سميث البالغة 74 عاما، حلول العام الجديد بتكريم عمال الخدمات الصحية الوطنية الذين قضوا بوباء كوفيد - 19، في عرض تم بثه على شاشة في ساحة بيكاديلي وبالبث التدفقي على يوتيوب.
فرنسا والأطعمة الفاخرة
عندما دقت الساعة معلنة بداية العام الجديد كان حظر التجول ساريا في فرنسا لكن الفرنسيين يعتزمون الاحتفال بتناول ما لذ وطاب من الطعام بدلا من دعوة أعداد كبيرة من الأصدقاء.
وفي سوق مفتوحة للمواد الغذائية في باريس قال رشيد بلحريش بائع المأكولات البحرية إن حجم الطلبات أصغر من المعتاد لكن الزبائن يختارون المأكولات الفاخرة مثل الكركند (الاستاكوزا) والمحار. وأضاف «لأن العدد سيكون صغيرا حول المائدة يشتري الناس أصنافا فاخرة».
وسجلت فرنسا أكبر عدد من حالات الإصابة بفيروس كورونا في غرب أوروبا وخامس أكبر عدد إصابات على مستوى العالم.
وحظر التجول الليلي المفروض على مستوى البلاد من الثامنة مساء حتى السادسة صباحا سيطبق ليلة رأس السنة كذلك، وتقول الحكومة إنه لا يتعين أن يتجمع أكثر من ستة بالغين حول مائدة واحدة.
وفي متجر للأطعمة الراقية كان المدير يحضر عبوات من كبد الأوز (الفوا جرا) والكمأ لمجموعات مكونة من شخصين أو ثلاثة.
حظر تجول في الهند
وفي الهند فرضت سلطات نيودلهي وكبرى المدن الأخرى حظر تجول قبيل ليلة رأس السنة في إطار جهودها للحد من موجة جديدة من الإصابات بفيروس كورونا المستجد.
وسيستمر الإغلاق في العاصمة ليومين ابتداء من الساعة 11.00 مساء وحتى السادسة صباحا، علما بأن التجمعات ممنوعة لأكثر من خمسة أشخاص حتى قبل فرض الإغلاق، حسبما أعلنت السلطات. في العادة يتدفق عشرات آلاف الأشخاص على وسط نيودلهي لاستقبال العام الجديد.
لكن في إطار الجهود الحثيثة المبذولة لتتبع آلاف الأشخاص الذين عادوا مؤخرا من بريطانيا بسبب السلالة الجديدة من الفيروس، فإن المدينة البالغ عدد سكانها 20 مليون نسمة انضمت إلى عدد متزايد من الولايات الهندية التي فرضت قيودا صارمة على التجمعات بمناسبة رأس السنة. والعاصمة المالية مومباي ومدن كبرى أخرى في ولاية مهارشترا، فرضت تدابير إغلاق ليلي تستمر حتى الخامس من يناير (كانون الثاني).
أما راجستان وأوتارخند، اللتان عادة ما تجتذبان أعدادا كبيرة من السياح الأجانب لتمضية عطلة نهاية العام، وتاميل نادو وغوجارات وكارناتاكا، فقد أمرت جميعها بفرض حظر تجول في رأس السنة.
بيروت تخفف القيود
في بيروت التي لا تزال تحاول تخطي كارثة انفجار المرفأ في، خففت السلطات أيضا الإجراءات.
فتم تأخير موعد حظر التجول إلى الساعة الثالثة صباحا. وأعيد فتح الحانات والمطاعم والنوادي الليلية مع الإعلان عن حفلات كبيرة إيذانا بالعام الجديد.
وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صور وفيديوهات لنواد ومطاعم مكتظة ما دفع بالسلطات إلى التحذير من احتمال فرض تدابير إغلاق جديدة بعد الأعياد.
والمخاوف من تداعيات الاحتفالات واسعة النطاق، وتبرز مؤشرات كبيرة عن أن سلالات جديدة من الفيروس يمكن أن تجعل الأشهر المقبلة أكثر صعوبة.
وفي تمنياتها بمناسبة العام الجديد نبهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المواطنين إلى أن أزمة فيروس كورونا المستجد «التاريخية» يمكن أن تستمر في 2021 حتى مع الأمل الذي تحمله اللقاحات.
في البرازيل التي سجلت أكثر من 193 ألف وفاة بكوفيد - 19 ما يجعلها ثاني أكثر الدول المتضررة بالوباء في العالم، تنتظر الفرق الطبية الخائفة موجة جديدة.
في الأيام الأخيرة امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو تظهر أشخاص من دون كمامات أو أقنعة يستمتعون بقضاء أمسية في الخارج، كما عرضت القنوات التلفزيونية مشاهد لعناصر من الشرطة وهم يغلقون الحانات المليئة بالرواد.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)