عن 98 سنة، رحل مصمم الأزياء الفرنسي بيير كاردان، أمس، حسبما أعلنت عائلته لوكالة الصّحافة الفرنسية. وكان الرّاحل من أشهر الأسماء التي طبعت أناقة النساء والرجال بطابعها في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. واعتاد في سنواته الأخيرة أن يصف نفسه بأنّه «ديناصور»، وواصل تقديم مجموعاته والإشراف حتى النهاية على إمبراطورية الأزياء والبضائع الراقية التي تحمل توقيعه.
وُلد كاردان في إيطاليا لوالدين مزارعين هاجرا إلى فرنسا هرباً من الفاشية. وكان الأصغر بين 7 أبناء. وهو قد بدأ العمل خياطاً في سن الرابعة عشرة وتمكن من تحقيق أقصى ما يمكن من نجاح في بلد المهجر بحيث جرى انتخابه في الأكاديمية للفنون. وبفضل اتساع نشاطه تعاملت وسائل الإعلام الباريسية معه بوصفه الرجل الخارق. فهو المصمم الذي تعدت شهرته حدود بلاده وانتشر اسمه في أربعة أطراف العالم. وقد اختارته منظمة «اليونيسكو» سفيراً للنوايا الطيبة. ذلك أنّه كان متعدّد الاهتمامات، فهو فنان وخياط يعشق الجمال، وصاحب مطعم «مكسيم» الشهير في باريس مع فروعه في العالم، وتاجر يملك شركات تنتج مئات البضائع التي تحمل اسمه، من أقلام الحبر حتى الشباشب. وهناك من يرى أن كاردان جمع شهرة تشبه انتشار مشروب «كوكا كولا» في القارات. وهو أيضاً واحد من القلائل الذين امتد بهم العمر حتى شاهد، بأم عينيه، متحفاً يحمل اسمه وهو ما زال على قيد الحياة.
كان كاردان أوّل من شحن طائرة بالفساتين الجميلة والعارضات العالميات وسافر بها إلى بكين ليقدم عرضاً للأزياء في العاصمة الصينية الشيوعية التي لم تكن بعد قد انفتحت على الغرب. وقد تمكّن من أن يجعل عارضاته يتمخطرن على جدار الصين العظيم. ومن الصين طارت العارضات إلى عدد من البلاد التي ألهمته خطوطه وألوانه وأقمشته. ويُشهد له أنّه أعلن في تسعينات القرن الماضي رغبته بتقديم عرض للأزياء في العاصمة بغداد، لكي يكسر الحصار الدُّولي المفروض على العراق.
بنى الرجل إمبراطورية مالية ضخمة. ولم يتزوج. وكثيراً ما تساءل المقربون منه عمّن سيرث المليارات بعد رحيل المصمم العجوز. فرغم استمراره بالعمل كل يوم، واستيقاظه في الصباح الباكر ليشرف على إمبراطوريته، فقد كان من الواضح في السنتين الأخيرتين أن التعب تسلّل إلى القامة الطويلة النحيلة. كان معتاداً أن يخرج على المنصة ليحيّي الجمهور، في نهاية كل عرض، مرتدياً بدلة سوداء مع منديل حريري في جيب الصدر. لكنّه في عرضه الأخير الذي قدمه عام 2016 قابل جمهوره مرتدياً حذاءً من القماش وسترة بنيّة فوق قميص بمربعات كبيرة، كأنّه خارج لينزّه كلبه على الرصيف.
اختار كاردان أن يقدم آخر عروضه للأزياء الراقية «هوت كوتور» في قصره في منطقة «فوكلوز». وهو القصر الذي كان منزلاً للماركيز دو ساد. وفي ذلك العرض قدم 200 زي عابر للمواسم، تختصر مسيرته على مدى 70 عاماً. وخلال تلك السنوات رحل رفاقه من كبار المصممين: ديور وكوريج وكارفن وسان لوران وجيفنشي وكينزو، ولم يبق من الكبار سوى باكو رابان، المصمم الإسباني الأصل الفرنسي الإقامة.
بدأ كاردان حياته العملية، عام 1947، متدرباً لدى «كريستيان ديور»، الرجل الذي كان القامة الأعلى في ميدان الأزياء الرّاقية. وفي بداياته، قدّم تنورات كلاسيكية ضيّقة ومستقيمة وبدلات رجالية ذات لون كحلي أو بنّي. هذا فيما يخص النهار، أمّا أناقة الليل فقد أرادها حريرية وهفهافة. وكان يقول إنّه يميل للفساتين ذات الثنيات الكثيرة. فقد كانت تصاميمه بسيطة لكن القَصة المميزة تمنحها انسدالاً جميلاً، لا سيما حين يكون القماش مختاراً من خامات رقيقة. وبعد ثلاث سنوات افتتح داراً للأزياء تحمل اسمه في الدائرة الثامنة من باريس.
غاب كاردان عن عدد من المواسم في سنوات سبقت عرضه الأخير. وقيل إنّه تقاعد وسيبيع دار الأزياء الخاصة به، كما انتشرت أخبار عن بيعه لمطعمه في باريس. لكنّ ماريز غاسبار، المديرة المسؤولة عن مجموعات «الهوت كوتور»، أكّدت أنّ مسيو كاردان ينفّذ تصاميم عروضه بنفسه ويتولى تضبيط الثياب على أجسام العارضات من دون الاستعانة بمساعدين. وهو أمر دفع الصّحافة إلى إغراقه بالمدائح التي ردّ عليها، بكل تواضع: «هذه هي الموهبة».
لم يتوقف كاردان عند حدود الصين بل اخترق روسيا ونثر فيها أزهار الأناقة الباريسية. وعن سبب اهتمامه بموسكو منذ سنوات طوال، قال إنّ الروس يملكون تاريخاً ممتداً من الموسيقى والعمارة والمجوهرات وفن «الباليه»، وهو، بوصفه سفيراً لـ«يونيسكو»، المنظمة الدّولية المعنية بالتربية والثّقافة والعلوم، وكذلك بوصفه عضواً في الأكاديمية الفرنسية للفنون، فإنّ التعامل مع روسا أمر طبيعي، عدا عن أنّ العلاقات التجارية معها تتوطد باستمرار. والحقيقة أنّه لم يكن طارئاً على موسكو ولم يمدّ لها اليد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بل بدأ التعاون معها منذ 40 سنة. وقد نقل إلى هناك مصانع الثياب التي يملكها، مستفيداً من الخبرات العريقة في الخياطة والتطريز ومن رخص الأيدي العاملة.
خلال حياته العملية المديدة، سخر بيير كاردان من قانون التقاعد الفرنسي الذي يمنح للموظف والعامل حق التوقف عن العمل في منتصف الستينات من العمر. وكان يؤمن بأنّ من حق الإنسان أن يستمر في النّشاط ما دام كان قادراً عليه. كان التصميم هو المخدر الذي يبقيه على قيد التنفس. وفي عام 2017، افتتح متجراً جديداً في شارع «روايال» في باريس، قريباً من ساحة «الكونكورد». كما كان يرى نفسه الرّائد الذي أنزل الموضة من برجها العاجي، وذلك عندما قدّم قبل نصف قرن أول مجموعة للثياب الجاهزة، فانخفضت أسعار القطع وباتت في متناول فئات أوسع من الزبائن. وكان يحبّ أن يكرّر: «أنا من جعل الموضة ديمقراطية».
رحيل بيير كاردان... شيخ مصممي الأزياء في باريس
أنزل الموضة من برجها العاجي ووضع اسمه على مختلف البضائع
رحيل بيير كاردان... شيخ مصممي الأزياء في باريس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة