مقتنيات نادرة توثّق للطب الشعبي بالعصر الإسلامي في مصر

«طاسة الخضة» وكؤوس الحجامة من بين معروضات «داء ودواء»

مجموعة متنوعة من المعروضات (الشرق الأوسط)
مجموعة متنوعة من المعروضات (الشرق الأوسط)
TT

مقتنيات نادرة توثّق للطب الشعبي بالعصر الإسلامي في مصر

مجموعة متنوعة من المعروضات (الشرق الأوسط)
مجموعة متنوعة من المعروضات (الشرق الأوسط)

رحلة مختلفة بين عوالم الطب الشعبي وأدوات النظافة الشخصية في العصر الإسلامي يرسم تفاصيلها متحف الفن الإسلامي بالقاهرة عبر معرضه المؤقت «داء ودواء» الذي يسلط الضوء على أبرز أدوات الطب الشعبي والنظافة الشخصية في فترات مختلفة من العصر الإسلامي عبر عرض مجموعة من المقتنيات النادرة التي يؤرخ بعضها لدور الطب البديل وأدوات النظافة في مجابهة الأوبئة في عصور سابقة.
يضم المعرض الذي يستمر حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) الحالي 89 قطعة تراثية من مقتنيات المتحف، ويهدف إلى بث روح الأمل وقدرة البشرية على مواجهة (كوفيد - 19)، مثلما حدث خلال العصور السابقة وفقاً للدكتور ممدوح عثمان، مدير عام متحف الفن الإسلامي، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «عرض قطع أثرية متنوعة تركز على الطب الشعبي وأدواته المختلفة، وكذلك أدوات النظافة الشخصية، يهدف إلى تذكير الجمهور بأن البشرية تنجح دائماً في مواجهة الأوبئة طوال التاريخ، والتأكيد على أهمية النظافة الشخصية ودورها في تجنب العدوى».
من بين القطع التراثية التي تسلط الضوء على أبرز أدوات الطب الشعبي، مجموعة من «طاسات الخضة» التي كانت تستخدم في علاج العديد من الأمراض، حيث شاع استخدام هذا النوع من الطاسات السحرية، والتي زُخرفت بنصوص مقروءة وأخرى غير مقروءة أو تعويذات خلال العصور الوسطى، وتفُيد الكتابات المقروءة بأنها تعالج العديد من الأمراض كالتسمم ولدغة الثعابين والعقرب والمغص والأمراض النفسية وكثير من الأمراض الأخرى، وكانت تعتمد طريقة استخدامها على وضع الماء أو التمر أو اللبن أو وصفة طبية بها قبل أن تعرض أثناء الليل للندى، حيث يلزم أن توضع في مكان مكشوف، ثم يشرب منها المريض في الصباح ويتكرر ذلك عدة مرات.
وتوثق مجموعة أدوات طبية من الزجاج على هيئة كؤوس زجاجية بمقبض تعود إلى القرن الثالث الهجري، لطريقة العلاج بالحجامة، وهي طريقة طبية قديمة كانت تُستخدم لعلاج كثير من الأمراض، وتعتمد على شفط الدم الفاسد باستخدام بعض الكؤوس الزجاجية على موضع الألم.
ويسلط المعرض الضوء على أهمية النظافة الشخصية من خلال مجموعة من القطع المتنوعة، بينها أمشاط من الخشب الملون والمزخرف «تستخدم في تمشيط شعر الرأس» تعود إلى الفترة ما بين القرنين التاسع والثاني عشر الهجري، ومجموعة أوان من الزجاج مختلفة الألوان والمقاييس، اسُتخدم بعضها كقنينة عطر توضع بين طيات العمامة أو داخل الأحزمة حول الخصر، أو كمكاحل لحفظ الكحل لتداوي العيون، تعود إلى العصر العباسي.
واحتلت مجموعة من المخطوطات الطبية القديمة التي كان يدون فيها كبار علماء الطب وصفات علاجية لمعظم الأمراض مكانة بارزة ضمن المعروضات، بينها مجموعة وصفات طبية للعلاج مكتوبة على البردي والورق تعود إلى العصر العباسي والحقبة المملوكية، وصفحات من مخطوط «الأدوية المفردة» لأبي جعفر الغافقي، يعود إلى الفترة ما بين القرنين السادس والثاني عشر الهجري، وعاش الغافقي في الأندلس، وكان من أشهر أطباء العصر الإسلامي، ومخطوط «دلائل الخيرات» الذي يعد أشهر مخطوطات العصر العثماني.
وفي محاولة لإبراز تأثير الأوبئة على الاقتصاد وقيمة العملة وأهمية الإجراءات الوقائية ضم المعرض مجموعة من المكاييل الخشبية والمقالم والأقلام والقوالب وأدوات غزل وزخرفة النسيج وبعض العملات الذهبية والنحاسية توضح التباين بين حالات الازدهار والتدهور الاقتصادي، ومدى تأثيره على الأوضاع الصحية والوقاية من الأمراض المختلفة في فترات متباينة من التاريخ الإسلامي، وكيف يتحكم الاقتصاد في النواحي الصحية والعلمية بالمجتمع بحسب هند حلمي، مدير إدارة المعارض بمتحف الفن الإسلامي، التي تقول لـ«الشرق الأوسط» إن «وجود بعض العملات والمكاييل ضمن المعروضات هدفه إبراز تأثير الأوبئة على الاقتصاد في العصر الإسلامي، وكذلك تأثيره على معظم تفاصيل الحياة، حيث تشكل القطع المعروضة في مجملها رحلة بين أروقة الطب الشعبي وأدوات النظافة ووسائل الوقاية من العدوى، وتأثير الأوبئة على جميع مجالات الحياة، وذلك للتأكيد على فكرة أهمية النظافة الشخصية والالتزام بالإجراءات الوقائية لتجاوز محنة (كوفيد - 19)».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)