الرحلة الطويلة والمثيرة لسيدة الشاشة العربية‬

فاتن حمامة خرجت منتصرة من أدوار مكررة إلى نجاحات كبرى

من فيلمها الأول «يوم سعيد»  -  وأخرى من «الخيط الرفيع»
من فيلمها الأول «يوم سعيد» - وأخرى من «الخيط الرفيع»
TT

الرحلة الطويلة والمثيرة لسيدة الشاشة العربية‬

من فيلمها الأول «يوم سعيد»  -  وأخرى من «الخيط الرفيع»
من فيلمها الأول «يوم سعيد» - وأخرى من «الخيط الرفيع»

وفاة الممثلة الكبيرة فاتن حمامة عن 83 سنة يعيد فتح الباب عريضا على تاريخ السينما العربية مرة جديدة وربما أخيرة. ممثلة قوية الأداء والشخصية ليس فقط في أدوارها التي تتطلب مثل هذه القوة، بل عبر الأدوار التي ظهرت فيها امرأة مستضعفة من حين لآخر. مرافعتها الجريئة في «أريد حلا» وشعور المذلة في «الحرام» (وبينهما سنوات كثيرة) هما قطبا تلك الموهبة التي تحلت بها، وكلاهما متعة للتعرف على سمات موهبة تستطيع أن تذهب بأدائها في أي اتجاه وتنجح.
انتمت الراحلة إلى عدة أجيال سينمائية متعاقبة. ترعرعت في زمن السينما التي لم يكن قد مضى على دوران عجلتها الإنتاجية على نحو متواصل سوى عقود قليلة، حيث مثلت بين أول أفلامها، وهو «يوم سعيد» للمخرج محمد كريم (1938)، وحتى نهاية الأربعينات، 24 فيلما.
مع قيام الثورة المصرية سنة 1952 واصلت العمل من دون انقطاع. كانت تحولت إلى واحدة من أبرز النجمات الشابات، وجاءت الخمسينات لتعزز وضعها. مثلت 50 فيلما في ذلك العقد؛ منها 11 فيلما بين 1950 و1952. في الستينات لعبت بطولة 12 فيلما فقط، كونها في الواقع لم تكن بحاجة لتأكيد نجوميتها واختبار حجم نجوميتها. 10 أفلام في السبعينات و3 في الثمانينات، و3 أخرى في التسعينات، والمجموع 102 فيلم‪.‬
بذلك، هي انطلقت أيام كان الموسيقار محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وأنور وجدي ملوك الفن المصري، وفي أيام خطا فيها محمود المليجي، الذي شاركها الظهور في أكثر من عمل مهم، خطواته الأولى، وعندما كان سراج منير وميمي شكيب وماري منيب وجوها مساندة تحيط بها في أكثر من عمل. وهذا كله كان أيام المخرج محمد كريم الذي تأصل بين مخرجي الثلاثينات إلى أن اعتزل سنة 1959.

* البداية
كانت في الثامنة من عمرها، وهي التي ولدت في 22 مايو (أيار) 1931، عندما وقفت أمام الكاميرا لأول مرة. كان ذلك في خامس فيلم من إخراج (وسيناريو) محمد كريم «يوم سعيد». بطولة الفيلم النسائية كانت لسواها: علوية جميل وفردوس محمد، والرجالية قادها محمد عبد الوهاب، وكان لعبد الوارث عسر دور مساند بدا فيه أكبر سنّا مما كان عليه، كما اعتاد في غالبية أفلامه إلى أن تقدم به العمر فعلا.
على النقيض، لم يكن أمام ابنة الثامنة، فاتن حمامة، سوى أن تشارك الأدوار. وهناك مشهد لافت يجمعها بالفنان محمد عبد الوهاب تنظر إليه وهو في محنته العاطفية. عيناها المتشبّثتان به وهي تنظر إلى الأعلى، تعكسان تلك النظرة المتألمة والمتفائلة معا.. نظرة نجدها لاحقا في أكثر من عمل لها.
لا هي ولا سواها كان يعرف ما يخبئه القدر لها، ولا كان تحولها إلى ممثلة في حسبان والدها أحمد حمامة عندما أخذها معه لحضور مسرحية من بطولة آسيا داغر وكانت في السادسة من عمرها. عندما ربحت مسابقة جمال للأطفال، شعر والدها بأن ابنته تستحق أن تظهر على الشاشة الفضية، فأرسل إلى المخرج محمد كريم بصورتها بعدما سمع بأنه يبحث عن طفلتين لفيلمه المقبل «يوم سعيد».
مرت 5 سنوات قبل أن يعود محمد كريم ليطلب وجهها. كانت الآن في الثالثة عشرة من العمر. لم يكن دور بطولة؛ إذ ذهب ذلك إلى الممثلة راقية إبراهيم في دور الفتاة التي يقع عبد الوهاب في حبها، بل في دور مساند أسوة بعلي الكسّار وسيد سليمان وبشارة واكيم وسراج منير. اللافت أن دور عبد الوهاب في هذين الفيلمين كان دور الفنان الفقير، وهو دور امتد ليصبح منوالا معتادا أَمّه لاحقا فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ على سبيل المثال.
لم يكن على فاتن حمامة أن تنتظر 5 سنوات أخرى، بل عادت في فيلم «أول الشهر» من بطولة حسين صدقي ومغنية وردت من لبنان وأصبحت نجمة في مصر هي صباح. دور أكبر كان بانتظارها في فيلمها الرابع «الملاك الأبيض»: تراجيديا ميلودرامية من إخراج إبراهيم عمارة مع حسين رياض وعلوية جميل وسراج منير. وفي الإطار الميلودرامي الخازن لمشكلات عاطفية، لعبت فاتن حمامة عددا متلاحقا من الأفلام من بينها «ملاك الرحمة» و«دنيا» و«نور من السماء» حيث الزوج الطيب والثري ينتهي مخدوعا من قبل الطامعين بماله فيضحي بعائلته قبل أن يدرك الخديعة ومغبة ما قام به.
ولم يختلف الوضع كثيرا عندما مُنحت فاتن حمامة فرصة بطولة أول فيلم لها وعنوانه «المليونيرة الصغيرة» سنة 1948. فيه هي ابنة عائلة من أصل تركي بالغة الثراء تتعلق بحب ضابط (رشدي أباظة)، الذي يبادلها الحب، لكنه يتراجع عن الزواج بها عندما يعلم مدى ثرائها. عليها الآن إقناعه بأنها لا تقيم وزنا للمال، بل للحب. تمردها على الأعراف الاجتماعية السائدة كان أحد ملامح أعمال مقبلة لها أيضا ومناسبة لإظهار قوة عزيمتها وشخصيتها.

* نقلة رائعة
على أهمية الدور، إلا أن هذا الفيلم لم يكن، من ناحية فنية صرفة، أفضل حالا مما سبق؛ ومنها «العقاب» و«خلود» و«اليتيمتين» وهذا الأخير (1948 أيضا) من إخراج حسن الإمام وفيه التوليفة التي سار عليها المخرج الراحل طويلا. أما «العقاب» فكان لقاء فاتن حمامة الأول مع المخرج الذي فضلته على كل من عملت معه هنري بركات.
في الإطار نفسه عاد يوسف وهبي لإدارتها في العام التالي بفيلم «كرسي الاعتراف» وفي «بيومي أفندي» (كان هو محور الفيلمين). ثم ها هي في فيلم يوسف شاهين الأول مخرجا وهو «بابا أمين». حينها لم يكن شاهين كشف عن شخصيته الفنية، والفيلم انتمى إلى تلك الأعمال الجماهيرية الصرفة التي لم تتقدم بالممثلة إلى الأمام. لكن شاهين تحسن سريعا وعاد إلى فاتن حمامة في «ابن النيل» حيث قدمت (ربما لأول مرة) أداء مشحونا بالرغبة في تجسيد تلك الشخصية التي تؤديها تجسيدا فاعلا.
حدث ذلك في عام 1951 الذي شهد انتصارا آخر لها، وذلك عندما اختارها صلاح أبو سيف لبطولة «لك يوم يا ظالم». ردد المخرج الراحل في تصريحاته: «كنت أرغب في تقديم هذه الممثلة التي عُرفت بأدوار البراءة في دور معاكس جدا. حين تحدثت إليها عارضا دور الابنة الشريرة في (لك يوم يا ظالم) خافت. لم تكن اعتادت على مثل هذا الدور. لكني طمأنتها للنتيجة واقتنعت».
دورها هنا نقلة رائعة من التمثيل الرومانسي إلى النضج الدرامي. كانت تزوجت، سنة 1947 من المخرج عز الدين ذو الفقار الذي كانت لديه مفاهيمه المختلفة عن كل من يوسف شاهين وصلاح أبو سيف، فقدّمها في فيلمين عاديي الأثر هما «أبو زيد الهلالي» و«موعد مع الحياة» حيث منسوب المادة الترفيهية يرتفع وحده. لذلك جاء عملها مع شاهين وأبو سيف بمثابة خشبة خلاص من تكرار أدوار ابنة المدينة الشابة التي تفتح قلبها للحب وتحصد متاعبه بعد ذلك.لم يتوقف هذا المنوال من الأعمال ولم ينته. مع وجود تقليد عريض من العمل بشروط السينما السائدة، لم يكن محتملا أن تبتعد فاتن حمامة عن مثل تلك الأدوار غير المتعمقة أو تنبذها. فظهرت في أعمال كوميدية لفطين عبد الوهاب (مثل «الأستاذة فاطمة») وتراجيدية لحسن الإمام («كأس العذاب») ودرامية لعز الدين ذو الفقار («سلوا قلبي») وكلها في عام 1952. لكن إلى جانب هذه الوفرة من الأفلام السريعة (بينها فيلم آخر من بطولتها لجانب يوسف وهبي وهو «المهرج الكبير» كما حققه يوسف شاهين) كان هناك فيلم آخر لمخرج ممتاز من الصف الأول هو كمال الشيخ الذي كان ينتظرها بفيلم من كتابة علي الزرقاني هو «المنزل رقم 13».

* اختيارات
كل من حسن الإمام وعز الدين ذو الفقار وجمال مدكور عاد إليها خلال الخمسينات، وهي الفترة التي أصبحت فيها النجمة الأولى بين الممثلات. هذا لم يكن يخلو من منافسة بينها وبين ماجدة ولاحقا بينها وبين سعاد حسني. لكن لقب «سيدة الشاشة العربية» كان بدأ يلتصق بها في ذلك الحين. لقب عززته اختياراتها من الأعمال.. فإلى ذلك الحين، لم يكن المخرج هو الهم الذي تلتفت إليه، ولا الأسلوب الفني لأي من المخرجين.. السينما، في حسبانها، كانت الترفيه المتوجه مباشرة، ومن دون عناء يذكر، إلى الجمهور عبر أفلام عاطفية أو كوميدية تنجز ما تعد الجمهور به.
بالتلاؤم مع كل هذا، ونتيجة له في الوقت نفسه، وجدنا فاتن حمامة تختار من الشخصيات ما يضعها غالبا في دور سيدة القرار. حتى حين تكون حائرة بين عاطفتين، فإنها لا تنجرف أو تنحاز وقلما تخطئ، وإن فعلت، فإن ذلك لن يشوّه صورتها لأنها ستكون ضحية اعتداء ما سيمكنها من استدعاء التعاطف المنشود، وهذا تحديدا ما وقع عندما اختارها هنري بركات لبطولة فيلمه «الحرام» في منتصف الستينات التي قالت عنه في لقاء نادر نشرته «الأهرام»: «أحببت شخصية البطلة جدا. وبمجرد أن قرأت الرواية وافقت عليها فورا».
مما مكنها أيضا من حمل لواء «سيدة الشاشة العربية» هو أنها منذ النصف الثاني من الخمسينات وما بعد، أخذت تعمل بجهد للاشتراك في أعمال ذات مصادر أدبية. حينها كان الأدب فاعلا مؤثرا في السينما، والكثير من أعمال عبد الحميد جودة السحار ويوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس.. وسواهم، انتقلت إلى الشاشة، وكانت فاتن حمامة من بين من مثل في عدد ملحوظ منها. «الحرام» مثلا من تأليف يوسف إدريس، و«الله معنا» لإحسان عبد القدوس وكذلك حال «الطريق المسدوس» (1957)، ثم «دعاء الكروان» من أعمال طه حسين (أخرجه أيضا هنري بركات).
في كل ذلك، نرى أنه لم يكن هناك من سبيل إلا الاشتراك مع طاقم النجوم الكبار من الذكور أيضا. هي لعبت أمام عماد حمدي وأمام شكري سرحان ومع عمر الحريري ومحمود مرسي ورشدي أباظة وفريد شوقي ومحمود المليجي وأحمد مظهر و(لاحقا) محمود ياسين وبالطبع عمر الشريف.

* مع عمر الشريف ومن دونه
فاتن حمامة تصرفت على نحو يعكس معرفتها بقدرها ومكانتها منذ منتصف الخمسينات عندما كانت رغبة المخرج يوسف شاهين الإتيان بالممثل محسن سرحان لكي يشاركها بطولة «صراع في الوادي» (1954)، لكن فاتن حمامة عارضت، مما دفع بالمخرج للاستعانة بالممثل عمر الشريف بديلا. وهو لم يكن قد ظهر في أي فيلم من قبل، لكن ظهوره مع فاتن حمامة ضرب وترين: على الشاشة ظهرا ثنائيا شابا مندفعا وقابلا للتصديق، فالفيلم يدور حول الجديد ضد القديم.. الفلاح ضد الباشا.. الحب ضد الرغبة في التملك. ومن ناحية ثانية، كان ذلك بداية حب متبادل أوصلهما سريعا إلى طريق الزواج بعدما تطلقت الممثلة من المخرج ذو الفقار وإن عملت معه لاحقا في كثير من الأفلام.
بعد «صراع في الوادي» ظهرت حمامة وعمر الشريف في «أيامنا الحلوة» (1955)، و«صراع في الميناء» (1956)، و«سيدة القصر» (1958)، ثم حصل «لورنس العرب» سنة 1962: المخرج البريطاني ديفيد لين كان يبحث عمن يلعب دور الأمير علي في ذلك الفيلم، ولم يكن عمر الشريف اختياره الأول، لكنه كان الاختيار الأكيد، وكان الفيلم الذي خلق من عمر الشريف نجما عالميا. لكن مع كل فيلم هوليوودي أو فرنسي كان الشريف يقوم بتمثيله (وهو ظهر في 15 فيلما أجنبيا ما بين 1962 و1972 وأكثر من ذلك فيما بعد) كان التباعد يقع بينه وبين الممثلة التي كانت رفضت تقبيل أي ممثل شاركها البطولة قبل أن ترضى أن يقبلها الشريف في «صراع في الوادي».
ستبقى حكايتهما العاطفية شأنا عاما يتردد صداها في المجلات الفنية حتى من بعد أن بات الفراق واقعا. بعض المتابعين لمثل هذه الشؤون الشخصية يؤكدون أن فاتن حمامة لم تعد هي ذاتها بعد ذلك الفراق. كانت قبلت عذر غياب عمر الشريف في السنوات الأولى على أساس أنه ممثل يستحق ما يحققه من نجاح، لكن لاحقا غمرها الحزن على ما ساد علاقتهما من فتور. في عام 1966، وهو العام التالي لقيام عمر الشريف ببطولة «جنكيز خان» وقبل ولوجه بطولة «دكتور زيفاغو»، ظهرت فاتن حمامة في «شيء في حياتي» لهنري بركات عن قصة ليوسف السباعي وأمام وجه جديد اسمه إيهاب نافع. ثم انقطعت عن العمل 3 سنوات لتعود في 4 أفلام متتابعة في عامي 1970 و1971 وهي «الحب الكبير» عن سيناريو كتبه (وأخرجه) بركات وأمام فريد الأطرش ويوسف وهبي، و«الساحرة» مع عادل إمام وصلاح ذو الفقار، و«الخيط الرفيع» لهنري بركات أيضا، و«رمال من ذهب» ليوسف شاهين (لجانب دريد لحام ونهاد القلعي).
إنها الفترة الأقل إلهاما بالنسبة للنجمة المرموقة. لا فيلما هنري بركات (أكثر من وثقت بهم من المخرجين) كانا جيدين، ولا فيلم يوسف شاهين كان مهما، و«الساحرة» مر عابرا من دون أثر. في تلك الفترة، كان نجوم الستينات ما زالوا يؤدون الأدوار ذاتها التي كانوا يؤدونها في سنوات الشباب: عماد حمدي ومحمود ياسين وفريد شوقي وأحمد رمزي ورشدي أباظة، من الرجال، وماجدة وسميرة أحمد وشادية من الممثلات. فاتن حمامة وجدت نفسها ضمن هذا الإطار، ولم تستطع أن تمتنع. صحيح أنها حافظت على قدر كبير من الأنفة واللياقة لاعبة دور سيدة راشدة، إلا أن بعض أدوار تلك الفترة كان يمكن لها أن تقع لها وهي في العشرينات والثلاثينات من عمرها.

* النهاية
ما أنقذ هذا الوضع دخول المخرج حسين كمال على الخط ناقلا إلى الشاشة رواية إحسان عبد القدوس «إمبراطورية ميم» سنة 1972 التي تتحدث عن امرأة مات زوجها وعليها تحمل مسؤولية الإشراف على 6 أولاد تعيلهم من خلال عملها في وزارة التربية. معالجة صادقة النيات في طرحها الاجتماعي للمشكلتين الفردية والعامة وجدت فاتن حمامة فيها الدور الملائم لها تماما. وهو، إلى حد بعيد، كان واحدا من آخر وأهم نجاحاتها السينمائية.
بعده فيلم آخر لبركات وهو العاطفي «حبيبتي» الذي كان اللقاء الثاني بين ثلاثة جمعتها مع محمود ياسين بدءا بـ«الخيط الرفيع» وانتهاء بـ«أفواه وأرانب».
في عام 1975 وضعها المخرج الراحل منذ أشهر قريبة سعيد مرزوق في بطولة فيلم آخر من تلك النجاحات الكبيرة المتأخرة وهو «أريد حلا» (1975): دور ناضج آخر أدت فيه دور سيدة متزوجة تتقدم للمحكمة بطلب الطلاق، ويسبر الفيلم الأسباب الموجبة. معها في البطولة رفيق المهنة رشدي أباظة، وكلاهما كان في السن المناسب والخبرة الرائعة لمنح الفيلم قوة المضمون الاجتماعي المهم.
لكن سيبقى بركات أكثر المخرجين الذين تعاملوا معها تقرّبا فنيا مما طمحت إليه. سيبقى صاحب المعالجة الرشيقة المناسبة لصورتها الأنثوية الرومانسية وهو فهم ذلك وأم المطلوب منه لتأمين هذه الغاية بصرف النظر عن مستوى الأفلام التي أخرجها لها: «الحرام» كان رائعا، لكن معظم ما حققه معها أو بعيدا عنها، لم يصل إلى مستواه.
الثاني بين أكثر المتعاملين معها كان عز الدين ذو الفقار، وهو منحها الخامة العاطفية والاجتماعية بأسلوب مختلف عن ذاك الذي أمّنه بركات. ولم تشتغل كثيرا تحت إدارة كمال الشيخ ولا صلاح أبو سيف، لأسباب محض فنية، لكن أفلامها القليلة مع يوسف شاهين لم تكن بدورها أفضل أفلامه أو أنضجها. الغالب أنها لم تكن على اتفاق معه بشأن طروحاته التي كانت سياسية أكثر منها عاطفية، وذاتية المنطلق أكثر منها حكايات عامّة. بعد تمكنها من الشهرة كانت، وبخيار صائب من وجهة نظر عملية، تنشد أفلاما تكون هي والبطل المواجه محورها. شاهين لم يكن مخرجا نسائيا كما كان بركات، لذا كان من الطبيعي أن يتوقف التعاون بينهما خصوصا مع توجه شاهين المتزايد لتقديم أفلام تعبر عن وجهة نظره وتتوجه إلى معجبيه في المجال الأول.
هل سيخلف رحيل فاتن حمامة فراغا كبيرا؟
بلا شك.. لكن هذا الفراغ ليس جديدا.. الموت هو ختام مرحلة كانت انتهت عمليا من قبل، فهي التزمت البيت وابتعدت عن الأضواء منذ مسلسلها «وجه القمر» سنة 2000. كان العام نهاية عقد وقررت أن يكون نهاية مشوار أيضا.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».