ثقافة العالم ما بين العقل والجنون

نظرة في «فوبيا» إعادة التجارب وتراكم الأخطاء

ثقافة العالم ما بين العقل والجنون
TT

ثقافة العالم ما بين العقل والجنون

ثقافة العالم ما بين العقل والجنون

تعاني العلوم الإنسانيّة المعاصرة ومنها السيكولوجيا –أو علم النفس- من «فوبيا إعادة التجارب»، إذ كثيراً ما يجد علماء النفس عندما يعيدون إجراء تجربة ما، أنهم يحصلون على نتائج مختلفة كل مرّة. ولذا يعتقد بعض المفكرين أنّ علم السيكولوجيا المعاصر يعيش بالفعل أزمة وجوديّة حادة في غياب صيغة نظرية شاملة تحدد طبيعة الاستجابات التي يجب أن نتوقعها عند إجراء التجربة، الأمر الذي ينتهي إلى تراكم الأخطاء وتسجيل العديد من القراءات غير الصحيحة.
ويعتقد أستاذ في جامعة هارفارد أنّ كثيراً من السلوكيّات البشريّة التي يعتقد علماء الإنسانيّات -سواء في السيكولوجيا أو الاقتصاد وغيرها- بعالميتها إنما هي في الحقيقة مرتبطة بالسياق الثقافي المحدد للشخص، ونظرته للحياة والعالم وفق تنشئته الاجتماعيّة في محيطه المحلي. ويذهب جوزيف هنريتش الذي وضع كتاباً أثار جدلاً واسعاً حول «أغرب الناس في العالم!» إلى أنّه وجد كل ادّعاء تقريباً بشأن السيكولوجيا والسلوك الإنساني حول دراسة الأشخاص الغريبين في العالم ينطلق حصراً من وجهة نظر غربية مرتبطة عضوياً بالعالم الأول ومجتمعاته الثريّة والمتطورة ومؤسساته الديمقراطية، بينما أصحاب هذه النظرة وبحكم المنطق البار المحض أقلية تمثل استثناء أصلاً بالنسبة إلى المجموع الكلّي للبشرية ولذلك يسميهم «الغريبين» – من الغرابة.
وإذا كان يمكن وضع سمات عمومية لهؤلاء (الغريبين) مقارنةً بغالبية سكان العالم الآخرين فهم أكثر فردية ومهووسون بأنفسهم ويقدمون طموحاتهم وإنجازاتهم الفردية على أدوارهم الاجتماعيّة، وأَمْيَل إلى التحّكم بعواطفهم، واتّباع القواعد والتعليمات العامة، ويثقون بالغرباء بسرعة لكنهم يتجنبون تقديم مساعدات استثنائية لأفراد العائلة أو الأصدقاء ويَنْحون إلى الشعور بالذنب -للفشل في تلبية المعايير التي فرضوها على ذواتهم وفق الآيديولوجية السائدة- أكثر من شعورهم بالعار (لخذلانهم الآخرين من حولهم). ويجادل هنريتش بأن لحظة تشكّل المسيحيّة الغربيّة نحو العام 400 ميلاديّة جلبت معها تحولات كبرى في بنية العائلة ونظام الزّواج وطريقة رؤية العالم، كانت حاسمة لجهة إطلاق مناخ سيكولوجي جديد مختلف عبر القرون مثل الأرضيّة التي نبتت منها الفردانيّة والرأسماليّة والديمقراطيّة بنسختها الليبرالية.
وعنده لذلك فإن «التحولات السيكولوجية في ثقافة المجتمعات كأنها بمثابة سائل خفيّ يجري من وراء الكواليس وعبر الحقب التاريخيّة المتعاقبة».
ويشير مجموع أعمال هينريتش إلى «أن بيئة المجتمع الثقافيّة وتقاليده ومؤسساته تتقاطع على مستوى ما لتؤثر بعمق في سيكولوجية أفراده، بل تترك بصماتها على تكوينهم البيولوجي». وبالفعل فإنه من المثبت الآن –وفق هينريتش- أن تعليم القراءة والكتابة للأفراد في إطار التنشئة الاجتماعيّة مثلاً يتسبب في تضّخم ذلك الجزء الرابط في الدّماغ بين نصفيه الأيمن والأيسر، ويُحدث تحولات في بنية الأجزاء المسؤولة عن التفكير والرؤية والكلام على نحو يؤدي بالمتعلمين إلى الميل لتقسيم المشاهد والمسائل إلى أجزاء بدلاً من صيغتها الكليّة، ولذلك هم أقلّ قدرة –عموماً– من رفاقهم غير المتعلمين على تمييز الوجوه، وتغلب عليهم سمة التفكير التحليلي المجزّأ بدلاً من رؤية الأمور على شموليتها.
لكن هينريتش يأخذ الجدل لأبعد من ذلك، فيذهب إلى اعتبار أن محاولة تطبيق معايير غربيّة المنبت على شعوب من ثقافات أخرى لا يخدم قضية تلك الشعوب بأي صيغة، إنما يتسبب لها بضغوط وصعوبات لا داعي لها. ولعل المثال الأهم الذي يطرحه -ويثير حنق كثيرين على مقارباته– مسألة حقوق الإنسان، حيث يزعم بأن حقوق الأفراد وفق المفهوم الغربي لا تتوافق سيكولوجياً مع أبناء كثير من الشعوب غير الغربية، وهو رأي لطالما عرّضه للانتقادات من دعاة حقوق الإنسان الغربيين الذين وضعوه في مكانة المهرطق، فيما دافع عن نفسه في كتابه الأخير بقوله: «كما كل العلوم، فإن خلاصاتي تحتمل رة بمنطق عالم المستعمِر ونسقه الثقافي وطريقة تفكيره بالعالم، وهو ما يجعل المقاومة بالحد من استعمال لغة المستعمِر نوعاً من قهر الذّات الموضوعيّة، وتنازعاً مستمراً وتفاوضاً لا ينتهي عند استعمال كل مفردة، أو بناء الجملة، ناهيك باقتراف الفكر أو تعاطي الإبداع.
توصيف فانون لهذا التداخل بين اللّغة والذّاتية والواقع في صياغة الإنسان كان بوابة دلف منها إلى كل القضايا الأساسية التي تشكل مجمل السيكولوجيا البشريّة كالجنس والعرق والآيديولوجيا العنصرية والأخلاق والموسيقى والأزياء والدّين والتكوين الاجتماعي والعائلي والحقبة التاريخيّة وغيرها.
ولعلّ أكثر ما يلفت في تحليل فانون –المتعدد المستويات فلسفياً وسياسياً– أنه لم يكن تنظيراً محضاً، بقدر ما كان نتيجة تجارب عاشها بدايةً كمارتيني يحمل الجنسيّة الفرنسيّة وتطوّع ليقاتل الغزو النازي الألماني ولم يُقبَل مع ذلك بين الفرنسيين قطّ، ولاحقاً بعدما تأهّل في الطبّ النفسي وانتقل للممارسة في مستشفيات شمال أفريقيا (تونس والجزائر) ليجد أن أدوات التحليل السيكولوجي التي أتقنها في جامعات فرنسا لا يعوّل إطلاقاً عليها في التعامل مع أناس من خارج الفضاء الثقافي – الاجتماعي الأوروبي، وقاس بنفسه كم كانت المنظومة الاستعمارية قد شوّهت نفسيّات المستعمَرين وأسقطتهم في اغتراب عن أنفسهم: فلا الأوجاع هي أوجاع الأوروبي، ولا التكوين –العضوي– هو تكوينه، وإنما هو شيء هجين ملتبس ملفّق -يقوم على أساس استنساخ أنماط سلوكية تلقائيّة مستوردة باعتباطية- ولا يمكن الخلاص منه دون نضال وإرهاق.
وللحقيقة، فإن تحليل فانون في 1952 لا يزال راهناً وذا صلة بعد ستة عقود من كتابته رغم انحسار الكولونيالية الاستعمارية المعلنة عن معظم مناطق العالم الثالث، إذ لا تزال المرجعيات السلوكيّة في مختلف ساحات العلاقات الاجتماعية والثقافيّة وترتيبات القوّة تعكس إلى حدٍّ كبير تراث الاستعمار الأوروبي التاريخي، كما نسخة الهيمنة المعاصرة لقيم أميركا الشمالية وأوروبا الغربية المرتبطة بالليبرالية الجديدة.
ومع أن هنريتش وفانون يختلفان تماماً في منطلقاتهما الفكريّة، فإنهما وصلا عبر مسارات مختلفة إلى ذات الاستنتاجات (الكليّة). وربما ذلك متأتٍّ أساساً من كونهما لم يقعا في نظام التشظي المعرفي الغربي القائم على التخصص الدقيق، بل خاض كل منهما -على طريقته وفي مكانه- معركة كسر الحدود بين العلوم للوصول إلى قراءة واقعيّة للسلوك الإنساني في البيئات المتفاوتة دون الخضوع للأحكام المسبقة.



مسرحية «5 دقايق» تختصر زمن الوفاء للأهل بـ50 دقيقة

مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)
مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)
TT

مسرحية «5 دقايق» تختصر زمن الوفاء للأهل بـ50 دقيقة

مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)
مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)

تختصر المخرجة مايا سعيد زمن الوفاء للوالدين بمسرحية «5 دقايق». اختارت عرضها في موسم عيد الميلاد، الموعد نفسه الذي خسرت فيه والدها. فكرّمته على طريقتها ضمن نص بسيط ومعبّر، يترك أثره عند متابعه ويتسلل إلى مشاعره من دون أن تفرض عليه ذلك. لا مبالغة في الوقت ولا في الحوارات.

رسالة إنسانية بامتياز تمرّ أمامك بـ50 دقيقة لتستوعب هدفها في الدقائق الخمس الأخيرة منها. على مسرح «ديستركت 7» في بيروت يقام العرض. ومع بطلي المسرحية طارق تميم وسولانج تراك وضعت مايا سعيد الشخصيتين اللتين يؤديانهما بتصرفهما، فأدركا دقّة معانيهما بحيث جسّداهما بعفوية تليق بخطوطهما.

مسرحية «5 دقايق» تحية تكريمية في ذكرى من نحبّهم (مايا سعيد)

بحوارات تميل إلى الكوميديا رغبت مايا سعيد في إيصال رسالتها المؤثرة. لم تشأ أن تحمّل المشاهد همّاً جديداً. ولا أن تُغرقه بمشاعر الأسى والحزن. فموسم الأعياد يجب أن يطبعه الفرح، ولكن لا بأس إذا ما تحررنا من أحاسيس حبّ مكبوتة في أعماقنا، وتكمن أهميتها بمنبعها فهي آتية من ذكرى الأهل.

تحكي المسرحية عن ليلة ميلادية تقتحم خلالها سيدة غريبة منزل «الأستاذ حرب»، فتقلبه رأساً على عقب بالشكلين الخارجي والداخلي. وتجري أحداث العمل في مساحة ضيقة على خشبة تتزين بديكورات بسيطة. وتتألّف من شجرة عيد الميلاد وكنبة وطاولة. وإذا ما تفرّجنا على هذا المكان بنظرة ثلاثية الأبعاد، سنكتشف أن الخشبة تُشبه شاشة تلفزيونية. فحلاوتها بعمقها وليس بسطحها العريض. مربّعة الشكل يتحرّك فيها البطلان براحة رغم ضيق المكان. يشعر المشاهد بأنه يعيش معهما في المكان والزمان نفسيهما.

وتعلّق مايا سعيد، كاتبة ومخرجة العمل، لـ«الشرق الأوسط»: «ينبع الموضوع من تجربة شخصية عشتها مع والدي الذي رحل في زمن الميلاد. وعندما تدهورت حالته الصحية عاش أيامه الخمسة الأخيرة فاقداً الذاكرة. ومثله مثل أي مريض مصاب بألزهايمر لم يكن في استطاعته التعرّف إليّ. وهو أمر أحزنني جداً».

من هذا المنطلق تروي مايا سعيد قصة «5 دقايق». وضمن أحداث سريعة وحوارات تترك غموضاً عند مشاهدها، يعيش هذا الأخير تجربة مسرحية جديدة. فيحاول حلّ لغز حبكة نصّ محيّرة. ويخيّل له بأنها مجرّد مقتطفات من قصص مصوّرة عدّة، ليكتشف في النهاية سبب هذا التشرذم الذي شرّحته المخرجة برؤية مبدعة.

طارق تميم يجسّد شخصية مصاب بألزهايمر ببراعة (مايا سعيد)

وتوضح مايا سعيد: «رغبت في أن يدخل المشاهد في ذهن الشخصيتين وأفكارهما. وفي الدقائق الخمس الأخيرة وضعته في مكان الشخص الذي يعاني من مرض الطرف الآخر. أنا شخصياً لم أتحمّل 5 أيام ضاع فيها توازن والدي العقلي. فكيف لهؤلاء الذين يمضون سنوات يساعدون أشخاصاً مصابون بمرض ألزهايمر».

وعن الصعوبة التي واجهتها في إيصال رسالتها ضمن هذا العمل تردّ: «كان همّي إيصال الرسالة من دون سكب الحزن والألم على مشاهدها. فنحن خرجنا للتو من حرب قاسية. وكان ذلك يفوق قدرة اللبناني على التحمّل. من هنا قرّرت أن تطبع الكوميديا العمل، ولكن من دون مبالغة. وفي الوقت نفسه أوصل الرسالة التي أريدها بسلاسة».

يلاحظ مشاهد العمل طيلة فترة العرض أن نوعاً من الشرود الذهني يسكن بطله. وعرف طارق تميم كيف يقولبه بحبكة مثيرة من خلال خبرته الطويلة في العمل المسرحي. وبالتالي كانت سولانج تراك حرفيّة بردّ الكرة له بالأسلوب نفسه. فصار المشاهد في حيرة من أمره. وتُعلّق مايا سعيد في سياق حديثها: «طارق وسولانج ساعداني كثيراً في تلقف صميم الرسالة. فتقمصا الشخصيتين بامتياز بحيث قدماهما أجمل مما كُتب على الورق».

ضمن نص معبّر تدور«5 دقايق» (مايا سعيد)

طيلة عرض المسرحية لن يتوصّل مشاهدها إلى معرفة اسمي الشخصيتين. فيختلط عليه الأمر في كل مرة اعتقد بأنه حفظ اسم أحدهما. وكانت بمثابة حبكة نص متقنة كي يشعر المشاهد بهذه اللخبطة. وتستطرد مايا: «لا شك أن المسرحية تتضمن مفاتيح صغيرة تدلّنا على فحوى الرسالة. والتشابك بالأسماء كان واحداً منها».

حاولت مايا سعيد إيصال معاني عيد الميلاد على طريقتها. وتختم: «لهذا العيد معانٍ كثيرة. وأردتها أن تحمل أبعاداً مختلفة تخصّ الأشخاص الذين نحبّهم حتى لو رحلوا عنّا. فغيابهم يحضر عندنا في مناسبات الفرح. وبهذا الأسلوب قد ننجح في التعبير لهم عن ذكراهم في قلوبنا».