تغيرات ثورية لم نشهد منها حتى الآن سوى قمة جبل الجليد

عرّاب منتدى {دافوس} يكتب من داخل مشغله الفكري

كلاوس شواب
كلاوس شواب
TT

تغيرات ثورية لم نشهد منها حتى الآن سوى قمة جبل الجليد

كلاوس شواب
كلاوس شواب

نشهد في أيامنا هذه معالم متزايدة تنبئ بمقدم الثورة الصناعية الرابعة التي ستعيد تشكيل عالمنا لا على الصعيد التقني فحسب، بل ستمتد مفاعيلها لتشمل إعادة صياغة وجودنا البشري وكينونتنا الذاتية عبر تداخل غير مسبوق بين المنظومات البيولوجية والمادية؛ وهو الأمر الذي ينبئ بتغيرات ثورية لم نشهد منها سوى قمة الجبل الجليدي، وستتوالى المشهديات غير الاعتيادية لها في السنوات القليلة القادمة، وربما قد نشهد حلولا (متفرّدة تقنية Technological Singularity) ستمثل انعطافة كبرى في شكل الوجود البشري والبيئة التي تحيا وسطها الكائنات الحية.
تمثل مؤلفات البروفسور كلاوس شواب Klaus Schwab - كما أحسب - مؤلفات نوعية متفردة في ميدان الثورة الصناعية الرابعة؛ لكونه يتحدّث من داخل المشغل الفكري الذي تساهم فيه أفضل العقول البحثية الأكاديمية والقائدة لقطاع التقنيات العالمية؛ وأعني بذلك ملتقى دافوس العالمي. البروفسور شواب مهندس واقتصادي ألماني وهو المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس»، المنظمة الدولية غير الربحية المستقلة المكلفة بتطوير العالم عن طريق تشجيع الأعمال والسياسات العلمية والتقنية. وُلد شواب في 30 مارس (آذار) 1938 في مدينة (رافنزبورغ) الألمانية، وفي العام 1971 أسس منتدى الإدارة الأوروبية الذي أصبح في 1987 المنتدى الاقتصادي العالمي، وقد أراده شواب أن يكون مؤسسة ريادية تلتزم بتطوير الوضع العالمي فضلاً عن كونها مركزاً عالمياً لقادة الأعمال والسياسة والفكر.
ألّف شواب كتابين عن الثورة الصناعية الرابعة: الأوّل هو (الثورة الصناعية الرابعة The Fourth Industrial Revolution) عام 2017. والثاني بعنوان (تشكيل مستقبل الثورة الصناعية الرابعة Shaping the Future of the Fourth Industrial Revolution) عام 2018. الكتاب الثاني هو مدار موضوعنا هنا.

- ثورة مميزة عن سابقاتها
يؤكد شواب في تقديمه الاستهلالي للكتاب أننا نقفُ اليوم على عتبة ثورة تقنية ستُحدثُ تغييراً جوهرياً في الطريقة التي نحيا بها ونعمل ونتعامل مع بعضنا، وبقياس حجمها ومداها وتعقيدها فإنّ هذه الانعطافة التغييرية لن تكون مماثلة لأي انعطافة سابقة تعامل معها النوع البشري من قبلُ. لا نعرفُ تماماً حتى يومنا هذا الكيفية التي ستتكشّفُ بها هذه الانعطافة؛ لكن هناك أمرٌ واحدٌ واضحٌ بذاته تمام الوضوح: لا بد من أن تكون استجابتنا لهذه الانعطافة متكاملة وشاملة تشملُ كل البشر وجميع نظم الحكم العالمية، وينبغي أن تمتدّ لتضمّ القطاعات العامة والخاصة وميدانَي الأكاديمية والمجتمع المدني.
وظّفت الثورة الصناعية الأولى طاقة الماء والبخار لأجل مكننة الإنتاج؛ في حين استخدمت الثورة الصناعية الثانية القدرة الكهربائية لتخليق الإنتاج واسع النطاق، واستفادت الثورة الصناعية الثالثة من الإلكترونيات والتقنية المعلوماتية لأجل أتمتة عمليات الإنتاج الواسع. تعمل الثورة الصناعية الرابعة في أيامنا هذه على توظيف مخرجات الثورة الصناعية الثالثة التي يمكن توصيفها بالثورة الرقمية التي بدأت بواكيرها منذ منتصف القرن الماضي، وتمتاز هذه الثورة الرابعة بأنها تشبيكٌ لطائفة من التقنيات التي تتجاوز الحدود الفاصلة بين النطاقات المادية والرقمية والبيولوجية.
هناك ثلاثة أسبابٍ تقف وراء اعتبار التحوّلات التقنية الراهنة أمراً أعظم من محض امتداد طبيعي للثورة الصناعية الثالثة؛ بل إنها تنبئ عن مقدم ثورة رابعة مميزة عن سابقاتها، وتكمن هذه الأسباب الثلاثة في سرعة التغيير، ونطاقه، وتأثيره على النظم التقنية السائدة.
يشير شواب إلى أنّ الإمكانات المتاحة لمليارات البشر بواسطة أجهزة الاتصال النقّالة (الموبايلات) هي إمكانات لا حدود لها من حيث قدرة المعالجة المعلوماتية غير المسبوقة، وسعة التخزين المعلوماتية، وإمكانات الحصول على المعرفة، وستتضاعفُ هذه الإمكانات غير المسبوقة بواسطة الانعطافات التقنية الناشئة في حقول محدّدة على شاكلة الذكاء الصناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، وعربات النقل ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتقنية المصغّرات (النانوتكنولوجي)، والتقنية الحيوية (البايوتكنولوجي)، وعلوم المواد المخلّقة صناعياً، ووسائل تخزين الطاقة، والحوسبة الكمومية.
يمثل الذكاء الصناعي وتطبيقاته خصيصة مميزة في عصر الثورة الصناعية الرابعة: يبدو الذكاء الصناعي محيطاً بنا أنى وجّهنا أنظارنا في أيامنا هذه: من السيارات ذاتية القيادة والطائرات المسيّرة (الدرونات Drones) إلى وسائل المساعدة الافتراضية والبرامج الحاسوبية (السوفت وير) التي تعيننا على ترجمة اللغات أو الاستثمار في ميادين محدّدة. حصل تقدّم مدهش في ميدان الذكاء الصناعي خلال السنوات الراهنة، وتحقق هذا التقدّم بدفعٍ من الزيادات الأسيّة المتسارعة في القدرة الاحتسابية بسبب توفّر مقادير هائلة من البيانات إلى جانب تزايد أعداد البرامج الحاسوبية المستخدمة لتصنيع عقاقير جديدة، ولتوافر خوارزميات Algorithms مستحدثة لها القدرة على التنبؤ بالتوجهات الثقافية التي نميل لها أكثر من سواها، وفي الوقت ذاته لا تنفكّ تقنيات التصنيع الرقمية تتفاعل بطريقة مؤثرة مع العالم البيولوجي على نطاق يومي، ويمضي المهندسون والمصممون والمعماريون في تعشيق التصميم الاحتسابي والتصنيع المؤتمت وهندسة المواد والبيولوجيا التركيبية لأجل بلوغ الريادة في بلوغ تعايش Symbiosis بين الكائنات المجهرية وأجسادنا والمنتجات التي نستهلكها؛ بل وحتى مع الأبنية التي نستوطنها.

- صراعات اجتماعية
تمتلك الثورة الصناعية الرابعة القدرة على رفع مستويات المداخيل العالمية والارتقاء بنوعية حياة الناس في عموم العالم، وهي في هذا الشأن تشبه ما فعلته الثورات الصناعية الثلاث التي سبقتها. من الواضح في وقتنا هذا أنّ الذين تحصّلوا على الفائدة الأعظم من الثورة الرابعة هم القادرون على ولوج بوابات العالم الرقمي والتعامل معه بكفاءة ومقدرة؛ ولكن برغم هذه الحقيقة فإنّ التقنية الحديثة أتاحت تخليق منتجات وخدمات جديدة وسّعت من مديات الكفاءة والمُتع المتاحة لحيواتنا الشخصية؛ فقد باتت فعاليات يومية على شاكلة طلب سيارة أجرة، أو حجز مقعد على طائرة، أو شراء منتج ما، أو طريقة دفع مالي محدّدة، أو الاستماع لموسيقى، أو مشاهدة فيلم، أو الانغماس في لعبة إلكترونية... إلخ فعاليات يمكن أداؤها بسهولة عبر أماكن متباعدة عن بعضها.
يؤكّد شواب أنْ ليس بمستطاعنا في هذه اللحظة الراهنة توقّعُ أي السيناريوهات هو الأكثر احتمالاً لأن يسود المشهد المستقبلي القادم فيما يخصّ الأتمتة المتزايدة في مقابل تناقص مديات العمالة البشرية. يكتب شواب في هذا الشأن:
ينبئنا التاريخ أنّ السيناريو الناتج سيكون على الأرجح خليطاً من نوعٍ ما من الاثنين (أي أتمتة متزايدة بالإضافة إلى شكل ما من العمالة البشرية)؛ لكن برغم هذا فأنا واثق من أمر واحد على أقلّ التقديرات جوهرهُ أنّ الموهبة البشرية في المستقبل سيكون لها دورٌ أعظم من رأس المال في تشكيل العنصر الحرج الخاص بعملية الإنتاج، وسيعمل هذا العنصر على نشوء سوق عمل شديدة الاستقطاب والتنافر بين فئتين: فئة (مهارة منخفضة - أجر منخفض) وفئة (مهارة عالية - أجر عالٍ)، وهذا أمرٌ سيقود بدوره إلى تعاظم حدّة الصراعات الاجتماعية.
إذا ما شئنا إجمال جوهر الثورة الصناعية الرابعة فيمكن القول - كما يرى شواب - أنّ الانزياح العنيد من الرقمنة digitization البسيطة (الممثلة للثورة الصناعية الثالثة) نحو الفعاليات الابتكارية المتأسّسة على خليط من التقنيات (وهو ما يمثّلُ جوهر الثورة الصناعية الرابعة) هو أمرٌ يُرغِمُ الشركات والأفراد معاً على إعادة اختبار طريقة أداء الأعمال، فضلاً عن أنماط التفكير المستجدة وسط بيئة تقنية دائمة التغيّر.

- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن


مقالات ذات صلة

«كوب 16» يختتم أعماله بالموافقة على 35 قراراً لتعزيز جهود مكافحة التصحر

الاقتصاد صورة جماعية للمشاركين في مؤتمر «كوب 16» في اختتام أعماله (واس)

«كوب 16» يختتم أعماله بالموافقة على 35 قراراً لتعزيز جهود مكافحة التصحر

أنتج مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16) الذي عقد في الرياض، 35 قراراً حول مواضيع محورية.

عبير حمدي (الرياض)
خاص ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

خاص قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

يقف عام 2025 عند منعطف محوري مع تنامي المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين ووسط استمرار التوترات الجيوسياسية.

هلا صغبيني (الرياض)
الاقتصاد امرأة على دراجتها الهوائية أمام «بورصة بكين»... (رويترز)

تراجع تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة... والصين الأكبر تضرراً

من المتوقع أن يشهد النمو العالمي تباطؤاً في عام 2025، في حين سيتجه المستثمرون الأجانب إلى تقليص حجم الأموال التي يوجهونها إلى الأسواق الناشئة.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد برج المقر الرئيس لبنك التسويات الدولية في بازل (رويترز)

بنك التسويات الدولية يحذر من تهديد الديون الحكومية للأسواق المالية

حذّر بنك التسويات الدولية من أن تهديد الزيادة المستمرة في إمدادات الديون الحكومية قد يؤدي إلى اضطرابات بالأسواق المالية

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد متداولون في كوريا الجنوبية يعملون أمام شاشات الكومبيوتر في بنك هانا في سيول (وكالة حماية البيئة)

الأسواق الآسيوية تنخفض في ظل قلق سياسي عالمي

انخفضت الأسهم في آسيا في الغالب يوم الاثنين، مع انخفاض المؤشر الرئيسي في كوريا الجنوبية بنسبة 2.3 في المائة.

«الشرق الأوسط» (هونغ كونغ )

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.