«بيروت ترنّم» يلون أحزان لبنان بالفرح

يفتتح نسخته الـ13 مع عبد الرحمن الباشا

عازف البوق إبراهيم معلوف
عازف البوق إبراهيم معلوف
TT

«بيروت ترنّم» يلون أحزان لبنان بالفرح

عازف البوق إبراهيم معلوف
عازف البوق إبراهيم معلوف

13 عاماً مرّت على انطلاق مهرجانات «بيروت ترنّم» وسط العاصمة. ففي شهر ديسمبر (كانون الأول)، من كل عام تحيي مجموعة حفلات موسيقية تلوّن من خلالها شهر الأعياد في بيروت. فتستعين بنجوم محليين وآخرين من الغرب ليعزفوا ويغنوا مجاناً، ويزودوا اللبنانيين بلغة حوار ترتكز على الموسيقى. وهذه السنة تمسكت إدارة المهرجان ممثلة برئيستها ميشلين أبي سمرا بإحياء المهرجان في نسخته الـ13، رغم الأوضاع المتردّية التي تخيّم على العاصمة. فهي لا تزال تلملم شظايا انفجار المرفأ، وتئن تحت ثقل أزمة اقتصادية قاسية، وتعاني كغيرها من دول العالم من الشلل بسبب جائحة «كورونا». وابتداء من غد تنطلق الأمسيات الفنية لهذا الحدث الذي يستمر لغاية 23 منه موزّعة نشاطات برنامجها بين كنائس العاصمة وأماكن عامة فيها. واستعانت أبي سمرا بباقة من النجوم اللبنانيين لإحياء هذه الحفلات أمثال الموسيقيين عبد الرحمن الباشا وغي مانوكيان وإبراهيم معلوف. وكذلك بأصوات فنانين لبنانيين من المستوى الرفيع كعبير نعمة وجاهدة وهبي وغادة شبير وماتيو خضر. ومن الغرب تأتي مشاركة عازفين عالميين لتكون بمثابة دعم لبيروت التي يحبون. من البرازيل سيحضر التينور باولو باوليلو ومن فرنسا عازف التشيللو هنري دي ماركيت. ومن إيطاليا وسويسرا دانييلا كمارانو على الكمان وكزافييه دي ميتر على آلة الـ«Harp».
وتشيد ميشلين أبي سمرا بالدعم الذي لاقته من سفارات الغرب في لبنان، من أجل إحياء هذه المهرجانات. وتقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «في الحقيقة الجميع تفاعل معنا من فنانين وعازفين ومغنيين عالميين ومحليين. ولعبت السفارات الغربية دورا بارزا في دعمنا، وفي تسهيل مجيء نجوم من بلادها للمشاركة في هذا الحدث». وتتابع: «لقد تمسكنا بإقامة النسخة الـ13 من المهرجان لأنّنا نؤمن بلبنان الثقافة والفن، ولا نريده أن يفقد موقعه هذا بين الدول الأخرى. فنحن نصرّ على إبقاء هذه الصورة الإيجابية ترافق بلدنا مهما بلغت مآسيه. فإذا فقد لبنان مركزه وهويته في هذا الإطار، يصبح من الصعب استعادتهما في مستقبل غامض لا نعرف ماذا يحمل لنا».
التدابير الوقائية المأخوذة في ظل الجائحة تتصدّر اهتمامات منظمي المهرجان. وتوضح أبي سمرا في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «الجائحة صعّبت علينا تنفيذ الحفلات كما في الماضي. فحضرت إجراءات جدّية نتبعها ونطبّق شروط الحفاظ على الحدّ من العدوى. فهناك عمليات تعقيم ستشهدها أماكن الحفلات قبل وبعد حصولها. كذلك سيمنع دخول الناس لحضورها من دون وضع الأقنعة وتطهير اليدين وأخذ حرارة الجسم. وسنلتزم بالتباعد الاجتماعي بحيث لا نسمح بتجمعات كبيرة فنخفف عدد الحضور إلى الربع كي يكونوا بأمان».
وترى ميشلين أبي سمرا أنّ الموسيقى هي نوع من العلاج النفسي، يرتقي بهواتها إلى عالم حواري من نوع آخر. وتضيف: «الموسيقى غذاء الروح ونحن نعرف تماماً مدى حاجة اللبناني اليوم إلى هذا الغذاء، كي يتخلّص من حالتي الإحباط والكآبة المسيطران عليه بفعل أزمات كثيرة يواجهها».
شهد المهرجان تعاوناً ملحوظاً من قبل النجوم الذين يشاركون فيه. «بعضهم قدّم مهاراته تكريماً لبيروت من دون أي مقابل مادي. وبعضهم الآخر طلب مبالغ مالية رمزية لإحياء حفلاته. فيكفي أنّهم لبّوا دعوتنا رغم كل ما يجري على أرضنا. فلم يترددوا في المجيء إلى لبنان والإقامة فيه، شعورا منهم بحاجة أهالي لبنان إلى جرعة الأمل الموسيقية التي يقدمونها لهم».
يُفتتح المهرجان غدا بحفل للموسيقي اللبناني العالمي عبد الرحمن الباشا، المقبل في كنيسة مار يوسف في شارع مونو البيروتي. ويجتمع في المكان نفسه في اليوم الثاني للمهرجان فريق كورال عدد من الجامعات في لبنان ونجوم عالميين ليقدموا حفلا موسيقيا من معزوفات العالمي موزارت مهدى إلى ضحايا انفجار بيروت. وفي اليوم الثالث يطلّ عازف البوق إبراهيم معلوف على محبيه في أسواق بيروت ضمن حفل يقام في الهواء الطلق في شارع العجمي. ويحيي عازف البيانو طارق يمني في 15 ديسمبر (كانون الأول) حفلا موسيقيا في المكان نفسه مع مكرم أبو الحصن على آلة الباص، وخالد ياسين على الدرامز.
ومن وحي أعياد الميلاد تقام أمسية موسيقية في 18 ديسمبر (كانون الأول) في مار مارون الجميزة، تشارك فيها فرق من جامعات لبنانية مختلفة. وفي الموضوع نفسه تقدّم فاديا طنب وأفراد عائلتها حفلا غنائيا مميزا في 21 ديسمبر (كانون الأول) تنشد خلاله مجموعة أغانٍ من وحي مناسبة الأعياد ودائما في كنيسة مار مارون الجميزة.
وبين 16 و20 ديسمبر (كانون الأول) تحيي كل من ماتيو الخضر وجاهدة وهبة وغادة شبير، حفلات غنائية، يختمها غي مانوكيان في 20 ديسمبر (كانون الأول) ضمن حفلة موسيقية يقيمها في أسواق بيروت.
ويلوّن برنامج المهرجان تحية تكريمية لأرمينيا من لبنان، يحييها عازفون أرمن على آلات الكمان والتشيللو والفيولا في 22 ديسمبر (كانون الأول) في كنيسة القديس نيشان وسط بيروت. ويختتم المهرجان فعالياته مع السويسري كزافييه دي ميتر حيث سيعزف على آلة الـ«Harp» مجموعة مقاطع موسيقية عالمية.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».