أنتوني بلينكن... ابن عائلة مهنتها السياسة وتعرف دروب واشنطن

شعار «أميركا أولاً» قد ينجو رغم اعتراضه عليه

أنتوني بلينكن... ابن عائلة مهنتها السياسة وتعرف دروب واشنطن
TT

أنتوني بلينكن... ابن عائلة مهنتها السياسة وتعرف دروب واشنطن

أنتوني بلينكن... ابن عائلة مهنتها السياسة وتعرف دروب واشنطن

(وقوع اختيار الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن على أنتوني بلينكن لمنصب وزير الخارجية، لم يكن مفاجئاً؛ فالرجل الذي بدأ مسيرته السياسية مبكراً، وبوتيرة مستمرة منذ ما يزيد على الثلاثين سنة، تمكن منذ فترة من حجز مقعده مع الجيل الجديد للمنظومة السياسية التي تدير سياسات واشنطن. لا، بل أقام بلينكن علاقات وطيدة مع دفّتي هذه «المنظومة - الطبقة»، ما مكّنه من الحصول بسهولة على موافقة مجلس الشيوخ الأميركي لتعيينه نائباً لوزير الخارجية في عهد باراك أوباما من عام 2015 إلى 2017. بغالبية 55 صوتاً مقابل 38، ليحل محل ويليام بيرنز إثر تقاعد الأخير. ثم من 2013 إلى 2015 كان بلينكن نائب مستشار الأمن القومي، وقبل اختياره وزيراً للخارجية كان لا يزال متعاقداً مع محطة «سي إن إن»، كمحلل للشؤون العالمية. وأثناء إدارة الرئيس بيل كلينتون، خدم في وزارة الخارجية وفي مناصب عليا في مجلس الأمن القومي. وكان أيضاً زميلاً أقدم في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (2001 - 2002)، ومديراً للموظفين الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي (2002 - 2008)، وعضواً في فريق أوباما - بايدن الانتقالي من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 إلى يناير (كانون الثاني) 2009، ومن عام 2009 إلى عام 2013، شغل بلينكن منصب نائب مساعد الرئيس ومستشار الأمن القومي لنائب الرئيس.
وُلِد أنتوني جون بلينكن في مدينة نيويورك يوم 16 أبريل (نيسان) 1962 لأبوين يهوديين، هما جوديث فرهام والدبلوماسي دونالد بلينكن. وفي صغره التحق بمدرسة دالتون الخاصة الراقية في نيويورك حتى عام 1971، ثم بمدرسة جينين مانويل في باريس التي انتقل إليها مع والدته المطلّقة وزوجها الجديد المحامي صموئيل بيسار، وهو من أصل بولندي وأحد الناجين من الهولوكوست.
بعد ذلك التحق بلينكن بجامعة هارفارد العريقة، حيث شارك في تحرير مجلتها الأسبوعية الفنية «ذي هارفارد كريمزون». وإثر تخرّجه بدرجة البكالوريوس، كتب لصحيفة «ذي نيو ريبابليك»، ودرس القانون في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا وتخرّج فيها عام 1988. ومن ثم، مارس المحاماة بعد تخرجه في كل من مدينتي نيويورك وباريس. وفي الوقت نفسه انجذب للسياسة، وإبان الحملة الرئاسية عام 1988، عمل بلينكن مع والده دونالد في جمع التبرّعات للمرشح الرئاسي الديمقراطي مايكل دوكاكيس.
في عام 1995، التقى بلينكن بزوجته المستقبلية إيفان رايان عندما كان يعمل في البيت الأبيض كاتب خطابات السياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي، وكانت هي مديرة مواعيد السيدة الأولى هيلاري كلينتون. وواصلت رايان العمل مع كلينتون خلال حملتها الانتخابية في مجلس الشيوخ، ثم مع بايدن عندما كان نائباً للرئيس مساعدةً للشؤون الحكومية الدولية. ومن 2013 إلى 2017 مساعدة لوزير الخارجية للشؤون التعليمية والثقافية. وعام 2002، تزوجا في حفل يهودي - مسيحي ترأّسه حاخام وكاهن في كنيسة الثالوث المقدس بواشنطن العاصمة حضرته كلينتون. أخت بلينكن غير الشقيقة، ليا بيسار، تعيش الآن في نيويورك، ولديها أيضاً منزل في فرنسا، وترأس مجلس إدارة «مشروع علاء الدين»، وهي منظمة غير ربحية مقرها باريس تعمل على تعزيز التفاهم بين الثقافات. وعملت أيضاً في وزارة الخارجية ومديرة الاتصالات في مجلس الأمن القومي خلال إدارة كلينتون.
- عائلة سياسة ودبلوماسية
يتندّر معارف بلينكن بأن العمل الحكومي مهنة عائلية؛ إذ إنه بينما عمل عم بلينكن سفيراً للولايات المتحدة لدى بلجيكا، كان والده سفيراً في المجر، وزوج أمه صموئيل بيسار مستشاراً للرئيس جون كينيدي وكذلك لرؤساء فرنسيين. وفي مقابلة عام 2013 مع صحيفة «واشنطن بوست»، وصف بيسار الذي أصبح محامياً دولياً شهيراً وصديقاً مقرّباً من الرؤساء الفرنسيين، كيف طلب منه بلينكن عندما كان مراهقاً في باريس أن يسمع عن تجاربه أثناء الحرب. وقال: «لقد أراد أن يعرف. لقد استوعب ما حدث لي عندما كنت في مثل عمره، وأعتقد أن الأمر أعطاه بُعداً آخر ونظرة أخرى على العالم، وما يمكن أن يحدث هنا». وأضاف: «عندما يتعين عليه أن يقلق بشأن الغازات السامة في سوريا، فإنه يفكر حتماً بالغاز الذي قضى على عائلتي كلها».
من مواقف أنتوني بلينكن في مجلس الأمن القومي إبان عهد أوباما، وكنائب لوزير الخارجية، دعوته إلى مزيد من التدخل الأميركي القوي في الصراع السوري. يُذكر عنه أنه اختلف مع بايدن داعماً التدخل المسلح في ليبيا، حين كان مستشاره الخاص للأمن القومي. وكان أيضاً مساعِداً مقرباً من بايدن عندما دعم الأخير الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ولا يزال يعتقد أن الدبلوماسية يجب أن «تُستكمل بالردع»، وأن «القوة يمكن أن تكون عنصراً مساعداً ضرورياً للدبلوماسية الفعالة». ولذا، فإنه انتقد بشكل صريح تراجع أوباما بعد التهديد بعملية عسكرية في سوريا رداً على هجمات النظام الكيميائية، وقال إن «القوة العظمى لا تخدع العالم». وأضاف: «لقد سعينا عن حق إلى تجنُّب عراق آخر من خلال الامتناع عن عمل الكثير، لكننا ارتكبنا الخطأ المعاكس المتمثل في عمل القليل جداً».
ثم في أبريل 2015 أعرب بلينكن عن دعمه للتدخل بقيادة السعودية في اليمن. وقال: «كجزء من هذا الجهد، قمنا بتسريع تسليم الأسلحة، وزدنا تبادل المعلومات الاستخباراتية، وأنشأنا خلية تخطيط تنسيق مشتركة في مركز العمليات السعودي». ومع أن البعض اعتبر تعيينه مؤشراً إلى أن بايدن يريد العودة إلى سياسات أميركية مألوفة يسهل توقُّعها، يجدر القول إن تلك السياسات تعرضت للانتقاد حتى من الديمقراطيين أنفسهم، الذين أعلنوا أن التراجع عن سياسات الرئيس دونالد ترمب، وإن كانت هدفاً رئيسياً، فإن فوزه عام 2016 أجبرهم على التشكيك بصواب معتقداتهم السابقة.
من جهة ثانية، في كل مسألة رئيسية تتعلق بالسياسة الخارجية، من الإرهاب والاتفاق النووي مع إيران والمناخ والأوبئة والتجارة والصين، يكرر بلينكن القول: «على الولايات المتحدة أن تعمل مع حلفائها، وضمن المعاهدات والمنظمات الدولية». ويرى أن القيادة الأميركية في المؤسسات متعددة الأطراف ضرورية «فالمشاركة بل والقيادة الأميركية ضرورية أكثر من ذي قبل».
- أميركا... اللاعب الدولي
بلينكن كان جزءاً من الفريق الذي ساعد في التفاوض على «اتفاق باريس للمناخ» و«الاتفاق النووي الإيراني»، و«الشراكة عبر المحيط الهادئ»، التي كانت جزءاً من محور استراتيجي في آسيا، وكلها تراجع ترمب عنها. إلا أنه في مقابلة قبل الانتخابات، قال إن فوز بايدن «يرسل هزة إيجابية قوية عبر النظام الدولي بأن أميركا عادت. ولكن بعد ذلك عليك التصرّف بناءً على ذلك». وأضاف أن ترمب تسبب في توتر التحالفات العالمية، وعزل الولايات المتحدة في كثير من الأحيان على الساحة العالمية، بطريقة ستختبر قدرة إدارة بايدن على تحديد نهجها الدبلوماسي.
على صعيد آخر، السنوات التي أمضاها بلينكن في باريس مكّنته من إتقان اللغة الفرنسية وتعزيز إيمانه بعلاقات التواصل مع أوروبا، وهو بالفعل من أشدّ المؤمنين بالتحالف عبر الأطلسي. وهو يعتبر أوروبا «شريكاً حيوياً» ويعارض خطط إدارة ترمب سحب القوات الأميركية من ألمانيا، واصفاً إياه «بالخاسر الاستراتيجي لأنه يضعف حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ويساعد فلاديمير بوتين، ويضرّ بألمانيا أهم حليف لنا في أوروبا». كذلك نقل عن بلينكن قوله: «إن المعضلة المركزية هي أن العالم الآن يتطلب عملاً جماعياً أكثر وليس أقل. ومع ذلك، فإن القومية المتصاعدة تقوّض الإيمان بالحكومات والمؤسسات المتعثرة، وتجعل التعاون الدولي الذي نحتاج إليه أصعب من أي وقت مضى».
هي إذا عناوين قد لا تختلف كثيراً عن التقديرات التي كانت، ولا تزال، تشير إلى أن موقع الولايات المتحدة ودورها في العالم قد تعرّضا للاهتزاز. وهو ما يتطلب منها جهداً وتعاوناً مع حلفائها وأصدقائها لإعادة بناء هذا الموقع على أسس تأخذ في الاعتبار المتغيرات الدولية، على قاعدة احترام أسس الديمقراطية الغربية. وهنا يقول عدد من المسؤولين المقربين من بايدن إن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، التي تدهورت إلى أدنى مستوياتها التاريخية خلال فترة ترمب، لا يمكن إعادة ضبطها بسهولة. ويتوقع هؤلاء أن يواصل بايدن (على الأرجح) مواجهة الصين، كما فعل ترمب في مجالات مثل الأمن وتكنولوجيا الجيل الخامس، لكنه سيسعى أيضاً إلى التعاون في الأمور الحاسمة مثل منع الانتشار النووي وتغيّر المناخ.
هنا يقول بلينكن: «الإدارة ستأخذ وقتها في اكتشاف الصين، وسنحتاج للتمهل لإعادة تركيز أنفسنا في موقع قوة يمكننا من التعامل مع الصين وفقاً لشروطنا بدلاً من شروطهم». ويضيف: «بكل المقاييس الرئيسية، موقف الصين الآن أقوى وموقفنا أضعف. هذا نتيجة قيادة ترمب، التي ساعدت أفعاله في دعم معظم استراتيجية الصين الهادفة إلى إضعاف التحالفات الأميركية وسحب أميركا من العالم وترك فراغ تملأه الصين... وهذا ما أعطاها (أي الصين) الضوء الأخضر للدوس على حقوق الإنسان والديمقراطية من سنكيانغ إلى هونغ كونغ».
- تركيا وإيران وقضايا أخرى
يعتبر بلينكن تركيا حليفاً في «الناتو» يتوجب على الولايات المتحدة «إيجاد طرق للعمل معها بشكل أكثر فاعلية». وسبق له أن أيّد دعم واشنطن لأنقرة في حربها ضد حزب العمال الكردستاني. وفي 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قال لصحيفة «جويش انسايدر» إن إدارة بايدن ستواصل «العقوبات غير النووية ضد إيران»، كتحوّط قوي ضد سوء السلوك الإيراني في مجالات أخرى. وحول إسرائيل، قال في 17 يونيو (حزيران) الماضي إن بايدن «لن يربط المساعدة العسكرية لإسرائيل بأشياء مثل الضم أو قرارات أخرى للحكومة الإسرائيلية قد لا نتفق معها»، مشيداً باتفاقات التطبيع التي توسّطت فيها إدارة ترمب بين إسرائيل والإمارات العربية والبحرين والسودان. وفي 19 نوفمبر الحالي، أعرب بلينكن عن قلقه إزاء التقارير المتعلقة بتصعيد التوترات العرقية في إقليم تيغراي الإثيوبي، وحث على حل سلمي للنزاع فيها. ورأى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «فوضى تامة».
مع ذلك، أشار بلينكن وآخرون إلى أن عصر التدخل الأميركي ربما يتلاشى. وبينما رفض بشدة فلسفة ترمب التي يختصرها شعار «أميركا أولاً»، لا يزال كثيرون في مؤسسة السياسة الخارجية يتصارعون مع ما سيأتي بعد ذلك. إذ قال بلينكن في مقال مشترك كتبه العام الماضي مع روبرت كايغان (من معهد بروكينغز): «الحقيقة أنه مهما كان التسامح الذي أبداه معظم الأميركيين تجاه الدور العالمي الذي تبنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه بدأ يتلاشى مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وما حطمته الحروب في العراق وأفغانستان والأزمة المالية لعام 2008». وأردف: «مَن سيفوز بالمنصب في 2020 سيجد صعوبة في مخالفة هذا الشعار الذي سبق ترمب، والذي يُرجح أن يستمر». وهو مثل بايدن، يعتقد أن الأولوية الأولى هي إعادة ترتيب البيت الأميركي. وقال شخص مطلع على تفكيره، إن أحد الأشياء الأساسية التي تعلمها بلينكن خلال عهد ترمب، هو أن الجماعات الخارجية لديها القدرة على التأثير بشكل أكبر على السياسة الخارجية.


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.