(وقوع اختيار الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن على أنتوني بلينكن لمنصب وزير الخارجية، لم يكن مفاجئاً؛ فالرجل الذي بدأ مسيرته السياسية مبكراً، وبوتيرة مستمرة منذ ما يزيد على الثلاثين سنة، تمكن منذ فترة من حجز مقعده مع الجيل الجديد للمنظومة السياسية التي تدير سياسات واشنطن. لا، بل أقام بلينكن علاقات وطيدة مع دفّتي هذه «المنظومة - الطبقة»، ما مكّنه من الحصول بسهولة على موافقة مجلس الشيوخ الأميركي لتعيينه نائباً لوزير الخارجية في عهد باراك أوباما من عام 2015 إلى 2017. بغالبية 55 صوتاً مقابل 38، ليحل محل ويليام بيرنز إثر تقاعد الأخير. ثم من 2013 إلى 2015 كان بلينكن نائب مستشار الأمن القومي، وقبل اختياره وزيراً للخارجية كان لا يزال متعاقداً مع محطة «سي إن إن»، كمحلل للشؤون العالمية. وأثناء إدارة الرئيس بيل كلينتون، خدم في وزارة الخارجية وفي مناصب عليا في مجلس الأمن القومي. وكان أيضاً زميلاً أقدم في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (2001 - 2002)، ومديراً للموظفين الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي (2002 - 2008)، وعضواً في فريق أوباما - بايدن الانتقالي من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 إلى يناير (كانون الثاني) 2009، ومن عام 2009 إلى عام 2013، شغل بلينكن منصب نائب مساعد الرئيس ومستشار الأمن القومي لنائب الرئيس.
وُلِد أنتوني جون بلينكن في مدينة نيويورك يوم 16 أبريل (نيسان) 1962 لأبوين يهوديين، هما جوديث فرهام والدبلوماسي دونالد بلينكن. وفي صغره التحق بمدرسة دالتون الخاصة الراقية في نيويورك حتى عام 1971، ثم بمدرسة جينين مانويل في باريس التي انتقل إليها مع والدته المطلّقة وزوجها الجديد المحامي صموئيل بيسار، وهو من أصل بولندي وأحد الناجين من الهولوكوست.
بعد ذلك التحق بلينكن بجامعة هارفارد العريقة، حيث شارك في تحرير مجلتها الأسبوعية الفنية «ذي هارفارد كريمزون». وإثر تخرّجه بدرجة البكالوريوس، كتب لصحيفة «ذي نيو ريبابليك»، ودرس القانون في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا وتخرّج فيها عام 1988. ومن ثم، مارس المحاماة بعد تخرجه في كل من مدينتي نيويورك وباريس. وفي الوقت نفسه انجذب للسياسة، وإبان الحملة الرئاسية عام 1988، عمل بلينكن مع والده دونالد في جمع التبرّعات للمرشح الرئاسي الديمقراطي مايكل دوكاكيس.
في عام 1995، التقى بلينكن بزوجته المستقبلية إيفان رايان عندما كان يعمل في البيت الأبيض كاتب خطابات السياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي، وكانت هي مديرة مواعيد السيدة الأولى هيلاري كلينتون. وواصلت رايان العمل مع كلينتون خلال حملتها الانتخابية في مجلس الشيوخ، ثم مع بايدن عندما كان نائباً للرئيس مساعدةً للشؤون الحكومية الدولية. ومن 2013 إلى 2017 مساعدة لوزير الخارجية للشؤون التعليمية والثقافية. وعام 2002، تزوجا في حفل يهودي - مسيحي ترأّسه حاخام وكاهن في كنيسة الثالوث المقدس بواشنطن العاصمة حضرته كلينتون. أخت بلينكن غير الشقيقة، ليا بيسار، تعيش الآن في نيويورك، ولديها أيضاً منزل في فرنسا، وترأس مجلس إدارة «مشروع علاء الدين»، وهي منظمة غير ربحية مقرها باريس تعمل على تعزيز التفاهم بين الثقافات. وعملت أيضاً في وزارة الخارجية ومديرة الاتصالات في مجلس الأمن القومي خلال إدارة كلينتون.
- عائلة سياسة ودبلوماسية
يتندّر معارف بلينكن بأن العمل الحكومي مهنة عائلية؛ إذ إنه بينما عمل عم بلينكن سفيراً للولايات المتحدة لدى بلجيكا، كان والده سفيراً في المجر، وزوج أمه صموئيل بيسار مستشاراً للرئيس جون كينيدي وكذلك لرؤساء فرنسيين. وفي مقابلة عام 2013 مع صحيفة «واشنطن بوست»، وصف بيسار الذي أصبح محامياً دولياً شهيراً وصديقاً مقرّباً من الرؤساء الفرنسيين، كيف طلب منه بلينكن عندما كان مراهقاً في باريس أن يسمع عن تجاربه أثناء الحرب. وقال: «لقد أراد أن يعرف. لقد استوعب ما حدث لي عندما كنت في مثل عمره، وأعتقد أن الأمر أعطاه بُعداً آخر ونظرة أخرى على العالم، وما يمكن أن يحدث هنا». وأضاف: «عندما يتعين عليه أن يقلق بشأن الغازات السامة في سوريا، فإنه يفكر حتماً بالغاز الذي قضى على عائلتي كلها».
من مواقف أنتوني بلينكن في مجلس الأمن القومي إبان عهد أوباما، وكنائب لوزير الخارجية، دعوته إلى مزيد من التدخل الأميركي القوي في الصراع السوري. يُذكر عنه أنه اختلف مع بايدن داعماً التدخل المسلح في ليبيا، حين كان مستشاره الخاص للأمن القومي. وكان أيضاً مساعِداً مقرباً من بايدن عندما دعم الأخير الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ولا يزال يعتقد أن الدبلوماسية يجب أن «تُستكمل بالردع»، وأن «القوة يمكن أن تكون عنصراً مساعداً ضرورياً للدبلوماسية الفعالة». ولذا، فإنه انتقد بشكل صريح تراجع أوباما بعد التهديد بعملية عسكرية في سوريا رداً على هجمات النظام الكيميائية، وقال إن «القوة العظمى لا تخدع العالم». وأضاف: «لقد سعينا عن حق إلى تجنُّب عراق آخر من خلال الامتناع عن عمل الكثير، لكننا ارتكبنا الخطأ المعاكس المتمثل في عمل القليل جداً».
ثم في أبريل 2015 أعرب بلينكن عن دعمه للتدخل بقيادة السعودية في اليمن. وقال: «كجزء من هذا الجهد، قمنا بتسريع تسليم الأسلحة، وزدنا تبادل المعلومات الاستخباراتية، وأنشأنا خلية تخطيط تنسيق مشتركة في مركز العمليات السعودي». ومع أن البعض اعتبر تعيينه مؤشراً إلى أن بايدن يريد العودة إلى سياسات أميركية مألوفة يسهل توقُّعها، يجدر القول إن تلك السياسات تعرضت للانتقاد حتى من الديمقراطيين أنفسهم، الذين أعلنوا أن التراجع عن سياسات الرئيس دونالد ترمب، وإن كانت هدفاً رئيسياً، فإن فوزه عام 2016 أجبرهم على التشكيك بصواب معتقداتهم السابقة.
من جهة ثانية، في كل مسألة رئيسية تتعلق بالسياسة الخارجية، من الإرهاب والاتفاق النووي مع إيران والمناخ والأوبئة والتجارة والصين، يكرر بلينكن القول: «على الولايات المتحدة أن تعمل مع حلفائها، وضمن المعاهدات والمنظمات الدولية». ويرى أن القيادة الأميركية في المؤسسات متعددة الأطراف ضرورية «فالمشاركة بل والقيادة الأميركية ضرورية أكثر من ذي قبل».
- أميركا... اللاعب الدولي
بلينكن كان جزءاً من الفريق الذي ساعد في التفاوض على «اتفاق باريس للمناخ» و«الاتفاق النووي الإيراني»، و«الشراكة عبر المحيط الهادئ»، التي كانت جزءاً من محور استراتيجي في آسيا، وكلها تراجع ترمب عنها. إلا أنه في مقابلة قبل الانتخابات، قال إن فوز بايدن «يرسل هزة إيجابية قوية عبر النظام الدولي بأن أميركا عادت. ولكن بعد ذلك عليك التصرّف بناءً على ذلك». وأضاف أن ترمب تسبب في توتر التحالفات العالمية، وعزل الولايات المتحدة في كثير من الأحيان على الساحة العالمية، بطريقة ستختبر قدرة إدارة بايدن على تحديد نهجها الدبلوماسي.
على صعيد آخر، السنوات التي أمضاها بلينكن في باريس مكّنته من إتقان اللغة الفرنسية وتعزيز إيمانه بعلاقات التواصل مع أوروبا، وهو بالفعل من أشدّ المؤمنين بالتحالف عبر الأطلسي. وهو يعتبر أوروبا «شريكاً حيوياً» ويعارض خطط إدارة ترمب سحب القوات الأميركية من ألمانيا، واصفاً إياه «بالخاسر الاستراتيجي لأنه يضعف حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ويساعد فلاديمير بوتين، ويضرّ بألمانيا أهم حليف لنا في أوروبا». كذلك نقل عن بلينكن قوله: «إن المعضلة المركزية هي أن العالم الآن يتطلب عملاً جماعياً أكثر وليس أقل. ومع ذلك، فإن القومية المتصاعدة تقوّض الإيمان بالحكومات والمؤسسات المتعثرة، وتجعل التعاون الدولي الذي نحتاج إليه أصعب من أي وقت مضى».
هي إذا عناوين قد لا تختلف كثيراً عن التقديرات التي كانت، ولا تزال، تشير إلى أن موقع الولايات المتحدة ودورها في العالم قد تعرّضا للاهتزاز. وهو ما يتطلب منها جهداً وتعاوناً مع حلفائها وأصدقائها لإعادة بناء هذا الموقع على أسس تأخذ في الاعتبار المتغيرات الدولية، على قاعدة احترام أسس الديمقراطية الغربية. وهنا يقول عدد من المسؤولين المقربين من بايدن إن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، التي تدهورت إلى أدنى مستوياتها التاريخية خلال فترة ترمب، لا يمكن إعادة ضبطها بسهولة. ويتوقع هؤلاء أن يواصل بايدن (على الأرجح) مواجهة الصين، كما فعل ترمب في مجالات مثل الأمن وتكنولوجيا الجيل الخامس، لكنه سيسعى أيضاً إلى التعاون في الأمور الحاسمة مثل منع الانتشار النووي وتغيّر المناخ.
هنا يقول بلينكن: «الإدارة ستأخذ وقتها في اكتشاف الصين، وسنحتاج للتمهل لإعادة تركيز أنفسنا في موقع قوة يمكننا من التعامل مع الصين وفقاً لشروطنا بدلاً من شروطهم». ويضيف: «بكل المقاييس الرئيسية، موقف الصين الآن أقوى وموقفنا أضعف. هذا نتيجة قيادة ترمب، التي ساعدت أفعاله في دعم معظم استراتيجية الصين الهادفة إلى إضعاف التحالفات الأميركية وسحب أميركا من العالم وترك فراغ تملأه الصين... وهذا ما أعطاها (أي الصين) الضوء الأخضر للدوس على حقوق الإنسان والديمقراطية من سنكيانغ إلى هونغ كونغ».
- تركيا وإيران وقضايا أخرى
يعتبر بلينكن تركيا حليفاً في «الناتو» يتوجب على الولايات المتحدة «إيجاد طرق للعمل معها بشكل أكثر فاعلية». وسبق له أن أيّد دعم واشنطن لأنقرة في حربها ضد حزب العمال الكردستاني. وفي 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قال لصحيفة «جويش انسايدر» إن إدارة بايدن ستواصل «العقوبات غير النووية ضد إيران»، كتحوّط قوي ضد سوء السلوك الإيراني في مجالات أخرى. وحول إسرائيل، قال في 17 يونيو (حزيران) الماضي إن بايدن «لن يربط المساعدة العسكرية لإسرائيل بأشياء مثل الضم أو قرارات أخرى للحكومة الإسرائيلية قد لا نتفق معها»، مشيداً باتفاقات التطبيع التي توسّطت فيها إدارة ترمب بين إسرائيل والإمارات العربية والبحرين والسودان. وفي 19 نوفمبر الحالي، أعرب بلينكن عن قلقه إزاء التقارير المتعلقة بتصعيد التوترات العرقية في إقليم تيغراي الإثيوبي، وحث على حل سلمي للنزاع فيها. ورأى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «فوضى تامة».
مع ذلك، أشار بلينكن وآخرون إلى أن عصر التدخل الأميركي ربما يتلاشى. وبينما رفض بشدة فلسفة ترمب التي يختصرها شعار «أميركا أولاً»، لا يزال كثيرون في مؤسسة السياسة الخارجية يتصارعون مع ما سيأتي بعد ذلك. إذ قال بلينكن في مقال مشترك كتبه العام الماضي مع روبرت كايغان (من معهد بروكينغز): «الحقيقة أنه مهما كان التسامح الذي أبداه معظم الأميركيين تجاه الدور العالمي الذي تبنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه بدأ يتلاشى مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وما حطمته الحروب في العراق وأفغانستان والأزمة المالية لعام 2008». وأردف: «مَن سيفوز بالمنصب في 2020 سيجد صعوبة في مخالفة هذا الشعار الذي سبق ترمب، والذي يُرجح أن يستمر». وهو مثل بايدن، يعتقد أن الأولوية الأولى هي إعادة ترتيب البيت الأميركي. وقال شخص مطلع على تفكيره، إن أحد الأشياء الأساسية التي تعلمها بلينكن خلال عهد ترمب، هو أن الجماعات الخارجية لديها القدرة على التأثير بشكل أكبر على السياسة الخارجية.
أنتوني بلينكن... ابن عائلة مهنتها السياسة وتعرف دروب واشنطن
شعار «أميركا أولاً» قد ينجو رغم اعتراضه عليه
أنتوني بلينكن... ابن عائلة مهنتها السياسة وتعرف دروب واشنطن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة